الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأدب الوجيز تحت المجهر

عبد اللطيف بن سالم

2023 / 5 / 10
الادب والفن


عفوا: أنا لا أستطيع أن أكون موجزا في حديثي عن الأدب الوجيز لأن للإيجاز مجازا
وأنا ليس لي الآن بعدُ هذا المزاجُ .
تمهيد :
" ضعف في الأول وضعف في الأخير"
الإيجاز كانت به البداية في الفكر وفي الأدب ممثلة في الكلمة وهل هناك أكثر إيجازا من الكلمة هكذا منفردة ؟ غير أن هذه الكلمة في الفكر المسيحي كانت إشارة إلى كل ما في هذا الكون من موجد وموجود و يستشهدون على ذلك بما جاء في الإنجيل من قوله "" في البدء كانت الكلمة ، الكلمة كانت مع الله ، الله كان الكلمة ""ولعل المقصود هنا هو التقاء الموجود بموجده في وحدة أبدية يطلقون عليها " الكلمة " ( إشارة إلى الحلولية عندهم ) وبالتالي تكون الكلمة بمثابة البحر الذي تسبح فيه كل الموجودات بما فيها نحن وكل الكلمات الدالة عليها ولعلها هي التي أوحت إلى باروخ سبينوزا لاحقا بفكرة " الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة أو الوجود ذاتا وموضوعا والتي أوحت إلى جان بول سارتر لاحقا بفكرة الوجود في ذاته والوجود لذاته .
ويمكن مقاربة هذه الوضعية للكلمة في حال توزعها وانتشارها في العالم كله في مختلف الثقافات وفي مختلف الرؤى بوضعية ذلك الجزيء المادي الذي بدأ به العالم كله في العملية المعروفة ب " بقبن " هذا الجزيء الذي يقال عنه أنه كان يعاني من انضغاط في الطاقة حتي انفجر وكان منه هذا العالم بكل ما فيه ومن فيه وبكل هذه الطبيعة التي بواسطتها نستمتع نحن الكائنات الحية هكذا بالحياة في رحلة عمرية محدودة وهكذا يمكن القول عن " الكلمة " أيضا بأنها كانت تعاني من انضغاط في الطاقة ثم انفجرت لتتسبب لنا في هذه البحار المتلاطمة من الكلمات التي لا نعرف بالضبط كيف بدأت ولا هي ستنتهي يوما أو لا تنتهي أبدا .
خصائص الأدب الوجير:
تظهر خصائص هذا الجنس الأدبي في ما يُعرف عادة في علم البلاغة ب :
- أن يكون الكلام على قدر المعنى لا يزيد عنه ولا ينقص.
- وأن يكون التعبير ما قل ودل .
- وإن اللبيب بالإشارة يفهم
- ولا إطالة فيه ولا إطناب ...

ظهور الأدب الوجيز:
يبدو أن ظهور هذا الأدب قد كان مع بداية عهدنا باكتساب اللغة حيث لم يكن البشر بصفة عامة والعرب منهم بالخصوص قادرين على كثرة الكلام إذ لم يكن لهم منه الزاد الكبير ولم تكن لهم من المعرفة أيضا الشيء الكثير فما كان باستطاعتهم إذن في ذلك الوقت لا السباحة ولا الإبحار في محيط الكلمة إلا بقر قليل وكانت ضعيفة جدا حتى وسائل الصيد فيه وقد أدت هذه الوضعية إلى هروب بعض الجماعات وبعض " الإتنيات " إلى الصمت إلى درجة اعتباره أمرا مقدسا لكي لا يُشعروا أنفسهم بالعجز عن الحصول على الكلمة المناسبة للتواصل مع بعضهم بعض ، واستمر هذا الحال ردحا من الزمن حتى تمكن الناس من كثير من التطور في الحياة العامة وفي جميع المجالات المعرفية وصارت تتوفر لهم الكلمات والمصطلحات بزيادة الحركة في المحيط و توفر العلم والمعرفة وهكذا صار الإنسان يتوسع تدريجيا في دائرة كلامه إلى أن صار يفاخر بنفسه عندما يطيل في خطابه أو في مقاله ويُطنب فيه وهكذا صار لنا كتّاب وشعراء ومفكرون يشُعّون بآدابهم وبأفكارهم في مختلف أرجاء العالم وما كانت لتحدث ثورات وتغيرات في حياة الناس إلى الأفضل لولا تواجد هؤلاء بينهم ومساعداتهم المتواصلة لهم على التطور .
وهكذا كان على المفكرين والأدباء والروائيين والمؤرخين والمفسرين للكتب المقدسة التنافسُ الكبير على إنجاز أضخم الكتب وأنفعها للبشرية في اعتبارهم من مثل الموسوعات العديدة في الغرب الأوروبي ولسان العرب في الشمال الإفريقي والتفاسير الضخمة في المشرق العربي وأيضا في تونس العاصمة إثر انتشار العرب فيها في زمن لاحق وهذا دليل على انتشار الثقافة في العالم كله على نطاق واسع وتضخم الزاد المعرفي للإنسان من الكلم .
وللملاحظة فإن آثار هذه الوضعية المتوسطية من المعرفة الأدبية والفكرية المتضخمة في نفوس الناس والتي تأبى إلا أن تغيض فتفيض لا تزال تظهر اليوم متوارثة لدى الكثير من المثقفين الذين لم يتحرّروا بعدُ منها فنجد البعض منهم في الخطب مثلا أو المحاضرات يُطنبون والبعض منهم حتى في حواراتهم مع غيرهم لا يتوقفون عن الاستبداد بالكلمة حتى يمل منهم الحاضرون أحيانا وينفضوا من حولهم لأنهم لا يجدون في ذلك احتراما لهم
أما اليوم وقد تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال الاجتماعية وكثرت وتنوعت الاختصاصات العلمية وتعددت نماذجها لم يعد للأدب الصّرف والفكر الخالص نفس المكانة التي كانت لهما في الماضي إذ يكادان ينسحبان من الساحة الثقافية أمام زحف العلوم والتكنولوجيات الحديثة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس ( من المثقفين بالطبع ).

وهنا تظهر إشكالية الأدب الوجيز وضرورة التساؤل لماذا حدث اليوم الاهتمام به من جديد ؟
المعروف أن الأدب في مفهومه العام هو طريقة خاصة قي استعمال اللغة في شكلها الأنيق أي باختيار كلماتها المناسبة لاستعمالها في الجمل المناسبة أيضا وذلك في المواقف المناسبة أيضا وبالتالي فالأدب هو سلوك أخلاقي في جملته وما الشعر بأنواعه والومضة والمقولة والحكمة إلا أنواع من الأدب الوجيز الذي نعتز به ماضيا وحاضرا فما الداعي ترى إلى الاهتمام به اليوم وكأنما هو أدب جديد ؟
للإجابة عن هذا التساؤل الآن لابد من النظر في خصوصيات هذه المرحلة التي يعيش فيها العرب راهنا وما جد فيها من التغيرات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى المناخية ما صار له تأثير كبير وواضح على العقلية الأدبية والثقافية بصفة عامة إذ قد دخلنا منذ مدة في مواجهة صعبة مع التكنولوجيات الحديثة ومخاطرها الجمة وتأثيراتها البليغة على سلوكيات الناس وتصرفاتهم ما خلق في نفوس الناس إحساسا بتسارع وتيرة الحركة في حياتهم وتراكم الاهتمامات على عقولهم ما جعلهم يلجأون إلى الاقتصاد في كل شيء حتى في المأكل والمشرب ربحا للوقت الذي صار قليلا جدا بحيث لا يكفي لإتمام المشاوير كلها التي صارت كثيرة وهكذا ولمسايرة هذا الإيقاع الجديد المتسارع في الحياة المعاصرة ظهرت الأكلة السريعة فلماذا لا تظهر أيضا في سلوكنا الأدبي هذا الجنس الأدبي الموجز تما شيا مع تسارع نبض الشارع والتخلص تدريجيا من الأدب المضخم أحيانا دون ضرورة والفوضوي أحيانا دون حاجة ملحة والمتخم أحيانا دون جمالية؟ لماذا لا نلجأ إذن إلى أدب وجيز يكون أنيقا وبليغا في الآن ذاته ؟
وللملاحظة فإن الأساتذة الذي كانوا مشاركين في الحديث عن الأدب الوجيز في الملتقى الدولي الذي التأم أخيرا في نزل سوسانة بسوسة التونسية أيام 25 و26 من مارس آذار من هذا العام 2023 ما كانوا في مداخلاتهم موجزين وكأنهم كانوا يدافعون عن موضوع ما كانوا به مؤمنين أو أنهم ما زالوا على عهدهم بأدبهم القديم من حيث لا يشعرون أو أن عامل الوراثة كان أقوى فاعلية في نفوسهم من عامل الرغبة في القديم الجديد .
يقال في الفلسفة أحيانا " إن الكلام يُخفي ما نريد قوله فعلا " وهذا دليل على ما فد تحمله بعضُ الكلمات من طاقات عجيبة وغريبة ما يجعل بإمكان المرء أن يقول كثيرا في تعبير قصير مخفيا الكثير مما يريد قوله فعلا عن قصد أو عن غير قصد في أغلب الأحيان معتمدا على نباهة المتلقي عادة في إدراك المقصد دون استعمال من الكلمات الكثير ويظهر لنا مثل هذا الفعل في الأمثال الشعبية بالخصوص وفي الأمثال العربية عامة تلك التي تشير في العادة إلى حكمة معتبرة أو شأن معيّن في كلمات قليلة يكون لها تأثيرها البليغ على المتلقين فيحتفظوا بها في الذاكرة لاستعمالها عند الحاجة .
وللملاحظة أيضا أن الكلام أي كلام قصيرا كان أو طويلا لا يصدر عن لا شيء بل إن هناك في رأينا تعبيرية وراء كل تعبير أي أن هناك خارج النفس ما يوحي لنا بالكلام الكثير أو القليل أي كلام وبما أننا في الواقع لسنا أحرار دائما في ما نقول نرانا نلجأ غالبا إلى الإيجاز ما استطعنا إلى ذلك سبيلا وذلك لنشرك معنا المتلقي في التحليق بحثا عن المعنى ورصد المقصد في قليل من الكلم وفي قليل من الجهد وفي قليل من الزمن في عصر ضاق فيه الزمن وإن طال فيه العمر .

ألم تلاحظوا:ب
أن الإنسان القديم كان يعيش طويلا ولوفي عمر قصير فكان عليه أن ينفس عن نفسه أحيانا بالكلام الكثير والإطناب في الخطب
أما إنسان اليوم فقد صار يعيش قصيرا ولو في عمر طويل فكان عليه أن يوجز ما استطاع في كلامه ويقصر في خطبه اقتصادا في وقته القليل ؟
تُرى لماذا هذه المفارقة العجيبة والغريبة ؟
لأن الإنسان القديم كان محكوما فقط بالانتخاب الطبيعي
فكان يستمتع بزمانه كله
وإنسان اليوم قد صار محكوما بالعلاجات والأدوية
إلى جانب اهتماماته العديدة المتراكمة عليه من كل جانب
من حيث يدري ومن حيث لا يدري
فلا ينتبه كثيرا لزمانه المعيش ويستمتع به.

ومن هناك وهنا كان الأدب الطويل والأدب الوجيز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل