الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التبادل التاريخي بين مصر وإيجبت (6)‏

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2023 / 5 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


نكمل معاً حكاية الكتاب الذي قام بتأليفه كاهن مؤرخ صهيوني عربي وانتحل ‏اسم أسقف قبطي وضعه على غلاف الكتاب ليدس سمومه في عقل الشعب متخفياً تحت اسم ‏مثقف من أبناء وطنهم، وهو في هذا الكتاب الخدعة يقوم بنقل تاريخ قرية مصرايم اليمنية ‏وتلبيسه لإيجبت باعتباره تاريخها الوطني.... يكمل (المؤلف) على لسان يوحنا قائلاً: وكان ‏هناك رجل مصري عطوف راضِ بالتعب حكيم محب للصالحات اسمه شنوفي وترجمته بشارة ‏‏(1) ، وكان هذا الرجل يهتم كثيراً ببناء المدن والقرى وفلح الحقول حتى شيد جميع قرى ‏مصر في زمن وجيز وجدد مصر وجعلها كما كانت قبل. وكان هناك رخاء عظيم في أيامه ‏وكثر المصريون جداً وكثرت حيواناتهم كذلك، وحكمهم ثمانية وأربعين عاماً في سرور ‏وسلام، وذلك لعودة أسرى المصريين مرة ثانية، ومات في إكبار. وقبل أن يموت أحصى ‏المصريين وكان عددهم 500,000 ألف نسمة (2) ... وبعد موت شنوفي ظل المصريون دون ملك ‏زمناً طويلاً (3)، بيد أنهم أدوا الضرائب لفارس وللآشوريين جميعاً (4) وعاشوا في سلام حتى ‏ولوا عليهم فرعوناً آخر ملكاً. وأدوا له الضرائب ..." ‏

وهذه الفقرة تأتي تصديق تاريخي على النص التوراتي ، فقد هجم عليهم البابليين ‏وأخذوا منهم ما يقارب الخمسين ألف سبايا، خمسين ألف من عشيرة المصريين وخمسين ألف ‏من عشيرة إسرائيل، وتحررت كلتا المجموعتان على يد الملك الفارسي قورش بعدما اكتسح ‏الإمبراطورية البابلية التي كانوا مُستعبدين فيها.. وملاحظاتنا على هذا النص كالتالي:‏
‏1-‏ اسم بشارة: هذا الاسم كما هو واضح تم تصحيفه ، حتى أن الكاتب قد أوضح أن ترجمته بشارة ، وهي كلمة ‏عربية واضحة ، بينما الشخص نفسه لا وجود له تاريخياً كما يوضح المترجم د. عمر صابر، وبالتأكيد هذا الشخص ‏حكم مصرايم بعد العودة من السبي البابلي إنما لم يحكم إيجبت بلاد القبط .‏

‏2-‏ ذكر المؤلف أن عدد المصريين وصل إلى 500.000 نسمة : ومن الواضح جداً أن هذا الخبر يقصد عشيرة ‏المصرايمين الذين وقع أغلبهم في السبي البابلي مع بني إسرائيل وكانوا رفقاء في السبي، وبعد عودتهم جميعاً عمّر اليهود ‏مملكتهم أورشليم أو يهوذا، وعمّر المصرايمين مملكتهم أيضاً وتزايدت أعدادهم حتى وصلت نصف مليون (قرية ‏مركزية وحولها مجموعة نجوع) وهذا من المتصور لممالك الجزيرة العربية، بينما هو مستحيل تصوره في إيجبت بلاد ‏القبط ، حتى أن المؤرخ اليهودي يوسيفوس ذكر عرضاً أن عدد القبط في القرن الثالث ق.م كان ((سبعة ونصف مليون)) ‏في تاريخ موازي لمصرايم التي كان أقصى تعداد سكاني لها نصف مليون بعد مبالغة اليهود.‏

‏3-‏ ذكر المؤلف أنه بعد موت شنوفي ظل المصريون دون ملك زمناً طويلاً ، و هذا مستحيل تصوره، لأن مملكة ‏القبط إيجبت لا يمكن أن تعيش لحظة بدون ملك حاكم، بل إنه منذ أن وحد الملك مينا القطرين سنة 3400 ق.م ‏استمر الحكم بالتداول وكانت إمبراطورية عظمى ولها نظام إداري ضخم ومؤسسات ووزراء وموظفين وأمراء ، حتى في ‏أضعف حقبها تحت الاحتلال كان لها ذات النظام الإداري المعقد جداً بمنظور ممالك العرب، وحتى في فترات الاحتلال ‏كان هناك حاكم أجنبي وحاكم إداري جبتي لأن الأجانب لا يستطيعون السيطرة على البلاد وتنظيمها إدارياً، ‏فكيف يتصور أن تعيش بدون حاكم وتدفع الجزية لفارس؟ إلا إذا كان الكلام عن مصرايم العربية فهذا ممكن ‏تصوره.‏

‏4-‏ ‏- يذكر المؤلف أن القبط أدوا الضرائب لفارس وللآشوريين جميعاً؛ و هنا يتضح أمر التلفيق الذي قام به المؤلف، بين إيجبت ‏ومصرايم، وبين قمبيز ونبوخذ نصر، وبين البابليين والآشوريين، حيث تم الخلط والخض والعجن، إذ أن البابليين احتلوا ‏الجزيرة العربية ومصرايم ولم يدخلوا إيجبت إطلاقاً، بل الفرس حرروا سبي اليهود وسبي المصرايمين من بابل عندما ‏اكتسحوها ودمروها، فكيف يقول أن الجبتيين كانوا يدفعون الجزية لبابل وآشور معاً !! غير أنه لم يكن هناك ‏اجتياح بابلي ولا فارسي لإيجبت إنما الاجتياح كان متعاصراً لممالك اليهود ومصرايم العربية الواقعة في ذات النطاق ‏الجغرافي، ولم يكن بينهم توحد في النطاق الجغرافي بل توحد المعتدي عليهم والمحرر لهم في ذات التوقيت ، وكل هذا ‏لا علاقة له بالأقباط، وما كان يوحنا يخطئ في خلط كل هذه الأحداث دون سبب بل لأن المؤلف يريد نقل تاريخ ‏القرية العربية الجنوبية إلى دولة عظمى خارج الجزيرة.‏

ومُجمل هذا يوضح لنا أن اليهود عند الإعداد لمشروع الترجمة السبعونية نقلوا تاريخ ‏مصرايم إلى إيجبت، وكان أمامهم مقترحان يفاضلان بينهما، وهو أن يضعوا اسم منف بدلاً من ‏مصرايم العربية وتنطبق بذلك معالم مصرايم على منف وحدها حيث أن كلاهما يعبر ‏شرقيه نهر، ومن السهل إطلاق لقب مدينة مصر أو مصرايم على مدينة منف وترويج ذلك في ‏كتب التاريخ التي يؤلفونها خصيصاً لهذا الغرض، وكان هذا مقترحاً جيداً ومقبولاً، بينما ‏المقترح الثاني كان استبدال مسمى مصرايم بـ"إيجبت " البلد كلها، لكن ذلك كان صعب ‏تطبيقه في الواقع ، وكان الممكن فقط تطبيقه نظرياً في كتب التوراة، أي أن يتم حذف ‏مصرايم بالكلية ووضع إيجبت في الكتب ويتم تطبيع قناعات اليهود على أن قصة موسى ‏وفرعون كانت في إيجبت دون أي ذكر لمصرايم.. وهذا المقترح هو الذي تم اعتماده في مشروع ‏الترجمة. ‏

ومع ذلك بقي أثر للمقترح الآخر في الواقع هو إمكانية إطلاق مسمى مصر على مدينة ‏منف واستبداله بحيث تصبح منف هي مسرح الأحداث ومحورها وليس إيجبت كلها، ولذلك ‏انتشرت أقاصيص وحكايات حول مدينة منف متعلقة بيوسف الصديق وكانت معظمها ‏على المستوى الشعبي، أي كادت أن تنقلب منف إلى مصر ويصبح بذلك المقترحين قائمين طول ‏الوقت وأيهما انهار يحل محله الآخر أو يدعمه، ولذلك أول ما دخل العرب بالقرآن ناطقاً باسم ‏‏"مصر" دون أي ذكر لإيجبت، انطلق المقترح الثاني على منف وتم سريعاً تعديل اسمها إلى ‏‏"مدينة مصر" تماشياً مع القرآن، وتوسع الأمر وتمدد الاسم لتصبح مدينة مصر هي كل إيجبت ‏ولا تحل محلها حتى لا يحل القرآن محل التوراة إنما تبقى التوراة ناطقة بـ "إيجبت" وهو الاسم ‏الأصلي المعروف في العالم كله حتى الآن والقرآن ناطقاً بـ"مصر" وصار هذا الاسم المحلي ‏المعروف في الشرق العربي، وبذلك يكون اليهود قد استفادوا من المقترحين القديمين معاً ‏ووظفوا القرآن والتوراة معاً لاحتلال وطننا !!‏

‏... الغريب أن (المؤلف) يحكي عن باديسنيوس الذي وصفه بأنه أحمق وقد غرق بأفراسه ‏وفرسانه في البحر الأحمر ثم ينتقل مباشرة ودون فاصل للحديث عن كورش الفارسي (خلال ‏فترة السبي) وكان بنو إسرائيل بينهم نبي اسمه دانيال، يتحدث (المؤلف) وكأن كورش دخل ‏منف ذاتها وأخذ منها بني إسرائيل والجبتيين معاً في زمرة واحدة! ويحكي عن الأحداث في ‏مصرايم والسبي البابلي الذي حدث بالتزامن وكأن كل ذلك وقع في منف ! ... كان يكتب ‏تاريخ اليهود ليس باسم مصرايم وأورشليم وإنما إيجبت، وحتى التاريخ العربي واكتساح ‏نبوخذ نصر لمنطقة جنوب غرب الجزيرة العربية عندما أخذ منها خمسين ألف سبايا إلى ‏بلاده وتركها خراباً ثم أعادهم بعد خمسين أو أربعين عاماً(حادثة السبي البابلي لليهود) (تاريخ ‏مصر ليوحنا النقيوسي - ص 72) .. ‏

ونبوخذ نصر اكتسح الجزيرة العربية عام 605 ق.م، لكن (المؤلف) يقول أن قمبيز غير ‏اسمه وتسمى بـ" نبوخذ نصر" (تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي - ص 66) . برغم أن قمبيز فارسي ونبوخذ ‏نصر بابلي! (وما بينهما مائة عام ! حكم إيجبت خلالها ملوك الأسرة السادسة والعشرين ، ‏وهذا ما أكده هيرودوت ، ولم يذكر أي شيء عن هذا السبي البابلي للقبط ! برغم أنه وصف ‏أحوالهم بدقة متناهية، وقال أن المرأة الجبتية تتمتع بوضع إنساني مرموق وتمارس نشاطات ‏اقتصادية إلى جانب الرجل مثل حياكة الملابس..). وفي ذات الصفحة نجد (المؤلف) يقول:" ‏وكذلك كان أبريا ملك مصر وكان يقيم في مدينة طيبة ومنف ومدينتي: موهيب ‏وسوفيرو".‏

وهنا نلاحظ بجلاء مدى التلفيق التاريخي الذي قدمه اليهود طعاماً لأبناء إيجبت، فـ كل ‏أسماء هذه القرى عربية خالصة ( منف وطيبة و موهيب و وسفيرو ) لا علاقة لها ‏بالهيروغليفية إطلاقاً، لكن المؤلف نقل الأحداث التاريخية بأسماءها الجغرافية كي ‏تنسجم عملية التطبيع مع باقي المراجع التاريخية الأخرى فلا ينكشف تزويره ، وقمبيز لم ‏يغير اسمه إطلاقاً، إنما كان قمبيز فارسي جاء في فترة تاريخية لاحقة بعد سقوط الدولة ‏البالية أي بعد نبوخذ نصر والفارق بينهما سبعين عاماً، والفرس لم يظهروا إلا بعد دمار الدولة ‏البابلية واكتساحها وتحرير اليهود والمصرايمين منها، لكن اليهود أرادوا نقل أعمال نبوخذ ‏نصر البابلي إلى قمبيز الفارسي، ونقلوا اسم حاكم مصرايم "أبريا " العربي وقت هجوم نبوخذ ‏نصر عليها، فأصبح حاكم إيجبت، بينما أبريا العربي هذا كان حاكم مصرايم ويقيم في ‏موهيب وسوفيرو، فعادة ما يتنقل الحكام من مكان لآخر وقت الهجوم لإعادة ترتيب القوة، ‏ومسمى" موهيب" واضح من لفظه أنه عربي، فهذا الاسم معروف في منطقة جنوب غرب ‏الجزيرة، لكن اليهود قاموا بتزوير التاريخ ووضع أسماء حكام مصرايم مكان حكام ‏إيجبت ووضع مقرات العواصم الأربعة للطرفين مجتمعة (مدينتي طيبة ومنف ومدينتي: ‏موهيب وسوفيرو" ! وكذلك جعلوا الجبتيين يدفعون جزية للبابليين والآشوريين معاً !! أي ‏دمج المعتدين ودمج الضحايا !! فاليهود عملوا مجزرة لكتب التاريخ وليس لأسفار التوراة ‏فقط.‏

بينما نجد (المؤلف) (ينقل عن كتب اليهود) ذات الوقائع وفي ذات المكان وذات المدينة ‏ولكن يغير اسم ملوك القبط بأسماء عربية، فيقول في صفحة 70:" أما الآشوريين فقد ‏حاصروا القصر وفتحوه ليلاً، وأسقطوا مدينة منف العظيمة ، وكان أحد ملوك مصر، ‏واسمه موزاب، أرسل سراً إلى ابنه واسمه إلكاد ليأتي بالمال الذي كان له ولجميع حكامه ‏وللأربعين سيدة اللاتي كن زوجات قمبيز وهو نبوخذ نصر.." . ‏
ويعلق المترجم د. عمر صابر على ذلك في الهامش رقم (2) بقوله:" لم استطع التعرف على ‏اسم هذا الملك وابنه (موزاب وابنه إلكاد) "... وبالفعل لم يستطع التعرف على أسماء الملك وابنه ‏لأنهم ليسوا أقباط وإنما عرب آراميين خلفاء فرعون موسى وهم حكام مصرايم ومنف القرية ‏العربية التي حملت اسمها أعظم عواصم العالم القديم في إيجبت، ‏

‏-.. ونظراً لأن المترجم عالم لغويات وليس مؤرخ، فلم يدرك هو أو أي من المترجمين السابقين عليه ‏بالفرنسية والإنجليزية أن (المؤلف) في هذه المخطوطة كان ينقل من كتب اليهود أسماء أشخاص ‏عربية وأحداث دارت على أرض عربية جنوب غرب الجزيرة، وقام اليهود بغرسها في الثقافة الجبتية، ‏وكان ذلك تزامناً مع الترجمة السبعونية للتوراة في عهد البطالمة ولذلك لا نجد إلا أسماء مطعمة ‏بنكهة إغريقية (اوس-‏os‏) على اعتبار أنها لغة البلد والحاكم في هذا العصر أو أسماء عربية آرامية ‏غير موجودة في بلادنا، وفي كل الأحوال لا نجد أبداً اسم ينتمي إلى جذر لغوي هيروغليفي، وجاء ‏‏(المؤلف) ليقرأ فقرأ غير ما هو مدون على جدران المعابد والأهرامات، قرأ بالطبع مدونات اليهود التي ‏صارت ملء المكتبات وفي كل مكان، ودمج بين تاريخ اليهود ومصرايم العربية وبين تاريخ القبط، ‏وهذا ما أحدث ارتباكاً في حركة التأريخ لدى مؤرخي العصور الوسطى، وحدث معه ارتباك شديد ‏في الوعي الجمعي. ‏

وبرغم أن الدكتور عمر ليس مؤرخاً ومع ذلك فقد أدرك بوضوح جانباً من الفراغ أثار استغراباً بداخله، فيقول في ‏مقدمته :" إذا كان النص الذي في متناول أيدينا مشوباً بالاختصار المخل بالمعنى نتيجة لعبث المترجم الحبشي، ‏فإن ذلك لا يمنع من استنتاج أن الجزء الأسطوري الخاص بالتاريخ المصري القديم يتفق كثيراً مع ما ورد في ‏مصادر التاريخ اللاحقة (ابن البطريق- ساويرس ابن المقفع - غابيوس المنبجي - ابن عبد الحكم - الطبري - المقريزي ‏وغيرهم) وهو ما يوضح بأن ثمة تراثاً عن هذه الفترة كان متداولاً في إيجبت بشكلٍ ما ، وكان هذا التراث هو ‏المصدر الذي استقى منه كل هؤلاء المؤرخين مادته في الكتابة عن هذه الفترة الموغلة في القدم من فترات ‏التاريخ المصري. (ص 39 ) .. هذا التراث الغريب الذي يتحدث عنه الدكتور عمر هو البذور الثقافية التي غرسها ‏اليهود بعد الترجمة السبعونية للتوراة وضمن مشروع صهينة العالم بالكامل، حيث سيطروا على مكتبة ‏الإسكندرية وخنقوها إلى أن أحرقوها وأحرقوا علومها وتاريخها وحلوا محلها بتراث الدس اليهودي هذا.. إنما ‏ليس من المنطق أبداً القول بأن الأقباط انتقلوا من مكتبة الإسكندرية وعلومها العامرة فجأة إلى عصر من ‏الأساطير ! فقد استمر أثر مكتبة الإسكندرية إلى العصر المسيحي وحتى عصر العالمة هيباتيا التي عملت ‏بالرياضة والفلك والفلسفة، وكان والدها فيلسوفاً وأستاذا .. كان ذلك في القرن الرابع ميلادي ، فهل نتصور ‏انتقال حركة التاريخ فجأة من هذا التطور العلمي إلى مستوى الخرافات والأساطير! ‏

في الواقع كان مشروع اليهود يقوم على طمس التاريخ الجبتي وإحلاله بالتاريخ المصرايمي، لكن الأقباط لم ‏يقتنعوا بهذا التاريخ الخرافي المصرايمي حتى جاء عصر الاحتلال العربي وبدأت أولى مراحل التأليف العربي هي ‏التي هضمت هذه الخرافات اليهودية وجعلتها تاريخاً لإيجبت، فلا نجد أي أثر قبطي قبل ذلك يتبنى مثل هذه ‏الخرافات، سوى بعض المصادر التاريخية التي نقلت عن التوراة السبعونية المزورة ونقلت من مؤرخين يهود مثل ‏يوسيفوس وكان ذلك كله بعد تمام مشروع الترجمة، إنما قبل ذلك مستحيل نجد أثر لهذا التاريخ الخرافي لا ‏في مصادر قبطية ولا يونانية ولا رومانية، بينما هذا التاريخ الخرافي الأسطوري تبناه فقط العصر العربي مثل ‏‏(المقريزي وابن عبد الحكم واليعقوبي وابن البطريق وغيرهم.. لأن هذه الأسماء انتحلها اليهود وعملوا تحتها ‏الكثير من المؤلفات، ما يعني لنا بيقين أن كل التراث العربي الإسلامي ما هو إلا تأليف صهيوني سار عليه العرب ‏خطوة بخطوة لأن العرب عقلية أدبية حكائية وليست عقلية علمية.. أما قبل ذلك فلم يظهر أي أثر فعلي ‏للتأليف اليهودي في إيجبت سوى الجبتانا التي احتوت كلمة واحدة فقط هي (جبتو مصرايم ) .‏

في الواقع إن مخطوطة يوحنا النقيوسي تكشف لغزاً كبيراً عن التزوير الذي أدخله اليهود ، وتثبت أنه لا وجود ‏لليهود إطلاقاً في بلاد وادي النيل، إنما هم أجهدوا أنفسهم بتأليف الكتب ووضع توقيعات مزيفة عليها، لكن بعدما ‏جاء الإسلام وكشف الكثير من جوانب حياة بني إسرائيل اضطروا للتراجع نسبياً وسحب المسميات اليونانية التي ‏فضحها القرآن العربي، ثم بعدما بدأت قراءة جداريات المعابد في القرن التاسع عشر شعروا أنهم وقعوا في أزمة تاريخية ‏إذ لم يعد أمامهم سوى البحث عن جذر لكلمة فرعو أو برعا وجذر لكلمة مصرو أو مصر ... إن هؤلاء لصوص ‏التاريخ والأوطان.. غرسوا مراسلات تل العمارنة التي تتحدث عن تاريخهم في مصرايم وجنوب غرب الجزيرة العربية، ‏نقلوها إلى بلادنا كي نصبح نحن على يقين بأنها تمثل بلادنا !! لأن الآثار والجداريات أصبحت هي المصدر المعتمد ‏للتاريخ، ولم تعد التوراة معتمدة كما كان في السابق باعتبارها كتاب مقدس بل صارت مدعاة لسخرية الباحثين ‏‏..‏

ويضيف (المؤلف) فرعون آخر في صفحة 74 يقول:" وعندما علم سكطانافوس وهو آخر ‏الفراعين من السحرة العظام.." ويوضح المترجم بالاستناد إلى الترجمة الفرنسية أنه نقل ‏خاطئ عن الكلمة العربية نكظاناقوس، ويقول أنه ورد لدى سعيد ابن بطريق أن اسمه ‏شاناق (انظر الهامش رقم 1 ص 74 " تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي - رؤية قبطية للفتح الإسلامي" من ترجمة د. عمر ‏صابر عبد الجليل) ، ولكن بعدما تم تلبيس تاريخ مصرايم لـ منف، جاء الفراعين هؤلاء موزاب ‏وإلكاد وغيرهم ليصبحوا بفعل اليهود ملوكاً لإيجبت بدلاً من أحموس الثاني وأبسماتك ‏الثالث!... ‏

ثم يقول (المؤلف):" وحين عرف إلكاد بموت أبيه هرب إلى بلاد النوبة ... وفي الحال جمع ‏جيوشاً كثيرة من الحبشة والنوبة وحارب جيوش قمبيز شرقي نهر جيحون..."( تاريخ مصر ‏ليوحنا النقيوسي -- ص 71) بينما الحقيقة أن إلكاد بعدما علم بموت أبيه موزاب في مصرايم هرب ‏إلى قرية النوبة باليمن حيث تسكنها عشيرة كوش وجمع منها جيشاً (مجموعة صعاليق ‏جبلية) وحاول التصدي لجيوش بختنصر شرقي نهر جيحون على حدود اليمن والسعودية... ‏والمشكلة الكبرى أن كعب الأحبار كان معاصراً لـ(المؤلف) وكان يحكي للعرب الجهلاء ‏عن نهر جيحون هذا باعتباره نهر الخمر في الجنة وأن نهر النيل هو نهر العسل ! فلم يكن ‏كعب قد قرأ مخطوطة يوحنا ولم يعرف أن زميله قال للقبط أن نهر جيحون هو نهر مصر ‏العظيم يعني المقصود نهر النيل المار بمحاذاة منف- مصرايم. وكل هذا الارتباك لأن اليهود خلعوا ‏الخريطة والجغرافيا من جنوب الجزيرة ولم يستطيعوا تركيبها بإحكام في إيجبت..‏

كان (المؤلف) يحكي هذا التاريخ بلسان يوحنا النيقوسي باعتباره حدث في بلادنا ‏إيجبت، وكان سرد من حملة قمبيز وحملة نبوخذ نصر على مصرايم جنوب غرب الجزيرة، ‏فكان يقول أن نبوخذ نصر أخذ من القبط خمسين ألف سبايا وأعادهم بعد خمسين عاماً !! ‏لهذه الدرجة تجرأ اليهود أن يجعلوا الجبتيين يتحدثون عن اليهود وكأنهم يتحدثون عن ‏أنفسهم ! فالجبتيون في هذا الوقت كانوا على قناعة بأن السبي البابلي حدث للأقباط أنفسهم، ‏ولم يدركوا أن هناك مصرايمين وقعوا في السبي مع اليهود ! وذلك بعدما أشربهم اليهود تاريخ ‏مصرايم العربية القديمة وأقنعوهم بأنهم هم سكان مصرايم!! فقد كانت التوراة في هذا ‏الوقت هي "أم الكتاب" وقد هرب العقل والحكمة من رؤوس الأقباط وتفرغوا للتعبد ‏والخلاوي والرهبنة، ولم يمارسوا السياسة بقدر ما مارسوا الرهبنة والدروشة وعاشوا في ‏غيبوبة عقلية، وأصبح العلم هو علم الكهنوت، ومصدره العتيق أسفار التوراة، حتى أننا ‏نجد المؤرخين والكهنة ينهلون الكثير والكثير من نصوص التوراة ظناً منهم أنهم يتحدثون ‏عن تاريخ إيجبت (لم يدركوا أن هناك فرق بين التاريخ والدين) كان العلم في نظرهم هو ‏الدين وما تحمله كتب الدين من معلومات تاريخية فكانت أصدق في نظرهم من أي مصدر ‏آخر يعتمد على العقل والعلم، وقد استغل اليهود حالة الانبطاح العقلي والاضمحلال ‏الحضاري هذه التي يعيشها الجبتيون وقاموا بغرس نفاياتهم الثقافية العربية حتى القاع...‏

إلى هنا ولم يعد لدينا شك في أن مؤلف الجبتانا يهودي الهوية من خلال الدلائل التي ‏قدمناها سابقاً، وإن كان من الصعب على الباحث استخدام ذات الأدوات للاستدلال على هوية ‏مؤلف (تاريخ مصر والعالم) نظراً لأن هذا الكتاب جاء في فترة انتشرت فيها الديانات الثلاث، ‏وكان الشخص الممهور الكتاب باسمه وتوقيعه (يوحنا النقيوسي) مسيحي الديانة، ما يعني ‏أنه يعتنق العهدين معاً؛ العهد الجديد (الإنجيل) والعهد القديم (التوراة)، ومن ثم لا يكفي ‏الاستدلال بإشارات العهد القديم للدلالة على أن هوية المؤلف يهودية، لأن أي شخص مسيحي ‏يحمل داخله قناعات يهودية أو مشتركة مع اليهود بالطبع، وبالتالي فلم يبق أمامنا من وسائل ‏الاستدلال سوى الهوية الوطنية، وتحديد ما إذا كان المؤلف ينتمي للبلد التي يتحدث عنها أم ‏ينتمي لقومية مغايرة، وقد ظهر ذلك في استخدام اللغة العربية بما يخالف المنطق والمعقول ‏إذا ارتبط الأمر بالأسقف القبطي يوحنا النقيوسي الذي كره العرب (وفقاً للكتاب ذاته) ‏وكره دينهم، وليس من المتصور أن يعتنق لغتهم ويجيدها إلى الدرجة التي تجعله يقدم ‏إبداعاً لغوياً كما لو كان مولوداً في فمه ملعقة عربية.. بل إن المؤلف يتلاعب بأوتار اللغة ‏بحرفية عالية جداً، خاصة عند استخدام التعبيرات المجازية والكناية والاستعارة. هذا ‏الأمر مستحيل تصوره مع قبطي يكره العرب... وأما الثاني، فهو من غير المتصور أن يقوم ‏شخص عربي مسلم بفبركة هذا الكتاب ضد قومه العرب المسلمين، بل في الغالب أن مؤلف ‏هذا الكتاب هو زميل من زمرة كعب الأحبار، وعلى ما يبدو لنا أن الكعب كان مختصاً ‏ببلاد العرب مكة والمدينة في الحجاز والشام، أما هذا المجهول فكان مديراً إقليمياً مختصاً ‏بإيجبت وادي النيل . ‏

يُتبع ...‏‎

‏(قراءة في كتابنا : مصر الأخرى – التبادل الحضاري بين مصر وإيجبت‎ ‎‏)‏‎ ‌‎
‏ (رابط الكتاب على نيل وفرات):‏‎
‏ ‌‎ ‏https://tinyurl.com/25juux8h‏‎ ‌‎

‏(رابط الكتاب على أمازون) :‏‎
‏ ‏https://cutt.us/sxMIp‏ ‏‎

‏( رابط الكتاب على جوجل بلاي‏‎ ):
https://cutt.us/KFw7C

‏#مصر_الأخرى_في_اليمن):‏‎
‏ ‏https://cutt.us/YZbAA

‏#ثورة_التصحيح_الكبرى_للتاريخ_الإنساني‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز