الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجديد الثقافة الوطنية و معركة التحرر من التبعية

ثائر دوري

2006 / 10 / 27
المجتمع المدني


يخلق الاجتياح الغربي ، و الكولونيالية بكافة أشكالها السياسية ، و الاقتصادية ، و العسكرية ، أوضاعاً جديدة تماماً ، فتكتسب الظواهر القديمة سياقات جديدة غير معروفة من قبل،و ربما تكون مفاجئة ، و بالتالي يجب دراسة الظواهر داخل التجربة الكولونيالية بدقة قبل إبداء رأي قاطع حولها .
خذ مثلاً قصة الصحافيين في العراق ، فقد اعتاد الرأي العام العالمي على اعتبار الصحفي صوت الحق و الحقيقة ، و يصوره على أنه الشخص الذي يركب المخاطر و يغامر بحياته من أجل أداء رسالة إنسانية ، لذلك عندما يقتل صحفي تهتز الدنيا ، و يدان مرتكب ذلك العمل أشد إدانة .كما تنشر منظمات حقوق الإنسان كل عام أعداد الصحافيين القتلى في العالم و تعتبر ذلك العدد مشعراً أساسيا لحال الحريات في العالم ،لكن الاجتياح الكولونيالي للعراق حمل الصحافيين إلى وضعية جديدة لم يعرفها البشر من قبل ، و هي وضعية الصحفي المرافق للقوات ( ( Embeded ، و هو صحفي يرافق القوات الأمريكية ، فيأكل و يشرب مع الجنود ، و ينام معهم في كيس نوم واحد ،و يركب دباباتهم و همراتهم ، و بالتالي فهذا الصحفي يرى العالم كما يراه جندي المارينز ، و قد حدث في مرات عديدة أن تعرضت دبابات المحتل و همراته لكمائن المقاومة ، فقتل و أصيب بعض الصحافيين المرافقين للمارينز . فهل يمكن اعتبار هذا الحدث فجيعة للحرية و تكميماً لأفواه الصحافة و الصحافيين ! هل يستحق مقتل صحفي كهذا الصحفي إدانة من المنظمات الدولية ! هل يمكن مساواة هذا الصحفي بالصحفي الذي قتلته القوات الأمريكية و هو يؤدي واجبه بشكل محايد بعيداً عن سيطرة المارينز ؟
أولئك الذين يبسطون الكون و لا يحللون كل ظاهرة على حدا سيجيبون : نعم ، و سيقولون أنه من حيث المبدأ ، هذا صحفي و ذاك صحفي ، و يتعاملون مع الحالتين بالتساوي . أما الحقائق على الأرض فتشير إلى أن الصحفي "المدفون مع القوات" قد صار جزءا من الآلة العسكرية ، و بالتالي صار من الإعلام الحربي للمحتل ، و من ثم فحكمه حكم الجندي الغازي .
لذلك يجب دراسة كل ظاهرة انطلاقا من وظيفتها داخل الحالة الاستعمارية ، و تحليل الدور الذي تؤديه ، لا أن ندرسها بشكل نظري مجرد و نسارع لإطلاق أحكام قيمة .

أثناء توصيف فرانز فانون لحال الثقافة الوطنية تحت الاستعمار توصل إلى نتائج بالغة الأهمية قد تكون مفاجئة للبعض . يقول :
(( نرى البلدان المستعمرة تحيط مجالها الثقافي بأسيجة و أوتاد . و هذا النوع البدائي من الدفاع عن النفس يشبه منعكسات غريزة البقاء في كثير من الوجوه )).
فرد فعل الجماهير تجاه الهجوم الضاري الذي تتعرض له ثقافتها القومية من قبل المحتل ، يكون تمسكاً مبالغاً به بالعادات و التقاليد و هذا يثير حنق المستعمر . يقول فانون :
(( فالمستعمر يرى في الاستمرار على الأشكال الثقافية التي يستنكرها مظهراً قومياً عليه أن يحاربه )) .
و نتيجة هذا الهجوم الضاري من المستعمر لا يحصل تجديد للثقافة القومية أو للعلاقات داخلها ، و إنما مجرد انكماش للحفاظ على النواة . لكن هذا الموات الظاهري ، الذي يشبه ما تفعله في الطبيعة بعض الكائنات الحية ، حيث تتكيس ، أو تدخل في سبات في الظروف الطبيعية الصعبة ، فتبدو و كأنها فاقدة الحياة . لكن هذا الموات الظاهري لا يلبث أن يضج بالحياة مع أول طلقة مقاومة ، فمع اندلاع شرارة الثورة على الأوضاع التي جمد المحتل البلد فيها تنشأ آداب جديدة من رواية و شعر و مسرح ، وحتى الثقافة الشفوية تصيبها رياح التجديد . لقد عادت الحياة تدب في الجسد ، فإذا بالثورة و قد أحيت الأرض بعد مواتها .
و يربط فرانز فانون التجديد في المجال الثقافي و الفكري حصراً باندلاع الثورة ، بل هو يعتبر إن محاولة التجديد و الشعب قابع تحت السيطرة الاستعمارية خطأ فادح . يقول :
(( إن أحد الأخطاء الفادحة ، التي يصعب الدفاع عنها أن نحاول تحقيق تجديدات ثقافية ، و أن نحاول رد الاعتبار و القيمة إلى الثقافة الوطنية و نحن ما نزال في ظل السيطرة الاستعمارية . و إني لأنتهي من هذا إلى تقدير نتيجة قد تبدو غريبة مفارقة هي : أن أقوى دفاع و إجدى دفاع عن الثقافة القومية إنما يكون بالأخذ بالعقيدة القومية و لو في أبسط أشكالها و في أكثر أشكالها بدائية و فجاجة ))
و يخلص فانون أخيراً إلى قانونه ، و هو : إن التحرير القومي و انبعاث الدولة شرط لوجود الثقافة . فيقول :
(( ليست الأمة فقط الشرط اللازم لقيام الثقافة و ازدهارها و تجددها المتصل و عمقها ، فهي أيضا حاجة و ضرورة . إن الكفاح الذي تخوضه الأمة هو الذي يطلق الثقافة من عقالها و يفتح لها أبواب الإبداع ، كما أن الأمة في مرحلة ثانية ، هي التي توفر للثقافة ظروف نمائها و إطار تعبيرها . )) .
فالشعوب تولد ثقافيا و حضاريا أثناء صراعها مع عدوها . يقول :
(( إننا نعتقد أن الكفاح المنظم الواعي الذي يخوضه شعب من الشعوب لاسترداد سيادة الأمة هو أكمل مظهر ثقافي ممكن . ليس نجاح الكفاح وحده هو الذي يهب للثقافة قيمة و صدقاً و قوة ، بل إن معارك الكفاح نفسها تنمي ، في أثناء انطلاقتها ، مختلف الاتجاهات الثقافية و تخلق اتجاهات ثقافية جديدة ، فالكفاح لا ينيم الثقافة أثناء اندفاعه . و كفاح التحرير لا يرد إلى الثقافة الوطنية قيمها القديمة و أطرها القديمة ، و لا يملك ما دام يهدف إلى إعادة تنظيم العلاقات بين البشر إلا أن يبدل الأشكال و المضامين الثقافية للشعب . إن التحرير لا يزيل الاستعمار فحسب ، بل يزيل المستعمر ( بالفتح ) أيضاً .)).

إن التجديد الديني لا يتم في الغرف المغلقة ، أو بوصفات مؤسسة راند ، و إنما يتم أثناء الكفاح للخلاص من التبعية الثقافية و الاقتصادية و العسكرية ، أثناء الكفاح للتحرر من الكولونيالية . و إن امتلاك ناصية التكنلوجيا و العلم و تجديد علاقات المجتمع سواء الأسرية أم السلطوية ، و علاقات الحاكم بالمحكوم لا يتم عبر الاستسلام التام للعدو ، كما يقترح ياسين الحاج صالح في مقال (( في مديح الخيانة ))، و إنما يتم من خلال نزع السيطرة الاستعمارية ، سواء كانت مباشرة ، كما هو حال العراق و فلسطين و أفغانستان ، أم غير مباشرة كما هو حال بقية العالم الثالث .
و أما هذا الخوف المبالغ به من المقاومة و من الأشكال الخشنة التي تأخذها ، فهو ينم على عدم فهم لآليات الصراع و لا للواقع في ظل السيطرة الغربية ، فالاجتياح الغربي الماحق جعل البشر في كافة أرجاء المعمورة تحتمي بنويات ثقافتها ، فتقيم الأسيجة و تمنع الغرباء من الاقتراب ، لأنها تريد أن تحافظ على الرشيم من الضياع بعد أن سلبها الغازي الغربي كل شيء و تركها عارية لا تملك سوى هذه النويات التي تحتوي أبسط أشكال للهوية .
و إن هذه الأشكال مهما بدت بدائية أو متخلفة أو خشنة أو عنيفة ، فهي الوحيدة التي تفتح أفق المستقبل ، لأنها تحافظ على هوية و ثقافة الأمة ، و من هذه الرشيمات البسيطة البدائية ستنتش نبتة الثقافة القومية عندما يمتلك المجتمع لحظته التاريخية و يبدأ عملية تحرره و إزالة التبعية بأشكالها كافة : سياسية ، اقتصادية ، و عسكرية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفوض الأونروا: إسرائيل رفضت دخولي لغزة للمرة الثانية خلال أس


.. أخبار الساعة | غضب واحتجاجات في تونس بسبب تدفق المهاجرين على




.. الوضع الا?نساني في رفح.. مخاوف متجددة ولا آمل في الحل


.. غزة.. ماذا بعد؟| القادة العسكريون يراكمون الضغوط على نتنياهو




.. احتجاجات متنافسة في الجامعات الأميركية..طلاب مؤيدون لفلسطين