الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خلق القران .... الحجاب قراءة في الوضع التونسي

بسام خلف

2006 / 10 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عرفت الدولة العباسية, زمن المأمون و المعتصم و الواثق صراعا عنيفا بين السلطة من ناحية و الفقهاء و المحدثين من ناحية ثانية. أصل هذا الصراع سياسي. و يمكن تلخيصه في سببين رئيسيين, السبب الأول هو تعيين المأمون علي الرضا وليا للعهد و هو شيعي من أهل البيت و أبن موسى الكاظم, الإمام الثامن عند الشيعة الاثني عشرية. و السبب الثاني التوجهات العقلانية للمأمون و انفتاحه و تعويله على الفرس في إدارة شؤون الدولة ( أمه كانت جارية فارسية). كانت رغبة الفقهاء, قيام ثورة شعبية ضد المأمون, و لكن لم يكن باستطاعتهم الجهر بذلك و المناداة به فوق المنابر على الرغم من شعبيتهم الكبيرة. مرد ذلك إلى أن فكر ومذهب هؤلاء الفقهاء – من سيصطلح على تسميتهم بفرقة السنة و الجماعة – هو فكر جبري يحرم الخروج على السلطان المسلم, حتى و إن كان ظالما. "و أطيعوا الله و الرسول و أولي الأمر منكم". و قد كانوا في السابق ينادون بهذا لفائدة الدولة الأموية, و بالتالي فإنهم سيفقدون مصداقيتهم عند العامة لو نادوا بالثورة على النظام العباسي. كما أنهم كانوا يخشون بطش المأمون الذي نجح في إخماد و قمع كل المحاولات الانقلابية. فلم يبقى إذن أمام هؤلاء الفقهاء إلا اللجوء إلى قاعدة "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر". و هو ما يعني بمصطلحات اليوم نقد النظام و كل مؤسسات الدولة و لكن بدون النداء أو المطالبة بتغيير الحكم. سبب هذا الوضع إحراجا كبيرا للدولة, خاصة وأن ألاف مؤلفة كانت تحظر و تستمع لخطب و ندوات هؤلاء الفقهاء. و لم يكن باستطاعة أمير المؤمنين منع عالم أو إمام أو فقيه من ممارسة واجبه الديني.
كانت بطانة المأموم تظم بعض العقول النيرة, من بينهم أحمد بن أبي دؤاد و جماعته وهم من المعتزلة.
و المعتزلة هي مدرسة العقل في الحضارة الإسلامية, نقيض السنة والجماعة مدرسة النقل. فعندما يذهب فقهاء السنة إلى القول بأن الله يغضب و يضحك و له يدين, استنادا لحرفية النص القرآني. تقول المعتزلة يجب تأويل النص و تنزيه الله من هذه النقائص لأنه "ليس كمثله شيء". و عندما تأسس مدرسة السنة و الجماعة للفكر الجبري بوضع الأحاديث و نسبتها إلى الرسول الكريم من نوع "إن هذا الأمر بدأ رحمة و نبوة, ثم يكون رحمة و خلافة, ثم كائن ملكا عضوضا ثم كائن عتوا و جبرية وفسادا في الأرض, يستحلون الحرير و الفروج و الخمور و يرزقون على ذلك و ينصرون حتى يلقوا الله عز وجل" , و "إن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار". و العديد من أمثال هذه الروايات التي تجعل من الاستبداد حتمية تاريخية, من قضاء الله, ولا مرد لقضائه. و تعفي الخلفاء من كل حساب و عقاب. بينما تقر مدرسة المعتزلة المسؤولية الفردية. و تعد العدل الالهي ثاني أصول الدين بعد التوحيد. و من عدل الله أن يجيز المحسن و يعاقب الظالم. تذكر المصادر أن معبد بن خالد الجهني و عطاء بن يسار دخلا على الحسن البصري و هو يحدث الناس في مسجد البصرة كعادته فسألاه : "يا أبا سعيد, إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين و يأخذون الأموال, ويفعلون, ويفعلون , ويقولون : إنما تجري أعمالنا على قدر الله" فأجابهما الحسن بقوله : "كذب أعداء الله".و تذكر المصادر كذلك أن غيلان الدمشقي , بعدما عينه عمر بن عبد العزيز على "بيع الخزائن و رد المظالم", أخرج يوما خزائن بعض رجال أهل الدولة و هي مما وقعت مصادرته, فأخذ يهتف في الناس:" تعالوا إلى متاع الخونة, تعالوا إلى متاع الظلمة, تعالوا إلى من متاع من خلف في الرسول أمته بغير سنته و سيرته". هذه بعض الأمثلة للفكر التنويري, الذي كان في صراع مع فقهاء السنة, فقهاء الدولة الأموية. و قد تعرض العديد منهم للاضطهاد و التعذيب و القتل.
و كما قلت سابقا, أصبح مفكري و علماء هذه المدرسة من المقربين إلى السلطة في عهد المأمون العباسي. فكان طبيعيا أن يطلب منهم تجهيز خطة, لوضع حد, للتمرد الغير مباشر الذي لجأ إليه فقهاء السنة و حققوا به بعض النجاحات.
فجاء الرد من جنس الفعل. مثلما كان التمرد لا يصرح عن غاياته الحقيقية, ويستعمل طرق ملتوية, حتى يحقق هدفه المنشود و هو الإطاحة بالحكم العباسي. كانت إجابة المأمون وتعذيبه و قمعه وسجنه للفقهاء لسبب أخر لا علاقة له بأمن الدولة ولا بما يقومون به من واجب ديني فوق منابر المساجد من أمر بالمعروف و نهي عن المنكر.
تذكر المصادر أن المأمون كتب إلى عامله على بغداد, و طلب منه أن يمتحن الفقهاء و المحدثين في قضية "خلق القران". فمن قال أنه مخلوق, يشهد عليه الناس و يطلق سبيله. ومن تمسك بأن "القران قديم" يحبس حتى يغير رأيه. ولم يقتصر الامتحان على الفقهاء فقط, بل طالت العامة ورجال الدولة و القضاة. فمما تذكره المصادر أن في عهد الواثق, أمر هذا الأخير أن يمتحن الأسرى المسلمين عند الروم ( و كان عددهم ثلاثة ألاف رجل و خمسمائة امرأة) فمن قال منهم : إن القران مخلوق و أن الله عز وجل لا يرى في الآخرة, نودي , و من لم يقل بذلك ترك في أيدي الروم.
تواصلت هذه المحنة زمن المأمون و المعتصم و الواثق. و كان من أبرز رموزها أحمد بن حنبل.الذي لم يكن من كبار رجال الدين. و لكن صموده أمام اضطهاد الدولة و بقائه على الحياة جعل منه بطلا لهذه المحنة ( الشعوب لا تعترف إلا بالمنتصرين. العديد من الفقهاء صمدوا صمود ابن حنبل, و كانوا أعلم منه, لكن التاريخ نسيهم. لأنهم ماتوا في السجون. منهم محمد بن نوح على سبيل المثال).
مسألة خلق القران هي قضية كلامية فرعية, الاختلاف فيها وارد. (كما أن حجاب المرأة قضية فرعية لا تمثل أصلا من أصول الدين). فلماذا اختارها المأمون كوسيلة لمحاربة أعدائه؟
لما نقرأ عقيدة السنة و الجماعة التي يقررها ابن حنبل تتضح الرؤية. تقول هذه العقيدة ما يلي :" صفة المؤمن من أهل السنة و الجماعة: من يشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله وأقر بجميع ما أتت به الأنبياء و الرسل, وعقد عليه ما أظهر, و لم يشك في إيمانه, ولم يكفر أحدا من أهل التوحيد بذنب, و أرجأ ما غاب عنه من الأمور إلى الله عز وجل, و فوض أمره لله عز وجل, و لم يقطع بالذنوب, العصمة من عند الله, و علم أن كل شيء بقضاء الله و قدره و الخير و الشر جميعا, و رجا لمحسن أمة محمد (ص), وتخوف على مسيئهم, ولم ينزل أحدا من أمة محمد جنة ولا نارا بإحسان اكتسبه و لا بذنب اكتسبه حتى يكون الله عز وجل الذي نزل خلقه حيث يشاء, وعرف حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه, وقدم أبا بكر و عمر و عثمان و عرف حق علي بن أبي طالب............ و ترحم على جميع أصحاب محمد صغيرهم و كبيرهم, وحدث بفضائلهم وأمسك عن ما شجر بينهم, وصلاة العيدين و الخوف و الجمعة و الجماعات مع كل أمير بر أو فاجر, و المسح على الخفين في السفر و الحضر, والقصر في السفر, و القران كلام الله وتنزيله و ليس بمخلوق, والإيمان قول و عمل يزيد و ينقص". مضمون هذه العقيدة, يعارض على طول الخط المبادئ التي تقر بها المعتزلة. و كان من الممكن اختيار العديد من المسائل التي يمكن بها مواجهة فقهاء السنة. فلماذا أختار المأمون و مستشاروه شعار خلق القران دون غيره.
يقول أحد المختصين في تاريخ الدولة العباسية إجابة على هذا السؤال "لم يكن من صالح المأمون مواجهة أهل السنة و الجماعة لا على مستوى مرتكبي الكبيرة, ولا على مستوى القدر وحرية الإرادة و تحمل مسؤولية الأفعال, و لا على مستوى الوعد و الوعيد.... لأن ذلك كله كان سينقلب ضده: فهل كان المأمون يستطيع أن يقول انه هو و سلفه لم يرتكب أية كبائر؟ و هل كان يستطيع أن يقول بالقدر بينما يعلم أن جده باني الدولة أبا جعفر المنصور قد تبنى القول بالجبر تماما مثلما فعل معاوية...... إذن لم يبقى إلا القول بخلق القران و هذه مسألة تصلح فعلا للتوظيف لفائدته.". كما أنه لا يمكن تفسير تفاقم و طول هذه المحنة إلا برغبة الطرف الآخر في الدخول في هذا الصراع. فهم لا يمكنهم التصريح بأن غايتهم قلب الدولة.و بالتالي تعطيهم قضية "خلق القران" فرصة تعبئة الناس ضد النظام, و تقمص دور المسلم التقي المظلوم و المضطهد.
لا أدري لماذا, وأنا أفكر في ما نسمعه هذه الأيام عن الحجاب في تونس, حتى وجدت نفسي أكتب في محنة ابن حنبل و قضية خلق القران.
دشن المأمون حربه على فقهاء السنة و الجماعة سنة 218 ه. سنة 232 صعد المتوكل على عرش أسلافه الميامين.
في سنة 237 ه غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد, الذي كما ذكرنا في البداية كان من أقرب مستشارين المأمون و حافظ على هذه المكانة زمن المعتصم و زمن الواثق. و من بين الإجراءات التي اتخذها المتوكل ضد مستشار أسلافه, هي عزل ابنه محمد عن المظالم, ثم اعتقله و أعتقل إخوته و صفى أملاك أبيه.
ثم اتخذ المتوكل العديد من الإجراءات بدأت بمصالحة الفقهاء, وأمر الناس بالتسليم و التقليد وأمر شيوخ المحدثين بالتحديث و إظهار السنة و الجماعة. كما أمر بإلزام النصارى وأهل الذمة بارتداء لباس بلون خاص, و أمر بهدم بيعهم المحدثة و أخذ العشر من منازلهم. كما أمر بهدم قبر الحسين بن علي و هدم ما حوله من منازل. دشن المتوكل الانقلاب السني. و إعلان انتصارهم على المعتزلة.
لنعود الآن إلى قضية الحجاب التونسية و نحاول قراءتها.
قرر النظام التصعيد ضد الفتيات المحجبات, خاصة في المعاهد و الكليات. بعدما كان في السنوات الأخيرة يتعامل مع هذه المسألة بتساهل و مرونة.
قررت النهضة و كل الفعاليات الإسلامية, المواجهة بمطالبة الفتيات بالصمود, وشن حملة إعلامية كبيرة في اتجاهين.
حملة الأولى موجهة إلى القوى التقدمية التونسية و العالمية, مدافعة على حرية اللباس و المعتقد كقيمة أساسية من قيم حقوق الإنسان. و الثانية إلى الفعاليات الدينية, مطالبة إياها بمناصرتها للدفاع عن فرض ديني واجب على كل مسلمة.
لا نحتاج إلى مجهود كبير حتى نبين تناقض الإسلاميين و توزيع الأدوار, بين من يدافع عن الحجاب من منطلق حقوقي و دفاعا عن الحرية. وبين من يدافع عنه باعتباره معلوم من الدين بالضرورة.
كما أنه واضح للعيان تناقض النظام الذي يدعي الحرية و الديمقراطية, و في نفس الوقت يحرم مواطنين من حقوقهم بدون وجه حق, وبطريقة لا قانونية و عنيفة.
لنفترض أن النظام قدم على هذه الخطوة ليقيس حجم الإسلاميين الحقيقي في المجتمع التونسي, خاصة أنه بعد انتشار ظاهرة القنوات التلفزيونية الإسلامية, و حرب أمريكا على العراق, كل المختصين في الشأن الاجتماعي و السياسي العربي, يقرون بانتشار التدين بنسب كبيرة في البلدان العربية, و هو ما يسميه الإسلاميون ب "الصحوة".
لنفترض أن هذه "الصحوة" حقيقية, إلى حد أنها ستفرض على النظام تغيير إستراتيجيته تجاه الإسلاميين.
نظام ضعيف, و ملغم بحسابات داخلية, يضع في أولوية أولوياته التحالف مع الجهة القوية, حتى وان كانت إسلامية.
دخول الحركة الإسلامية في حلف مع النظام, و هي في حالة قوة, سيدفعها إلى الرفع من سقف مطالبها.
حلف المتوكل مع الحنابلة, لم يؤدي فقط إلى اضطهاد المعتزلة المعاصرين بل إلى القضاء على الفكر المعتزلي نهائيا و إلى الأبد. حتى وان لم تكن إلا قلة من المعتزلة التي تواطأت مع المأمون و أخويه. فان فقهاء السنة لم يأخذوا ذلك بعين الاعتبار و لم يتركوا الفرصة تمر فتم القضاء عليهم و من الجذور (لم يصلنا اليوم من كتب المعتزلة إلا النادر القليل). الصراع بين الحنابلة والمعتزلة, هو أكبر من صراع سياسي. هو صراع حضاري.
من اطلع على الفكر الإسلامي السياسي, يفهم جيدا أنه حتى من ينادي و يناضل من أجل نظام سياسي ديمقراطي-وحركة النهضة منهم-. فهذا المطلب هو مطلب مرحلي تقتضيه حالة الضعف التي هم عليها. أما إذا كانت وضعيتهم تسمح لهم بتخطي هذه المرحلة, فما الذي سيمنعهم من ذلك ؟. يقول الأستاذ راشد الغنوشي في إحدى كتابته أن النظام الديمقراطي ليس بنظام إسلامي.
أسأله و أسأل كل التقدميين الذين اختاروا التحالف معه:
لو سمحت له الظروف ببناء دولة إسلامية, ما الذي سيجعله يتخلى عن تحقيق هذا الحلم؟
مشروعية النضال من أجل إرساء الديمقراطية و دولة القانون و المؤسسات, لا يجب إن تنسينا, أن من شروط تحقق هذا الحلم: القضاء على الرجعية.
لقد حققت الدولة التونسية الحديثة عدة مكاسب في هذا الاتجاه. لا أفهم تحالفا مع من يعتبر هذه المكاسب, مصائب.
قال أحدهم: المباراة لا تلعب إلا بين فريقين لا ثالث لهما. فان كانت هذه المقولة صحيحة. أقول لمن اختار التحالف مع الشيطان , لا تخطأوا الطريق, كما كان الصراع في الماضي بين المعتزلة التنويريين من ناحية و السنة و الجماعة الحنبليين من ناحية أخرى. فهو اليوم بين القوى التقدمية و بين الحركات الإسلامية الرجعية.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأييد حكم حبس راشد الغنوشي زعيم الإخوان في تونس 3 سنوات


.. محل نقاش | محطات مهمة في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.. تعرف ع




.. مقتل مسؤول الجماعية الإسلامية شرحبيل السيد في غارة إسرائيلية


.. دار الإفتاء الليبية يصدر فتوى -للجهاد ضد فاغنر- في ليبيا




.. 161-Al-Baqarah