الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبونا وليم، صفحة من كتاب الإيمان الحي

مجدي مهني أمين

2023 / 5 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


رحل أبونا وليم!

رحلت صفحة من صفحات التنوير، كانت صفحة نابضة في كتاب الإيمان، بديلا للإيمان المفعم حاليا بالصفحات التى تدين وتفرق بين الناس، صفحات نشعر معها "أننا يتامى."

ومن هنا كان تعطشي "للإيمان الحي،" فالأرض جافة ولن تورق إلا بمن لمسوا فعلا حقيقة الإيمان وراحوا يعيشونها، ويقومون كل يوم بأفعال تروينا وتنعش أرواحنا، يقومون بأفعال تحمل لنا صوت السماء ومحبتها، وأتشدد أكثر وأتذكر قول المسيح:

- "لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ." ( يو 14: 18).

والحقيقة أن أرواحنا تُرَد إلينا، ونتحرر من شعور اليُتْم، عندما يأتينا أناس مثل أبونا وليم سيدهم، أناس من كتاب "الإيمان الحي"، من صفحات الكتاب الأصيلة الناصعة، يأتون كي يعيشوا هذا الإيمان، يعيشونه عملا صالحا، ورعاية لا تعرف الكلل ولا الملل، رعاية لكل الناس من كل الأديان، رعاية للإنسان دون تمييز، لهذا ليس غريبا أن يحبه الناس من أول لقاء، وهو يحب الجميع دون شروط.. الحقيقة أن يحبهم بشرط انتمائهم واندماجهم في خدمة من حولهم، فايمان أبونا وليم به تمييز كبير ضد الظلم، ضد القهر، ضد الجهل، به تمييز من أجل الفقير والمعدم والمنسي والمجهول، تمييزه واضح ومحبته مشروطة، بطريقة تجعله يتخطى مساحة العمل الصالح إلى آفاق العمل الثوري، العمل الثوري من أجل الإنسان.

ومن هنا نجده يتخطى في براعة وبساطة كافة العوائق التي تحول بينه وبين إيمانه الحي، أو بينه وبين عمله الصالح أو الثوري، عائقه وسؤاله الجوهري الذي أرقه طويلا هو إلى أي مدى سيكون الكهنوت داعما له في رسالته، وجاءت الإجابة في أن يكون كاهنا كما كان علمانيا في خدمة الثقافة والتنوير، فقَبْل الكهنوت عمل كثيرا، وكنت معه في هذه البدايات، في حقل التربية الشعبية ومكافحة الأمية، واستمر بعد رسامته في عمله التنويري والثقافي وتمكن في جمعية النهضة العلمية والثقافية،- حيث عملت معه أيضا في العديد من البرامج- تمكن من أن يجعل الجمعية منارة ثقافية في مجالات متجددة لا تتوقف، تقدم مادتها الفنية والثقافية والبحثية وكافة الفنون لجمهور القاهرة، بل يأتونها من الأقاليم كي يتعلموا فيها وينقلوا ما تعلموه لمجتمعاتهم البعيدة في صعيد مصر.

ويؤصل فكريا لعمله التنويرى من خلال دراسته ونشره لما يسمي "بلاهوت التحرير"، فهو حين يتحدث في اللاهوت لا يطرق باب العقائد التي تفرق بين هذا وذاك كي يشجب ويكفِّر، بل يطرق باب لاهوت التحرير، اللاهوت المتضامن مع الناس ضد الظلم وضد القهر، لاهوت غريب يأخذ الإيمان بأكمله في صف الناس، هكذا نشأ في أمريكا اللاتينة، وهكذا نقله لنا أبونا وليم.

رحلة خاصة عاشها هذا الصعيدي المتقشف المحارب، المحاربون يحملون دروعا وسيوف، وهو يحمل جسده المسالم، سلاحه الشجاعة وعدم الخوف، وعزيمته في أن يشق طريقه نحو الناس كي يفتح أمامهم أفاقا في المعرفة والثقافة والفن والإيمان والإنسانية، كي يعيشونه وكي يعيشه معهم، وكي يكون كاهنا واحدا من الناس لا تفصله عنهم حواجز.

وبمناسبة يعيشه معهم، كان لي معه العديد من المواقف، فنحن أصدقاء منذ زمن بعيد جدا.. عمل وليم قبل الرسامة فترة في جمعية الصعيد، ودي كانت أيضا بداياتي مع الجمعية، وكنا رايحين أنا وهو وصلاح سبيع (أحد رواد التنمية)، رايحين من القاهرة لصِدفا، جنوب مدينة أسيوط بحوالي 40 كيلومترات، وهنا أصر وليم اننا لازم نسافر في قطار الدرجة التالتة، ودا كان في شهر يناير، وأهل الصعيد عارفين برد يناير، خصوصا بالليل، خصوصا في المنيا وأسيوط، فنحاوره:

- ليه يا وليم؟
- مش احنا رايحين ندرب منسقين بيشتغلوا مع ناس أميين؟
- أيوه
- يعني بيشتغلوا مع أفقر الفقراء، واكيد المنسقين دول هم كمان فقرا، يبقى لازم نحس بيهم، ما ينفعش نروح ندربهم واحنا مسافرين في القطار المكيف.
- يا وليم الدنيا برد، احنا هنوصل في الفجر والتدريب هيبتدي بعد ساعتين تلاتة من مجرد وصولنا!
- هو كده، يا بلاش، مش هاروح معاكم!

وسلمنا أمرنا لله، وسافرنا ليلا، طبعا ما فيش شباك واحد زجاجه سليم، نحاول ننعس تخبطنا لفحة هواء بارد، أقصد لفحة صقيع، نحاول تاني يعدي البياعين بأعلا صوت يخطُّوا فوق الناس، ولازم نعمل حسابنا خصوصا من بتوع الشاي لأن اي غلطة معناها صينية الشاي اللي بيجروا بيها هتقع على دماغنا.

الساعة 4 فجرا وصلنا صًدفا، الحمدلله، جرى بنترعش من البرد على دير الراهبات هناك، الباب مقفول، وراه حوش كبير، والدير نفسه ورا بعيد، ما فيش جرس، نخبط:
- يا أي حَدْ، يا جماعة ياللي هنا ، يا يا يا...!!

والحل، كان اننا رجعنا المحطة تاني، جلسنا كالتماثيل لا نُحَرِّك ساكنا، لأن أية حركة معناها المزيد من لسعات البرد. الشمس طلعت. النهار ابتدا، روحنا الدير، الباب مفتوح، دخلنا والراهبات يستقبلونا:
- يا حرام، اكيد عايزين تفطروا بسرعة قبل التدريب!
- لأ، لأ، عايزين شاي، شاي سخن جدا، الله يخليكم!

أسعد واحد كان أبونا وليم، وأنا وصلاح لا اعتراض، أبونا وليم ما كانش فقط صاحب رسالة، هو كان رسالة في حياته في أَكْلِه، في شُرْبِه، في كل لحظة وكل دقيقة، كان صفحة من كتاب "الإيمان الحي"، الأمل أن رسالته تعيش وتستمر، الأمل أن يكون الكتاب لا يزال مليئا بهكذا صفحات، حتى لا نكون يتامى، الوداع يا صديقي، انت زرعت والله ينمي ويرسل من صفحات الإيمان الحي فعلة تكمل مسيرتك النبيلة، الوداع ولا تنسانا في صلواتك، ونحن لن ننساك، أعمالك الصالحة ستظل تَذْكُرُك دائما وأبدا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي