الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الخامس

حامد خيري الحيدر

2023 / 5 / 13
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لا يقتصر جمال أم الربيعين وعُمق تاريخها على مَركزها في مدينة الموصل حيث ألق الثقافة بجانبيها الأيمن والأيسر، بل يَمتد بالتأكيد الى ضواحيها وأقضيتها وقصَباتها المُحيطة بها كالسوار بالمعصم، والتي تعاضدت بإنسانها الجَلِد وسهولها الفسيحة سوية مع لـُبها المتربع على ضفتي نهر دجلة، منذ أقدم الفترات التاريخية وحتى الحِقب اللاحقة، لتُشكل وحدة ثقافية خاصة بَلغت ذروة مَجدها لدى الحضارة الآشورية، التي غَدت حواضرها ومُدنها مراكز ومحطات ثقافية نقلت تفاصيل تلك الحضارة الى مناطق بعيدة خارج حدود وادي الرافدين باتجاه الشمال والشرق والغرب، ولعل من أهم المدن الأشورية التي تستدعي الاستقصاء والإشارة في تلك الأصقاع هي مدينة "دورشروكين" أو "خُرسباد" كما تُعرف شعبياً بين الناس، نسبة الى قرية عتيقة تُحاذي أطلالها، لاتزال السكنى فيها متواصلة رغم قِدم استيطانها.
تقع مدينة "دورشروكين" الى الشمال الشرقي من مدينة الموصل بمسافة تُقارب السبعة عشر كيلومتراً، وللوصول إليها يُسلك الطريق المعروف بـ"طريق الشلالات"، المؤدي الى مركز قضاء "الشيخان" والذي يَمّر بعدد من القرى الصغيرة، ويُعّد هذا الطريق غاية في الجمال خاصةً أيام الربيع، حيث يبدو لمن يسير فيه كأنه يعوم وسط بحيرة هادئة جميلة، أينما التفت يكون الصفاء الذي تداعبه نسائم الهواء العليل، مما يجعل العيون حائرة بين أن تأخذ غفوة مع هذا الهدوء المُطبق، أو أن تتركهما مفتوحة لتتمعّن بتلك الطبيعة الساحرة التي تحيط بك من كل صَوب، ليُنسى حينها الوقت وما يحمله من أفكار حتى يصل الطريق لغايته، حين يقطع الركن الشمالي الغربي لسور المدينة التاريخية الخارجي في سبيله نحو قرية "خرسباد" التي تقع على جانبه الغربي، بينما تكون المدينة الأثرية الواسعة الى الشرق منه، والتي تُمثل الحصن الملكي التي شَيّده الملك الآشوري "سرجون".
وتَمتد قرية "خرسباد" لمسافة نصف كيلو متر تقريباً، تُحيطها العديد من القرى الاخرى مثل "باريمة" و"المغفرة" و"السُماقية"، أما سكانها فغالبيتهم من طائفة "الشبك" إضافة الى العرب والتركمان، وهم يعملون من أجل رزقهم في مختلف المهن والأشغال الضعيفة الدخل وهذا ما أنعكس على الصورة العامة للقرية، أما من الناحية الإدارية فتتبع القرية ناحية "بعشيقة" العائدة لقضاء الموصل، وهي تُعتبر من القرى التاريخية القديمة في العراق التي لازالت السُكنى فيها مُستمرة، حيث أنها وَردت في كتب المؤرخون العرب ومنها "مُعجم البلدان" لصاحبه "ياقوت الحموي" حيث ذكرها بصيغة "خرستاباذ"، التي هي في الغالب تحوير للتسمية الساسانية "خسرو أباد" التي تعني "دولة خسرو"، ومن الجَدير بالذكر هنا أن العديد من بلدات العراق قد سُميت بهذا الاسم خلال فترة الحكم الساساني، منها ناحية "السعدية" في محافظة ديالى، كما أورد "الحموي" سطوراً بشأنها في كتابه.. (قرية في شرقي دجلة، من أعمال نينوى، ذات مياه وكروم كثيرة، شربها من فضل مياه رأس الناعور المُسمى بالزراعة، والى جانبها مدينة يُقال لها "صرعون خراب")، ومن الواضح جداً في هذا القول أن أسم "صرعون" هو تحريف لأسم الملك الآشوري "سرجون". لكن برغم هذا القدم إلا أن القرية يبدو قد غابت بين طيّات النسيان، والناس قد عرفوها فقط من خلال مُجاورتها للمدينة الأثرية، لتصطبغ صورتها ببساطة حالٍ يتوافق مع طبيعة حياة أهلها، حيث أزقتها ضيقة غير مُعبّدة وبيوتها مُتهالكة، كان بعضها مُشيّداً بالطين وأخرى بالطابوق الاسمنتي "البلوك"، مما يُشير الى مَحدودية عَيش قاطنيها.
من جانبٍ آخر تُعّد الأراضي المُمتدة من قرية "خرسباد" وحتى ناحية بعشيقة التي تقع الى الجنوب الشرقي منها بمسافة أحد عشر كيلومتراَ تقريباً، واحدة من أجمل بقاع العراق بأرضها الخصبة وطبيعتها الخلابة، وهي تُعّد امتداداً لأرض منطقة النمرود حيث تنتهي سهولها المنبسطة الفسيحة جنوباً عند نهر "الزاب الأعلى"، وما يزيد من جمال طبيعة منطقة بعشيقة هو ذلك التنوع السكاني المتناسق لأهلها، الذي يجمع أطياف متنوعة من أبناء شعب العراق، من الأيزيديين والمسلمين والمسيحيين والشَبك والتركمان، يعتمدون في عيشهم على الزراعة التي تُعتبر العِماد الاقتصادي الأول لحياتهم، إذ أن أراضي بعشيقة عبارة عن مناطق زراعية شديدة الخصوبة، تصلح لزراعة مختلف أنواع المزروعات، وهي تَشتهر بزراعة الزيتون بالدرجة الأساس بالإضافة الى العِنب والخضروات الصيفية، وكذلك القطن الذي كان يُعّد في الماضي مَصدراً مُهماً لتَجهيز مَعامل النسيج العراقية بهذه المادة، وأيضاً زهرة عباد الشمس، أما خلال الموسم الشتوي فيُزرع القمح على نطاق واسع بالاعتماد على غزارة الأمطار ودَيمومتها.
وكوّن أرض بعشيقة سَهلية فسيحة فقد استغلت كذلك من قبل السُكان لغرض الرَعي، حيث عُرفت هذه المناطق أيضاً بصناعة الجبن الأبيض المَصنوع من حليب الغنم والمعروف لدى العراقيين بـ"المثّوَم"، بعد أن تُضاف إليه تلك العُشبة الخاصة التي تَشبه وريقات الثوم لتُطيّب مذاقه وتمنحه طعمه الخاص المُميّز، حيث أنها تنتشر بشكل طبيعي كبير هنا وتَنبت بصورة طبيعية، كما عُرفت هذه المنطقة أيضاً بصناعة "الطحينة" أو "الراشي" وكذلك أنواع "المُخلل المكبوس" أو "الطرشي"، بالإضافة الى مَشروب "العَرَق" الكحولي الذي اشتهرت به بعشيقة بشكل كبير منذ القِدم، من جانب آخر فقد اختلفت الآراء في أسم "بعشيقة" لكنها أجمعت على أنها كلمة سريانية ذهب في مَعناها رأيين، الأول هو أن أصلها "بيت عشيقا" وتعني "بيت الظالم" أو "بيت الفاسد"، اما الثاني هو أن أصلها "بيت شحيقي" بمعنى "بيت المَسحوقين" أو "بيت المَنكوبين".
أما مدينة "دورشروكين" الأثرية فتُعتبر العاصمة الرابعة للإمبراطورية الآشورية حسب التسلسل التاريخي لتأسيس عواصمها، بعد "أشور" و"كالخو"/"النمرود" و"نينوى"، شَيّدها الملك الآشوري "سرجون" مؤسس آخر سلالة حاكمة في المُلك الآشوري، والذي تَولى الحكم للفترة 721_705ق.م خلفاً للملك "شلمنصر الخامس" 726_722ق.م، ولا يُعرف السبب الحقيقي لنقل هذا الملك مَقر حكمه إليها من العاصمة "كالخو"، لكن من المُرجح أن ذلك كان يرجع الى الظروف السياسية الغير طبيعية التي رافقت توليه العرش، والتي كانت في الغالب نتيجة انقلاب عسكري دَبّره في تلك العاصمة، وهذا ما دَعاه فيما بعد الى تغيير أسمه الحقيقي الذي لم تذكره الكتابات الملكية الآشورية ولم تتوصل إليه الدراسات التاريخية، مانحاً لنفسه هذا اللقب "شروكين" أي "الملك الشرعي" بحالة مُماثلة لمُلابسات تَولي الملك "سرجون الأكدي" للحكم عام 2371 ق.م، لذلك فَضّل الابتعاد عن تلك العاصمة تجنباً للمناوئين والمنافسين له في الحُكم، حيث أخذ في بداية حكمه يتنقل بين العواصم الثلاث السابقة دون أن يكون له مَقراً ثابتاً لسلطته، كما أنه أراد من مدينته الجديدة هذه أن تكون مَثابة لتجميع جنده وخطاً أمامياً لصَد هجمات قبائل "الأورارتو"(1) القادمة من الشمال، والتي كانت تُمثل تهديداً كبيراً على بلاد "آشور"، وهذا ما يُمكن تَبيُنه بشكل واضح من مُخطط المدينة، حيث أنها تبدو معسكراً للجند أكثر منها مركزاً لحكم وإدارة دولة.
وقد بدأ "سرجون" بتَشييد عاصمته عام 717ق.م، بعد أن أختار موقعاً مُناسباً لها بالقرب من مَجرى ماء يأتي من أحد الجبال ورَد في الكتابات الملكية الآشورية باسم "مِسري"، وأنتهى من بنائها عام 707ق.م، أي قاربت مدة بنائها على العشر سنوات، ليُسميها باسمه "دورشروكين" بمعنى "مدينة سرجون" أو "حصن سرجون"، لكنه لم يَسكنها سوى لفترة قصيرة لا تتعدى العامين، إذ أنه توفي عام 705ق.م بشكل مُفاجئ وفي ظروف غامضة، حيث وَردت في هذا الشأن إشارات غير مؤكدة ضمن بعض النصوص الملكية الآشورية، تُبيّن أنه اغتيل أو قُتل خلال احدى المعارك، على إثرها أعاد وريث عرشه أبنه الملك "سنحاريب" مَقر الحُكم الى العاصمة القديمة "نينوى"، ليتم بعد ذاك هَجرها بالكامل رغم البَذخ والاسراف الكبير الذي أنفق في تصميمها وتشييدها، حتى أن الملك الجديد قام بنقل العديد من منحوتاتها وثيرانها المجنحة الى عاصمته، لتبقى بعد ذلك مُجرد مركز إداري لحاكم الاقليم والقائد العسكري الآشوري لهذه المنطقة.
لذلك ليس للمدينة أهمية تاريخية كحال باقي العواصم الآشورية "آشور" و"كالخو" و"نينوى"، حيث أنها لم تَشهد أحداثاً هامة في التاريخ الآشوري، لكنها من جانب آخر قد كسبت أهمية أكبر وشُهرة أوسع تفوق شقيقاتها تلك، إذ أنها ظلت على حالها بعد أن تم هَجرها بما احتوته من نفائس وتُحف فنية بشكل سليم نسبياً، يفوق كثيراً ما تم الكشف عنه في أي مكان آخر من بلاد آشور، لتغدو بعد اكتشافها من قِبل أولئك المولعين بأثار الشرق، من باحثين وقناصل دول فرنسا وإنكَلترا في أواسط القرن التاسع عشر، أمثال "أميل بوتا" و"فكتور بلاس" و"هنري لايارد" و"هرمز رسام"، مَنجماً غنياً للآثار، فقاموا بنَبشها بأساليب غير علمية في سبيل الحصول على آثارها، فأخذوا منها الشيء الكثير ونقلوها الى بلدانهم، حيث لازالت تَزّين متاحفهم الى اليوم، ومن خلال تلك الآثار التي أصبحت في متناول العلماء والمؤرخين والباحثين، أمكن دراسة التاريخ الآشوري بشكل جديد أقرب الى الواقع والمنطق العلمي، وتجدر الإشارة هنا الى حادثة تاريخية مأساوية أصابت آثار هذه المدينة عام 1855، حيث أن عدداً من الثيران المُجنحة والألواح الجدارية المنحوتة التي تَم استخراجها خلال تلك الفترة، كان يتم نقلها بواسطة الأطواف الخشبية "الأكلاك" عبر نهر دجلة الى شط العرب حيث موانئ البصرة، لتأخذ طريقها بعد ذلك بواسطة السفن الى أوربا، لكن عند مرورها بمنطقة القرنة تَعرضت بعض هذه "الأكلاك" الى هجوم مُسلح من بعض قبائل المنطقة بقصد السرقة، حيث أشيع بينها أنها تحمل كنوزاً ذهبية، مما أدى الى تفككها نتيجة سرعة التيار الجاري وسُقوط حمولتها الثقيلة في المياه العميقة وغرقها هناك(2).
كما تجدر الإشارة في هذا الجانب الى أن أعمال الحفر والنبش العَبثي في مدينة "دورشروكين" من أجل الحصول على آثارها الثمينة، ربما كانت تعود الى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر الميلادي على أقل تقدير، وذلك استناداً الى أقدم إشارة تاريخية هامة جاءت بهذا الخصوص رغم عدم تأكيدها، أوردها "الحموي" أيضاً في مُعجمه الكبير الذي وضعه بين عامي 1220_1224م في معرض ما ذكره عن هذه المدينة، حيث يقول.. (مدينة كبيرة، كانت قديماً من أعمال نينوى، خير أعمال الموصل وقد خُرّبت، يَزعمون أن فيها كنوزاً قديمة، يُحكى أن جماعة وجدوا فيها ما استغنوا به، ولها حكاية وذكر بين الناس). ولابد أيضاً من ذكر التنقيبات التي قامت بها جامعة شيكاغو الامريكية بين الاعوام 1929_1935، والتي نقلت خلالها أيضاَ عدداً من الثيران المجنحة والألواح الحجرية المنحوتة الى الولايات المتحدة، لكنها بذات الوقت قامت بدراسات آثارية وتاريخية رصينة حول المدينة، وكذلك تنقيبات المؤسسة الآثارية العراقية عند عقدي الثلاثينات والخمسينات من القرن العشرين، التي كشفت عن بعض مباني المدينة وخططها، كما أسفرت كذلك عن اكتشاف عدد من الثيران المجنة والألواح الحجرية الجدارية المنحوتة، تم نقلها الى العاصمة بغداد وهي معروضة اليوم ضمن القاعة الآشورية في المتحف العراقي.
كانت مساحة مدينة "دورشروكين" بحدود 1200 دونم، وهي مُحاطة بسور منيع مُحيطه بحدود سبعة كيلومترات وسُمكه حوالي خمسة وعشرون متراً، بينما يُقدر ارتفاعه بما يزيد عن الخمسة والثلاثين متراً، وهو ذو تخطيط مربع تقريباً أبعاده 1760×1685م، تتجه زواياه الى الجهات الأربعة الرئيسية، تَم تدعيمه بمئة وخمسين برجاً دفاعياً، كما يحتوي على ثمان بوابات كبيرة يَقف على جانبي كل منها زوجاً من الثيران المجنحة الحارسة "لماسو"، وبواقع بوابتين في كل ضلع، سُميّت كل منها بأسماء أحد الآلهة، وهي... "أنليل" و"نليل" في الضلع الشمالي الغربي، "شمَش" و"أدد" في الضلع الشمالي الشرقي، "آنو" و"عشتار" في الضلع الجنوبي الغربي، "أيا" و"بعلت أيلاني" في الضلع الجنوبي الشرقي.
علماً أنه حتى مَطلع العقد الأخير من القرن العشرين كان يُظن أن للمدينة سَبع بوابات فقط، حتى كشفت التنقيبات التي أجرَتها المؤسسة الآثارية العراقية في المدينة عن البوابة الثامنة عام 1993 في الضلع الشمالي الغربي من سور المدينة، وكانت تُسمى بوابة الإلهة "نليل"، مع أحد ثورين كانا يَنتصبان على جانبيها، حيث يبدو أن الثور الآخر كان من ضمن الآثار التي تمت نقلها من المدينة خلال القرن التاسع عشر الى أوربا، ليتم حينها دفن الثور المُكتشف هذا لإخفائه وحتى من دون الاعلان على وجود بوابة في هذا المكان ضمن تقارير ومُخططات الحفريات، على أمل العودة يوماً ما ونقله هو كذلك في وقت لاحق أسوة بقرينه في الجانب الثاني، لكن يبدو أن الأمور قد جَرَت بخلاف ما تم التخطط له ليظل السر مَطموراً في مكانه حتى كشفت عنه معاول المُنقبين العراقيين، وكان حجم هذا الثور أصغر قليلاً من الثيران المُجنحة المعروفة في المدن الآشورية الأخرى، ويُقارب وزنه الخمسة وعشرين طناً، لكنه أكثر جمالاً ورشاقة وتم نحته بدقة أعلى وجودة أكبر، خاصة فيما يتعلق بتقاسيم ومَلامح رأسه البشري وقوة التعبير المنفذة فيه(3).
وكان قد أعتمد في هذه المدينة نفس مبدأ تخطيط العاصمتين "كالخو" و"نينوى"، حيث حُدد فيها مَركزين مَلكيين يقعان لصق الأسوار في مكانين مُتباعدين، الأول يكون للملك حيث المدينة الملكية الكبيرة التي تم تَشييدها في منتصف السور الشمالي الغربي، والآخر لولي عهده عند الضلع الجنوبي الغربي منها، في حين خُصّص وسط المدينة لبيوت عامة الناس وثكنات الجيش، وكانت أبعاد المدينة الملكية بحدود 650×300م، تم أحاطتها بسور حَصين سُمكه حوالي ثمانية أمتار يحوي بوابتين كبيرتين تطلان على المدينة، أحدهما في الضلع الجنوبي الشرقي والأخرى في الضلع الجنوبي الغربي، ويتوسط هذه المنطقة قصر الملك "سرجون" الذي شُيّد على مصطبة عالية ارتفاعها يزيد على الخمسة عشر متراً، كانت في الغالب تل اصطناعي يُمثل طبقات أثرية لمُستوطن قديم لم يتم تحديد فترته، ربما تعود بداياته الى فترة العصر الحجري الحديث كحال تل "قوينجق" في العاصمة "نينوى"، علماً أن النصوص الملكية الآشورية تذكر أن المدينة الملكية هذه قد شُيّدت على موقع قديم أسمه "مكانبا"، وكان يتم الارتقاء الى هذه المصطبة عن طريق سلالم جانبية بالإضافة الى مُنحدر عريض يقع في جهته الجنوبية عرضه بحدود خمسين متراً يستخدم لمرور العربات عليه.
وقد احتوت المدينة الملكية على القصر المَلكي الرئيسي الذي كان بالغ الضخامة ويبرز جُزء كبير منه الى خارج سور المدينة، وقد حَوى على العديد من الساحات والقاعات الكبيرة، المُزينة مداخلها بالتماثيل الحارسة وجدرانها بالألواح المنقوشة بالنحت البارز التي تُصوّر الحياة الملكية الآشورية، كما شُيّدت في جهته الغربية زقورة المدينة التي كانت ذات قاعدة مربعة الشكل طول ضلعها بحدود خمسة وأربعين متراً، ما تبقى من ارتفاعها عشرين متراً تقريباً يتمثل بثلاث طبقات وجزء من الطبقة الرابعة، ويُعتقد أن أنها كانت في الأصل تتألف من سبع طبقات، وتبلغ من الارتفاع بحدود خمسة وأربعين متراً، حسب القاعدة الآثارية الافتراضية بأن الزقورات ذات القاعدة المربعة يكون ارتفاعها مُقارباً لطول ضلع قاعدتها، كما هو الحال في زقورة بابل، وكان يتم الارتقاء الى قمة هذه الزقورة عن طريق سُلم لولبي يدور حول جوانبها الخارجية، بشكل مُماثل للمئذنة الملوية في مدينة سامراء، ويُعّد هذا التصميم أسلوباً جديداً في بناء زقورات مُدن وادي الرافدين.
كما احتوت المدينة الملكية أيضاً على ستة معابد ثلاثة صغيرة ومثلها كبيرة، أكبرها تم بنائه على مصطبة عالية كحال القصر الملكي وكُرّس لعبادة الإله "نابو" إله العلم والحكمة والمعرفة، بالإضافة الى قصور صغيرة لباقي أفراد العائلة الحاكة من أمراء وأميرات، ومساكن وأجنحة خاصة لحاشية الملك ومَحظياته وخدمه وموظفي البلاط الملكي. أما قصر ولي العهد "سنحاريب" فكان يقع كما سبق القول ملاصقاً للسور الجنوبي الغربي للمدينة ويبرز جزء منه الى خارجه، وهو ذو تخطيط مربع طول ضلعه بحدود مئتي متر، يحوي على عدد من الساحات الواسعة وأجنحة كبيرة للسكن والإقامة وقاعات للإدارة بالإضافة الى مَشاجب للأسلحة ومَخازن للاحتياجات العسكرية.
وقد يُصوّر هذا الوَصف المُقتضب لمدينة "دورشروكين" كأنها لا زالت قائمة بكامل رَونقها القديم أيام رَخائها ومَجد مُشيديها، إلا أنها في الحقيقة بخلاف ذلك تماماً لمن يزورها ويطّلع على واقعها اليوم، لأنه بالتأكيد سيتفاجأ بشكل كبير من مَنظرها، حيث أنها تبدو تماماً كأطلال المدن السومرية في جنوب العراق مثل "أريدو" و"أوروك"، مُجرد تلال ترابية من الانقاض ليست لها أية مَعالم، تنتشر عليها بكثافة كِسر الفخار والطابوق وأحجار البناء، وقد يصعب حتى على الآثاري المُتخصّص، تَمييز أسوارها وخططها أو حدود ومعالم أبنيتها التي تبدو مُبهمة التفاصيل، ثم مطابقة ما قرأه عنها وأطلّع عليه من خرائط ومخططات على ما هو موجود منها فعلاً على الأرض، بعكس باقي العواصم الآشورية الأخرى، وطبعاً يبدوا ذلك مَنطقياً بعد كل أعمال النبش والحفر الجائر التي جَرَت فيها على امتداد الزمن في سبيل الحُصول على آثارها الثمينة، حتى لم يتبق في المدينة شيء ذي قيمة مادية أو علمية باستثناء أماكن مَحدودة لم يجري التنقيب فيها، يُمكن أن تكشف في المستقبل عن نتائج أثرية جديدة وأسرار تاريخية غير معروفة.
والبناء الوحيد الذي يُمكن تَمييزه بوضوح وبشكل كامل تقريباً اليوم في المدينة هو معبد الآلهة "سيبتي"(4)، الذي كشفت عنه المؤسسة الآثارية العراقية في خمسينيات القرن العشرين، والذي يُقع خارج المدينة الملكية بالقرب من الضلع الشمالي الغربي للمدينة، وقد أجرت عليه حينها صيانة جيدة توضّح مُخططه وبعض من تفاصيله ومرافقه البنائية، حيث أنه يتكون من ساحة وسطية كبيرة تؤدي الى خلوة الإله، كما تُحيط بها العديد من القاعات والحُجرات الأخرى، أهمها قاعة طويلة الشكل تحتوي على مصاطب ومناضد حجرية كانت تستخدم في الغالب للاجتماعات واللقاءات، أو أنها كانت تُمثل صفاً دراسياً داخل المعبد خُصص للدراسة والتعليم(5).

الهوامش:

1_ قبائل الأورارتو ... قبائل جبلية أسست مملكة كبيرة في منطقة الهضبة الأرمينية إلى الجنوب الشرقي من البحر الأسود، وذلك في أواخر الألف الثاني ومطلع الألف الأول قبل الميلاد، أسماهم الآشوريون "أورارتو" أو "أورارت"، في حين أطلق الأورارتيون اسم "بياينيلي" للتعريف ببلادهم، وقد تأثر هؤلاء بشكل كبير بحضارة وادي الرافدين، حتى أنهم استخدموا الخط المسماري في تدوين لغتهم.
2_ في مطلع السبعينات من القرن العشرين، قام فريق من علماء الآثار اليابانيين المُختصّين بآثار تحت الماء، بالغوص في المكان المُفترض لغرق هذه الثيران المجنحة والألواح من أجل استخراجها، لكن للأسف لم تنجح هذه المحاولة، حيث لم يُعثر على أي أثر لها، وفي الغالب أن كميات الغريّن الكبيرة التي كانا يجلباها نهرا دجلة والفرات لشط العرب على امتداد تلك الفترة الزمنية الطويلة قد دفنت تلك الآثار لأعماق كبيرة فلم يعد مُمكناً العثور عليها.
3_ تمت سرقة رأس الثور المجنح هذا في خريف عام 1996، حيث قام الجناة بتقطيعه الى عدة قطع بغيّة تهريبه الى خارج العراق، لكن تم إلقاء القبض على المجرمين بعد مدة واستعيد الرأس منهم، ليجري ترميمه وحفظه في المتحف العراقي حيث هو معروض الآن في القاعة الآشورية.
4_ الآلهة "سيبتي"... تعني باللغة الأكدية "الآلهة السبعة"، ويُقصد بهم الآلهة السبعة الكبار الذين يُقررون مصائر البشر والكون، حسب العقيدة الدينية لسكان وادي الرافدين، يظهرون عادة في المنحوتات والقطع الفنية وصور الأختام الأسطوانية بشكل سبع نجوم، يُسمون بالأكدية "سيبيتو" وبالسومرية "أمنبي"، وهم.. "آنو" إله السماء، "أنليل" إله الهواء، "أنكي" إله الأرض والمياه العذبة، "ننخرساك" إلهة النسل والأنجاب، "ننا" أو "ننار"/"سين" إله القمر، "أوتو"/"شَمَش" إله الشمس، "إنانا"/"عشتار" إلهة الحب والحرب، ويتبع ويُساعد كل من هؤلاء السبعة عدد كبير من الآلهة الصغيرة الأخرى.
5_ تم تجريف مدينة "دورشروكين" الأثرية وتخريب ما تبّقى من معالم أبنيتها ونَهب الكثير من آثارها من قبل عصابات داعش الاجرامية في ربيع عام 2015، وذلك خلال احتلالهم الأليم لمحافظة نينوى في الأعوام 2014_2017.

المصادر:

_ أنطون مورتكَات ... الفن في العراق القديم ... ترجمة/ عيسى سلمان ، سليم طه التكريتي ... بغداد 1975
_ جابر خليل أبراهيم ... تخطيط المدن ... موسوعة الموصل الحضارية/ الجزء الأول ... الموصل 1991
_ سامي سعيد الأحمد ... المدن الملكية والعسكرية ... المدينة والحياة المدنية/ الجزء الأول ... بغداد 1988
_ طه باقر ... مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة/ الجزء الأول ... بغداد 1973
_ عدنان مكي البدراوي ... المدينة من عصر فجر السلالات حتى نهاية العصر البابلي الحديث ... حضارة العراق/ الجزء الثالث ... بغداد 1985
_ ياقوت الحموي ... مُعجم البلدان/ المجلد الثاني ... بيروت 1995
_ G. Loud … Khorsabad … Part 1 … CHICAGO 1936
_ H. Frankfort … The Art and Architecture of The Ancient Orient … LONDON 1970
_ S. Lloyd … The Archaeology of Mesopotamia … LONDON 1978








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: المؤسسة الأمنية تدفع باتجاه الموافقة


.. وزير خارجية فرنسا يسعى لمنع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله في




.. بارزاني يبحث في بغداد تأجيل الانتخابات في إقليم كردستان العر


.. سكاي نيوز ترصد آراء عدد من نازحي رفح حول تطلعاتهم للتهدئة




.. اتساع رقعة التظاهرات الطلابية في الولايات المتحدة للمطالبة ب