الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حفريات في مصطلح الثقافة (مقاربة إيتيمولوجيَّة)

عبد الرحمن نعسان
باحث في الدراسات النقدية والثقافية

(Abdalrahman Nassan)

2023 / 5 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إذا كان ثمّة من إجماع ما على مصطلح (الثقافة)، فإنّه إجماعٌ على صعوبة تحديدها، إذْ ليس من المستغرب في هذا السياق أنْ يفتتحَ ريموند وليامز حديثه عن مصطلح الثقافة بالقول: "هذه كلمة من اثنتين أو ثلاث كلمات هي الأعقد في اللغة الإنجليزية، يرجع ذلك جزئياً إلى تطورها في التاريخ الشائك في عدّة لغات أوربية، لكن السبب الرئيسي هو أنها أصبحت تستعمل لمفاهيم هامة في مجالات ثقافية عديدة، ونُظم معرفيَّة مختلفة"(1). فتعمّق المصطلح وتشعّبه ليس وليد التشكُّل الاصطلاحيّ الحديث فحسب، بل هو أيضاً نتاجٌ لتشكلاته المفهومية المُتراكِمة والمتعدِّدة التي تعكس حركية المصطلح في دلالته المعجمية والاصطلاحية، وهي تعكس من جهة أخرى حركيَّة المجتمع والثقافة الحاضنين له، ولو عدنا إلى الدلالة المعجمية لكلمة (الثقافة)، فسوف تطالعنا عشرات التعريفات، في حين لو عدنا إلى التحديد الاصطلاحي، فسوف تواجهنا مئات التعريفات بحيث يمكن القول: "لقد أصبحت هذه الكلمة ضحية النجاح الذي حظيت به"(2).
إزاء هذا السياق المركب يسعى البحث إلى الحفر في تاريخية مصطلح الثقافة ليبين التراكم المعرفي الغني للمصطلح في أبعاده البنائية والدلالية والفكريَّة، وهو تراكم يعكس حركية المصطلح معرفياً وتاريخياً. ويرصد ثلاث تحولات رئيسة في المصطلح:
1- من الدلالة المعجمية المادية إلى الدلالة الأنسيَّة الأخلاقيَّة.
2- من التركيب إلى الإفراد (استقلال المصطلح تركيبياً وتداخله دلالياً مع مصطلح الحضارة).
3- من الجمع إلى الإفراد مجدداً (الثقافة بين البوتقة الهوياتية الصاهرة والتعدد الثقافي).
1- في الأصل الاشتقاقي (الثقافة بدلالتها المادية الأولى):
قد يبدو أنَّ الأصل الاشتقاقيّ لكلمة الثقافة في كلٍّ من اللغة العربيّة والإنكليزية بعيدٌ بعض الشيء عن الدلالة الاصطلاحية، لكننا لو دقّقنا في التأسيس المعجمي للمصطلح لتبين لنا أنَّه ينطوي على صلة ذات دلالة مهمّة ستكون مرتكزاً تحديداً في مَفْهَمة المفهوم والاشتغال عليه، إذ يحيلنا المعجم العربيُّ أنَّ أصل الكلمة يعود إلى جذر (ثقف)، وهو يشير إلى المعاني الآتيّة: الحذق والتحصيل والتقويم (المادي)، ومن ذلك ما ورد في معجم لسان العرب: ثقِفَ الشيء: حَذَقَه. ورجل ثَقْفٌ: حاذِقٌ فَهِم(...) والثِّقاف: أداة من خشب أو حديد تثقَّف بها الرماح لتستوي وتعتدل، ومنه ثقّف الشيء: أقام المعوَجَّ منه وسوّاه(3). إنَّ معنى (الثقافة) كما هو واضحٌ في المعجم العربي يحيلنا إلى: الحذق، والذكاء، وسرعة الفهم، فالثقافة من هذه الناحية خصلة عقلية، وليست مفهوماً مجرّداً، وهي تعني أيضاً التقويم والتسوية الخاصة بالرمح والعود، ولم يعثر على ما يفيد امتداد هذا المعنى (تثقيف الرمح) إلى الفكر أو الذهن، فالكلمة التي كانت مستعملة في هذا الشأن هي (التأديب)، كما أنَّ (الأدب) كان يضمُّ ما نعنيه اليوم بالثقافة(*)، فضلاً عن معناه السلوكي والأخلاقي. ومنه (المُؤدِّب) بمعنى المُربِّي والمُعلِّم، كل ذلك يدلُّ على أن كلمة (ثقافة) لم تكن في أصلها العربي مصطلحاً لشيء من الأشياء الفكرية، ولا مفهوماً يتمتّع بقوة المفهوم، أي بدلالة معينة محددة، عامة ومجردة (**). ومن هنا يتأكد ذلك الرأي القائل: إن كلمة (ثقافة) في الاستعمال العربي الحديث اُشتقَّتْ للدلالة على المعنى المجازي لكلمة Culture)). وهو اشتقاق موفق –كما يرى محمد عابد الجابري ويشاطره في ذلك آخرون- خصوصاً إذا لاحظنا ذلك التقارب بين المعنى الأصليِّ لكلمة الحذق والتسوية، والمعنى الجديد الذي صيغت للدلالة عليه(4).
ولو عدنا إلى المعجم الإنكليزي الذي منه اكْتُسِبَ المصطلح العربي دلالته الاصطلاحية، فإنَّ كلمة الثقافة تحيلنا في دلالتها الأُولى من حيث الأقدميَّة إلى معنى النمو والرعاية (Growing/Breeding) (5)، إن هذا المعنى الذي يبدو بعيداً عن الدلالة الاصطلاحية يعود بنا من الناحية الإيتمولوجية إلى الأصل اللاتيني للكلمة وهي (Cultura) و(Colere)، إذ كان للكلمة الأخيرة عدد من المعاني: (يسكن)، (يهذب)، (يحمي)، (يقدّر) لدرجة العبادة، وقد اكتسبت الكلمة معنى أساسياً ضمن المعاني السابقة وهو (الحراثة أو الرعاية أو العناية)، وهي بذلك تحيلنا على النشاط البشري في العمل في الزراعة والحراثة والحصاد، ومنه كانت في الإنكليزيّة كلمة (Agriculture) على صلة وثيقة إيتمولوجياً بكلمة الثقافة (Culture).
2- من الدلالة المادية إلى الدلالة الأنسيَّة (عصر النهضة والدلالة الأخلاقية والتربوية):
مع أوائل القرن السادس عشر وبالتزامن مع عصر النهضة والحركة الأنسنيّة توسّع مفهوم العناية بالنمو الطبيعي ليشمل عملية النمو والرعاية الإنسانية، فانتقلنا من الحقل الدلالي الدال على النشاط الزراعي إلى الحقل الدلالي المرتبط بالإنسان من الناحية الفكريّة والأخلاقيّة، ومن هذا المَنْحَى كتب توماس مور (To the culture and profit of their minds / لرعاية عقولهم وفائدتها)، وفرنسيس بيكون (The culture and manurance of minds/ رعاية العقول وإخصابها) ويشير (هوبز) في السياق الدلالي ذاته (A culture of their minds / رعاية عقولهم) (6). ثمة تحولان دلاليان حاسمان إذاً مع القرن السادس عشر، وهما: الانتقال من الدلالة المادية (الزراعة والحراثة) إلى الدلالة المجازية (الرعاية والتربية الإنسانية)، ثمّ توسيع عمليات مادية معينة إلى عمليات فكريّة عامة، فانتقلت الرعاية من الأرض إلى العقول. والملاحظ في هذا المستوى أنَّ كلمة Culture لم تأتِ مستقلةً أو كعمليةٍ مجرّدةٍ، وإنَّما أُضِيفَتْ إلى كلمةٍ أُخرى، فليس المفهوم هنا قائم بذاته (ثقافة من حيث هي ثقافة)، وإنما أُضيف إلى كلمة أخرى، فخُصّصت معناه، من قبيل (تثقيف العقول).
3- من التركيب إلى الإفراد (استقلال المصطلح تركيبياً وتداخله دلالياً مع مصطلح الحضارة):
ومع حركة التنوير الأوربي في القرن الثامن عشر وصعود الثورة الفرنسية اكتسب مفهوم الثقافة بُعداً جديداً تمثّل بالانتقال من صيغة الإضافة المركّبة إلى صيغة الإفراد، وقد أصبحَتْ كلمة الثقافة بذلك لصيقةً بكلمةِ الحضارة (Civilization)، وقد أضافت (اللغة الفرنسية) من هذا المنحى لكلمة الثقافة دلالة "عبّرت عن التكوين الفكري عموماً وعن التقدُّم الفكري للشخص خاصة وعما يتطلبه ذلك من عمل وما ينتج عنه من تطبيقات"(7). فالثقافة هنا تحيلنا إلى "المفهوم المجرد لعملية صيرورة الإنسان متحضراً (Civilized) أو مهذباً (Cultivated)" (8). فالحضارة والثقافة مصطلحان يشيران إلى السلوك الحميد والأخلاق، فأن يكون المرء متحضراً يعني من بين أمور أخرى ألا يبصق على السجادة وأيضاً ألا يقطع رأس أسير في الحرب(9). ومن الملاحظ في هذا المستوى الدلالي أن الثقافة المرادفة لمصطلح الحضارة تشير إلى حكم وصفي، ولكنه أيضاً معياري، وهي تحيلنا من جهة أخرى إلى اسم مجرد مفرد يُهمّش تنوع الثقافات والشعوب بنزعة كونيّة قائمة على التمركز الغربي، فمعيار الحضارة والثقافة ملازم لمعايير الثقافة الغربيّة، وعليها تُقاس سلوكيات الشعوب الأخرى وثقافتها.
من الإفراد إلى الجمع (الثقافة والدولة-الأمة):
وفي القرن التاسع عشر اُستعيرت كلمة الثقافة وتهجيتها إلى اللغة الألمانية (Kulture)، فقد أضافت الألمانية للكلمة تطوراً دلالياً حاسماً بدأت معه "تنحرف عن كونها مرادفاً للحضارة على الطريق لتصبح المعنى النقيض، وهذا حدث نادر في التحول الدلالي (السيمانطيقي) وهو تحول له دلالة وصفية ومعيارية جزئية"(10 ). إنّ هذا التحول يفهم من حيث نزع صيغة الإفراد عن الثقافة أي نزع المعيارية الكونية عنها، فهي ليست بصيغة المفرد وإنما بصيغة الجمع، فلسنا أمام ثقافة واحدة، وإنما ثقافات متعددة بتعدد الشعوب. إنَّ هذا التغير الدلالي يعود استعماله إلى (هيردر) الذي هاجم فرضية التواريخ الشاملة، ورأى أنه من الضروري التحدث عن ثقافات (Cultures) بصيغة الجمع: ثقافات معينة ومتغيرة لأمم وفترات مختلفة (11)، تجدر الإشارة إلى أن هذا التحول المفهومي هو جزءٌ من سياق فلسفي أعم، فهو يفهم في سياق النقد الذي وجّهته الفلسفة الألمانية لعقلانية فلسفة التنوير، إذ انتقلت بنقدها من العقل المجرد إلى العقل التاريخي، وعليه يُبنَى نقد (هيردر) للتاريخ العقلاني الذي دأبت فلسفة الأنوار على تدوينه، وبه حكمت على الحقب السالفة من وجهة نظرها ومعاييرها الذاتية، لذا كانت مطالبة هيردر أن ينتقل المؤرخ بذهنه إلى وسط الثقافة التي يدرسها عوضاً عن أن يترجم كلام تلك الثقافة إلى منطق زمانه، فانتقل مناط الحقيقة من العقل المجرد إلى التاريخ المشخص(12 ). وبهذه النقلة أُسِّسَ التحول الدلالي للثقافة من الإفراد إلى الجمع بافتراض تعدد الثقافات وتنوعها.
وبعد ارتحال مصطلح الثقافة من الفرنسية (عصر التنوير) إلى الألمانية (الفلسفة المثالية) يعود مصطلح الثقافة إلى الإنكليزية حاملاً التحولات الدلالية ليعبّر عن طريقة حياة شعب ما "Way of life"( 12)، وعليه يتأسس التعريف الأنثروبولوجي الشهير لـ (إدوارد تايلور): "هي ذلك الكل المركَّب الذي يتضمن المعرفة، والمعتقد، والفن، والأخلاق، والقانون، والعادات، وأي قدرات أو عادات يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع"( 13)، لعلّ نقاط قوة هذا التعريف تحمل في الوقت ذاته نقاط ضعفه، ومن ثمّ ضرورة تجاوزه، وتكمن أهمية هذا التعريف في تأكيده الجانب الكلي والمركب لأي ثقافة من حيث إنها تشكّل وحدة مترابطة ومتماسكة، فالمكونات المادية مثل المسكن والملبس ترتبط بالعناصر غير المادية مثل المعتقدات والتقاليد، وعلى أساس تلك العبارة نظر الباحثون إلى الثقافة على أنَّها نظامٌ كليٌّ مُتصلٌ ومتعدِّدٌ( 14). وبالتزامن مع التعريف الموسَّع للثقافة، جرى تخصيص المصطلح، إذ جرى تعريف الثقافة ليصف أعمالاً وممارسات متعلقة بالنشاط الفكري والفني، حيث يحيلنا هذا التحديد إلى الثقافة الرفيعة من قبيل الموسيقى، الأدب، النحت، المسرح، والسينما، وهي في مجملها تحيل إلى عملية التطور الثقافي والروحي والجمالي، والمثقف في هذا المعنى هو من نال حظّاً من هذه المعارف والآداب(15 ).
4- من الجمع إلى الإفراد مجدداً (الثقافة بين البوتقة الهوياتية الصاهرة والتعدد الثقافي):
ولو عدنا إلى التعريف الموسَّع لتايلور وسلّمنا أنَّ نقاط ضعفه تكمن في نقاط قوته، فإن النقد الذي يوجّهُ إليه يكمن في الكلية المركبة التي يُبنَى عليها، إذْ ليس المجتمع وحدةً متكاملةً لكي يصحَّ القول: إننا أمام ثقافة كلية مركبة متكاملة، فلمَّا كان المجتمع يحمل بالضرورة انقساماته وصراعاته (الطبقية، السياسية، العِرقية، الجندرية...)، فإنَّ الثقافة لن تكون موحدةً لتعبِّرَ عن تلك الشمولية المفترضة، من هذا المنحى ستتبلور ملامح جديدة للمصطلح، إذ ننتقل من الثقافة بوصفها كلية مميزة لجماعة ما إلى ثقافات فرعية تنطوي داخل كليات متصارعة، فينفتح بذلك المفهوم صوب العلاقات اللامتكافئة في المجتمع، فلم تعد الثقافة تعبيراً عن روح الأمة أو الشعب وفقاً للمثالية الألمانية، بل هي تعبيرٌ عن القوى اللامتكافئة داخل المجتمع.
فإذا كان تعريف تايلور للثقافة أنّها الكلية المركبة التي تجمع عناصر المجتمع، فإنَّ الثقافة في هذا المستوى الدلالي "ليست مجرد حزمة من أنماط السلوك المحسوسة، كما هو التصور العام، كما أنها ليست العادات والتقاليد والأعراف، ولكنَّ الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي الذي يتبناه (غيرتز) هي آليات الهيمنة، من خطط وقوانين وتعليمات، كالطبخة الجاهزة، التي تشبه ما يسمى بالرامج في علم الحاسوب، ومهمتها هي التحكم بالسلوك"( 16). فمثلما أن الثقافة في دلالتها المعجمية العربية الأولى هي عملية صقل الرمح وتقويمه، فإن الثقافة في دلالتها الاصطلاحية هي عملية تهذيب وتشذيب، وهي عملية ضبط وتحكم في إنتاج (الذات) الاجتماعية. وبهذا المنحى قد نُزِع عن الثقافة طابعها المثالي، فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من علاقات القوى والهيمنة، فلكي نفهم أو نؤول ثقافة ما علينا أن نفهم ونؤول علاقات القوة والهيمنة فيها، وفي سياق ذلك يتحوّل "مفهوم الثقافة إلى مفهوم تعدّدي لن يتلاءَم في سهولة ويسر مع الحفاظ على شحنته الإيجابية"(17 ).
إنَّ حضور مصطلح الثقافة ضمن علاقات القوى والهيمنة وإنْ كان يعود في أساسه للتفسير الماركسي (المادية التاريخية)، بيد أنَّ المعنى الصراعي للثقافة تبنّته الاتجاهات الما بعد حداثيّة (Post-modernity)، مع نقل مركزيّة الصراع الثقافي من الجوهر الطبقي الاجتماعي صوب علاقات أخرى متشعبة ومتفرعة، إذ أكدوا أن الاهتمام والاحتفاء بأساليب الحياة في صورتها الكلية هو تهميش للحياة، لذا توجّه اهتمامهم صوب المنشقين أو الأقليات، ونراهم بذلك يشددون النكير حين تتعلّق الثقافة بالأكثرية، فكان توجههم صوب سياسات الهوية وما يرتبط بها من قضية الأقليات بدلاً من المسائل الكبرى التي كانت تشغل الثقافة مثل: (القومية أو الصراع الطبقي) ( 18).
ولو عدنا إلى اللحظة التأسيسية لمشروع الدراسات الثقافية الحامل المعرفي والاجتماعي للتأويلية في منعطفها الثقافي، فسوف يطالعنا مدخلان منهجيان يمكن توظيفهما في ضبط المستوى الدلالي للمفهوم ومن ثم ربطه بالمستوى التأويلي، إذ يمكن القول إنَّ نشأة الدراسات الثقافية ذات أصل مزدوج، فهي من جهة وليدة البنيوية في منحاها السيميائي (علم العلامات)، وهي من جهة أخرى وليدة النظرية الأدبية الماركسية في بريطانيا (معهد برمنجهام)، فمن الناحية الأولى يتأسّس مفهوم (الثقافة) على أرضية التحليل السيميائي بوصفه سلسلة من الممارسات الدلالية ذات الأبعاد المركبة، ولعلّ كتاب رولان بارت (أسطوريات) 1957 أحد الأمثلة المبكرة على ذلك، إذ يتناول فيه الأهمية الأسطورية أو ما يمكن تسميته بالمدلولات الثقافية لعدد من ظواهر الحياة اليومية، وذلك من مثل (المصارعة الاحترافية ،الإعلان عن السيارات، ومواد التنظيف، الرقصات...)، وقد كان غرضه من هذا التأويل هو أخذ العالم الواقعي إلى العالم الدلالي بهدف نزع التعمية عما يتبدّى في الثقافة طبيعياً أي إظهار البِنى الأيديولوجية المضمرة داخل الأنظمة السيميائية للثقافة( 19). فمفهوم الثقافة من هذا المنحى هو مفهوم رمزي (سيميائي)، فالإنسان "حيوان عالق في شبكات رمزية، نسجها بنفسه حول نفسه" (20) ومن هذا السياق تؤكِّد الأنثروبولوجيا الرمزيَّة أنَّ تحليل الثقافة "يجب أن لا يكون علماً تجريبياً يبحث عن قانون، بل علماً تأويلياً يبحث عن معنى"(21 )، بحيث تنحو المقاربة الثقافيَّة صوب الدراسة النصوصيَّة للثقافة أي دراسة "الأنساق الثقافية من واقع النصوص أو الوثائق المحفوظة"( 22). وعليه يمكن القول: إنَّ الثقافة هي عبارة عن نصٍّ كليٍّ مُركَّبٍ وذلك بالنظر إلى الثقافة على أنَّها نظامٌ رمزيٌّ، فيمكن تأويلها عبر علاماتها ومعانيها المُحمّلة بالرموز.
وإذا كان المستوى التأسيسيّ الأوّل قد قرّب مفهوم الثقافة من النصيّة وأنظمة التشفير، فإنَّ المستوى الثاني الماركسي (معهد برمنجهام) انطلق من مفهوم الثقافة صوب البِنى الاجتماعيَّة والعلاقات اللامتكافئة فيما بينها وذلك من منظور الماركسي ينطلق من الصراع الطبقي أساساً له في تفسير النتاج الثقافي. وإن بدا أنَّ نشأة الدراسات الثقافية ذات أصل مزدوج، بيد أنَّ هذه النشأة تؤكِّد الطبيعة المركّبة للثقافة وللتأويل والمقاربة الثقافيّة، فالثقافة هي نظامٌ سيميائيٌّ ونتاجٌ للعلاقات الاجتماعية اللامتكافئة، ومن هذه المنظورية يؤكِّد وليامز ضرورة الجمع بين المستويين بهدف " أن يتصلا دائما (...) بدلاً من أن يتضادا"( 23). فالبِنى الاجتماعية تتخذ من البِنى الثقافية تعبيراً ومجالاً لها، فينتقل الواقعي إلى الدلالي، إضافة إلى أن الدلالي هو تعبير فاعل ومنفعل في الواقعي (طبقي، جنوسي، عرقي، استعماري...)، فالثقافة من هذا المنحى المفهوميّ هي "نظام من علاقات القوة والمعنى الذي ينعقد بين الجماعات أو الطبقات"(25 )، وعليه يكون فحص علاقات القوى الاجتماعية وتأويلها جزءاً لا يتجزَّأ من النظام السيميائيّ للثقافة. وعلى الأرضية المفهوميّة المشتركة بين مصطلحي الثقافة والتأويل يتنزّل التأويل الثقافي بوصفه مصطلحاً مركّباً، فهو تعبيرٌ عن تحوّل مفهومي مزدوج لكل من مصطلحي (التأويل) و(الثقافة)، ومعه تُطرَح تساؤلات جديدة صوب مقاربة النصوص والخطابات تعي المنظورية المركَّبة للخطابات الثقافية بوصفها جزءاً من علاقات القوى والهيمنة الاجتماعية، وعلى إثر ذلك دخلت مفاهيم فكرية ونقدية عدّة حيز المساءلة والمراجعة النقدية، وذلك على أرضية وعي الثقافة بأبعادها التصارعية التجادلية المركبة.
(1)ريموند، وليمز، الكلمات المفاتيح، (ترجمة نعيمان عثمان، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2007)، ص:94.
(2)الطاهر لبيب، سوسيولوجية الثقافة، (اللاذقية: دار الحوار، 1987)، ص:6.
(3 )ينظر: ابن منظور، لسان العرب، (بيروت: دار صادر، 1996)، ص: 492.
(*) للمزيد حول مفهوم الأدب في الحضارة الإسلامية ينظر: محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي (جيل مسكويه والتوحيدي)، (بيروت: دار الساقي 1997)، ص: 154،239،343.
(**) لعلَّ ذلك يعود لاعتبارات منهجية ومعرفية، فعدم تبلور العلوم الاجتماعية والإنسانيّة في إطار الثقافة الإسلامية كان سبباً في عدم انتقال المفهوم من المستوى المعجمي إلى المستوى الاصطلاحي، فالمفهوم كما سنرى وليد العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية، لذا غياب المستوى الاصطلاحي مرتبط بالنظام المعرفي وتطوره الذي نشأ في إثره المفهوم، فحركية المفهوم -كما ذهبنا سابقاً- هي جزء من حركية المجتمع والثقافة.
(4)ينظر: محمد عابد الجابري، مفهوم الثقافة وقاموس الخطاب العربي المعاصر، (الإمارات: مجلة الاتحاد الإماراتية الإلكترونيّة، 2007).
(5) Joanna Turnbull, Oxford Advanced Learner s Dictionary, (Oxford University Press, edition 8 2015), P:370.
(6)ينظر: ريموند وليمز، الكلمات المفاتيح، ص:94-95.
(7)الطاهر، لبيب سوسيولوجية الثقافة، ص:6.
(8)ريموند وليمز، الكلمات المفاتيح، ص:96.
(9)ينظر: تيري إيجلتون، فكرة الثقافة، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2005)، ص:22.
(10)المرجع السابق، ص:23.
(11 )ريموند وليمز، الكلمات المفاتيح، ص:96.
( 12)ينظر: العروي، عبد الله. مفهوم الأيديولوجيا. ص:32-33.
( 13) Oxford Advanced Learner s Dictionary. P:370.
( 14)شارولوت سيمور سميث، موسوعة علم الإنسان (المفاهيم والمصطلحات الأنثروبولوجية). ص:245.
(15 )زكي الميلاد، المسألة الثقافية (من أجل بناء نظرية في الثقافة)، (بيروت: المركز الثقافي العربي. 2010)، ص:139-138.
(16 )ريموند وليمز، الكلمات المفاتيح، ص:97/98.
( 17)عبد الله الغذامي، النقد الثقافي (قراءة في الأنساق الثقافية العربية)، (دار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة 8، 2008)، ص: 74.
(18 )تيري إيجلتون، فكرة الثقافة، ص:30.
( 19)المرجع السابق. ص:29.
(20)ينظر: كالر، جوناثان. النظريّة الأدبيّة. ص:56-57.
( 21)غيرتز، كليفورد. تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص: 82.
(22) المرجع السابق، ص:82.
(23)سميث، شارولوت سيمور. موسوعة علم الإنسان (المفاهيم والمصطلحات الأنثروبولوجيّة). ص:517-518.
(24 )وليمز، ريموند. الكلمات المفاتيح. ص:98.
(25) بورديو، بيير. العنف الرمزي (بحث في أصول علم الاجتماع التربوي). ترجمة: نظير جاهل. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1994، ص:5.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو