الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة والمواطن .. كيف يكون المجتمع المدنيُّ رديفاً للدولةِ؟

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2023 / 5 / 14
المجتمع المدني


توطئة
لا مناص من التأكيد على أن الفرد هو أساس تكوين المجتمعات الإنسانية، وهو أصل الإصلاح أو الافساد في الأرض، فلا يصلح من حوله شيءٌ إلا بصلاحهِ، فهو ركيزة البناء والتغيير، لأجل ذلك يؤكد أهل "علم الاجتماع والفكر السياسي" أن مشروع بناء النهضة، أو المشروع الإصلاحي، يجب أن يبدأ بالإنسان الفرد وارادته لضمان نجاحه، فهو "رأسمال الاجتماعي" ومحور صناعة تقدم الانسانية والحضارة.
والتعريف الاجتماعي لعلاقة الدولة بالمواطن (المواطنة) يشمل ارتباط الفرد بالمجتمع السياسي بشكل عام، وما يدخل في إطار هذا المفهوم من قيم الولاء والانتماء والمشاركة والحرية ويعزز مشاعر الوطنية ويدفع المجتمع إلى التماسك والتعايش وفق قواسم قيميّة مشتركة.
وبالتالي "المواطنة" اصطلاح يشمل مجمل الواجبات والحقوق المدنية على مختلف المستويات، وتاريخياً، تطوّرت الجماعة البشرية بالتوازي مع التطور المدني لمفهوم الكيان السياسي التقليدي (المدينة- الدولة) أو الدولة المعاصرة مطلع العصر الحديث، ولا شك أن الدولة –إذا- هي أساس نشوء وبروز المجتمع المدني المعاصر، بحكم وظائف الدولة التقليدية: إدارة شؤون الحكم وضبط العنف أو ممارسة "العنف الشرعي" لضمان الأمن الداخلي والسلم الأهلي، وممارسة العملية السياسية، وتقديم الخدمات الأساسية في اطار مؤسسات بيروقراطية.
ولا شك -بالتالي-أن الدولة هي أساس وجود المجتمع المدني، ونقصد به المجتمع المُنظّم والذي يتشكل من مؤسسات وتكتلات شعبية (اجتماعية وسياسية واقتصادية وقانونية) في إطار قوانين الدولة، فكلما كان المجتمع المدني فاعلاً، كلما كانت الدولة حضارية ومدنيّة.
والمجتمع المدني بدون دولة قوية، مجتمع غاب يخضع للفوضى ولشريعة ما قبل القانون، وبالمقابل، فان الدولة أيضاً، بدون قيمة الفرد والمجتمع المدني الفاعل، تعتبر أشبه بدولة "الثقب الأسود"- نسبة للظاهرة الفلكية المعروفة، حيث تجذب السلطة التنفيذية كل ما يحيط بها من مجال سياسي واجتماعي ولا يفلت من قبضتها شيء- التي تتّسم بالاستبداد والقمع وتتركّز كافة السلطات فيها بيد فئة محددة تقوم بتهميش كافة القوى والمؤسسات الشعبية والمدنية.
ولا يجوز الفصل بين المجتمع المدني والدولة، لأن الفصل بينهما يؤثّر على تعزيز دور الفرد في المجتمع والدولة معاً، فالمجتمع الذي يخضع لقانون يحمي حقوق الأفراد وحريتهم هو بالمحصلة يخدم مصلحة الدولة العليا، وهو رديف الدولة الحقيقي في ظل عجز أو ضعف مؤسسات الدولة عن القيام بدورها، كما هو في الأزمات والحروب والنزاعات.
أما إن لم يجد الفرد ملاذاً آمناً في مؤسسات المجتمع المدني لتعزيز حريته وحفظ كرامته، اتّجه نحو كيانات لا تمثل المجتمع، ولا تخضع للدولة وقانونها الداخلي أيضاً، وهو ما يشكل خطراً جسيماً على بينان الدولة ومؤسساتها ويسهم في خلق الفوضى واشاعة الاضطراب والقلاقل، مهما بلغت قوة أجهزة الدولة في ضبط العنف أو ادارة النزاع.

"الدولة والمواطن" في المشهد الأردني:
والأردن، ومنذ تأسيسه، بدأ المواطن فيه حكاية بناء الوطن، فهو المدماك الاساسي لأي تغيير نحو الافضل، فوضع الرعيل الأول من أبناء الأردن حجر الأساس، فكان الإنسان الأردني "أغلى ما نملك"، كما قال الملك الراحل الحسين بن طلال، مهندس بناء الوطن والانسان.
لقد حفظ الدستور –من حيث الأصل- كرامة الانسان الأردني، وأوجب على مؤسسات الدولة تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية ونبذ كل ما يمس الضرر بحرية وفكر وعقل المواطن وأدميته على كرامة الإنسان وانسانيته.
وقبل عامين، احتفل "المجتمع والدولة" بالمئوية الأولى للمملكة الأردنية الهاشمية، ورغم كل ما تحقق من انجازات على مختلف الأصعدة، خاصة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فان دور الدولة في بناء المواطن والمجتمع المدني، بناءً تربويا سليماً، مهمة صعبة لم تحتل مرتبة الصدارة في مشروع الإصلاح والتطوّر الأردني منذ منتصف القرن الماضي، فلا ينحصر دور الدولة بتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة الأساسية، بل يجب أن ينطلق دورها من قاعدة بناء المواطن بشكل صحّي واشعاره عبر برامج التوعية والتثقيف والمشاركة الانتخابية الحقيقية في صنع القرارات السياسية والاقتصادية ..الخ وتأمين حياة الرفاهية والكرامة، وتعزيز دوره في كافة الصور الديمقراطية، بأنه حجر الرحى في بناء الدولة والشريك الأول في العمران والتقدّم والرفاه.
لقد طرأت، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تغييرات ملموسة على وظيفة الدولة، فيما يتعلق بدورها ووظيفتها السياسية ولاقتصادية والاجتماعية، فأصبح القطاع الخاص هو المحفّز للاقتصاد وسوق العمل وممارسة أنشطة انتاجية متنامية، فيما تراجع دور مؤسسات الدولة عن تحقيق انجاز مكوكي وواضح في معدلات التنمية والتوظيف، فضلاً عن تزايد معدلات البطالة والفساد والدين العام.
ولا جدال أن هذا التحوّل لم يلغِ واجبات الدولة الأردنية في تنظيم الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وتعزيز خدمات التعليم والصحة والبنية التحتية، ومحاولة توفير فرص عمل مناسبة للشباب وتمكينهم بالتدريب والتعليم من الانخراط في سوق العمل، وتطوير بعض جوانب حياة المواطنين اجمالاً.
لكن هذا الواقع أو انجاز الواقع، ان جاز التعبير بوصف الحكومة، لم يحول دون تغيير دور الدولة في مراحل انتقالية متفاوتة وفي توسيع فجوة التوقعات بين الممكن والمرغوب، لاسيما لدى قطاع الشباب، الأمر الذي غذّى الشعور بضعف العدالة وعدم المساواة، وانعكس سلباً على الوفاء بالتزامات الحكومة ومؤسسات الدولة عامة تجاه حقوق المواطن الأساسية، خاصة في الجانب الاقتصادي، فكلما زادت الفجوة الاقتصادية والرفاهية بين طبقات المجتمع، كلما انعكس ذلك سلباً على سيادة القانون وشكل تهديداً لأمن المجتمع والدولة.
إن ازدياد الأوضاع الاقتصادية صعوبة، وضعف قنوات التعبير والتواصل، وتنامي اعتماد الواسطة والمحسوبية، أدى إلى تزايد دور الهويات الفرعية في حياة المجتمع، لاسيما في ظل الاختلالات التنموية والضغوط التي تعرّضت، وتتعرض، لها الطبقة الوسطى بما يؤثر على ثقافتها ودورها، بحيث أصبحت مكونات مجتمعية متنوعة تستبدل الأطر المؤسسية المدنية بالأطر التقليدية "العشائرية والفئوية" المعبّرة عن الهويات الفرعية، لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
واليوم، للأسف، نرى أشباه مواطنين، خيّم اليأس عليهم، وأصبحوا لا يرون إلا السواد والتشاؤم وبث الاشاعات والاحباط، فأصبح المواطن الأردني، بلا مبالغة، محطّماً من الداخل ويشعر باليأس ويفقد الرغبة في العمل والانجاز، بعد أن اتّسعت الهوة بين طموحه وآماله وبين الممارسات المؤسسية الرسمية على أرض الواقع.
لقد فقد المواطن الثقة بالحكومة وأجهزتها، وبمختلف أجهزة الدولة الأخرى، وأًصبح يشكّك بكل سلوك أو نهج تتخذه الحكومة أو بأهدافها، بل ولم يعد يعنيه كثيراً من يتولى مهمة العمل الرسمي والمناصب والألقاب، مادام أن الفعل المُنجز واقعياً لا يرقَ لطموح الشعب، خاصة في البرامج السياسية والاقتصادية، ومكافحة البطالة والفقر، تحديداً.
إن كل المعطيات أعلاه، وبعيداً عن الاسهاب، هي مؤشرات جليّة لتراجع دور الدولة في حياة المواطن اليومية، أو في الحياة المعيشية التي تشكل المقياس الأهم لمستوى رضى المواطنين عن أداء الحكومات وأجهزة الدولة، فضلاً عن التراجع الواضح في مختلف المجالات والميادين، خاصة الاقتصادية والسياسية.

المواطنة قيم لا "جواز سفر" :
ويؤكد الاستاذ عبد الجليل أبو المجد في كتابه "مفهوم المواطنة في الفكر العربي الإسلامي" (الدار البيضاء، 2010م) أن عصر الدولة اليوم يشهدُ دوائراً جديدة من العلاقات بين الفرد والدولة والمجتمع المدني، وأن المواطنة، بالمفهوم الكلاسيكي، والتي تدور حول علاقة الفرد بالدولة، هي إحدى الدوائر، وليست الدائرة الوحيدة للمواطنة، فالمواطنة، برأيه، ليست مجرد انتماء لمجال جغرافي وحمل جنسية وجواز سفر، بل هي أهداف وقيم، فلا توجد مواطنة من دون أهداف وقيم الحرية والتضامن والحس المدني.
ولن نُذيع سراً إذا ما قلنا، أن المواطنة في المجتمع المدني الأردني، وأسوة بالمجتمعات العربية كافة، غائبة في الوقت الراهن، وأهم أسباب هذا الغياب هو عجز مؤسسات الدولة عن تحقيق التنمية الشاملة وضمان حماية قانونية واجتماعية لمواطنيها بأبعادها المختلفة، الأمر الذي دفع إلى انتشار الإحباط والانهزامية لدى شريحة عريضة من المواطنين، "فعدم إشباع الحاجات الأساسية للأفراد يؤدي إلى اللامبالاة على كافة الأصعدة، بل يدفع إلى الهروب من الوطن بحثا عن جنسية ووطن جديدين".
وبينما تتجاهل الحكومات عموماً ضغوط النخبة والمثقفين والمعارضين حول مطالبها بالإصلاح السياسي، تركز على أن ما يهم الشعب هو الشؤون المعيشية والاقتصادية، وهو تصّور قاصر بالتأكيد، فلا عيش كريم بلا حرية فكرية وسياسية.
وعلى افتراض أن الاصلاح أو التغيير ليس مطلبا عاماً أو شعبياً، إلا أن المواطن غير معني بالبرامج والآليات المتعددة، بل هو بحاجة لنتائج مرضية على أرض الواقع، تدفعه للتفاعل السياسي والمشاركة.
وما يهم المواطن، أيضاً، هو تأمين تداول حقيقي على مناصب السلطة التنفيذية وتفعيل دور الأحزاب السياسية في الحياة السياسية والبرلمانية، ومحاربة الفساد وعدم استغلال السلطة والمناصب الحكومية لغير الصالح العام، وهذا يفرض على مكونات الدولة وأجهزة الحكم مناقشة جديّة لقضايا الاصلاح والحاكمية الرشيدة، كما ويتطلب اعادة النظر بكافة القوانين التي تحول دون تطبيق أفكار جلالة الملك النقاشية حول الحكومات البرلمانية ودولة القانون والحقوق والمواطنة.
ولن يتمّ الاصلاح السياسي والاقتصادي دون معالجة جذرية لكل تشوّهات القطاع الحكومي والاداري، خاصة الواسطة والمحسوبية والرشوة واستغلال المنصب العام وغياب الشفافية والبيروقراطية الشديدة، فكلها أمراض "سرطانية" تنخرُ في الجسم المؤسسي الرسمي وتقف حجر عثرة أمام مشروعات التحديث والاصلاح، والمطلوب علاجها باتخاذ الإجراءات الرادعة وتفعيل القوانين التي تضمن المساءلة والتحقيق والمحاسبة والرقابة والشفافية في كشف الحقائق للرأي العام.

المجتمع المدني رديف الدولة :
إن المطلوب اليوم، من الدولة ومؤسساتها، العمل على تغيير حياة الفرد وإصلاح أنماط معيشته وكسب رضاه، ومن ثمّ، فإن اصلاح ما تبقى سيكون بسيطاً للغاية، لأن إصلاح الإنسان المواطن هو "دينامو" كل تغيير وإصلاح جادين، فالتغيير الذي يحصل في شخصية الفرد وينعكس في حياته، سينتقل تأثيره على باقي الأفراد، ثم المجتمع المدني، وهو تغيير لا يتعلق بأنماط الحياة والمعيشة وحسب، وانما يشمل مناهج العمل وطرق التفكير وأسس الانتماء وقيم ومبادئ الدولة الوطنية الأم التي تستوعب الجميع، بلا استثناء أو تمييز.
وإذا ما حققّت الدولة الأردنية، هذه القيم والمفاهيم، فإنها بلا شك تحققّ تجليات مفهوم المواطنة الجادة وتحافظ على خلق مجتمع مدني متحضّر وتحفظ ديمومة تنمية الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، خاصة أن منظومة تلك التنمية ستعزز ثقافة الانتماء والولاء لدى كافة الأردنيين، بوصف أن الأردن دولة قانون، وهو ما يكفل السيادة والمساواة ويضمن الحريات والحقوق الأساسية.
إنّ الدولة التي لا تبادر للاعتراف بالتحديات العميقة، وكما علمنا التاريخ السياسي للدول والشعوب، تتعرّض لمخاطر متزايدة ويؤدي تأخّرها عن معالجة تلك الظواهر إلى تضاعف التكاليف والتضحيات.
وبرغم نجاح الأردن في مواكبة التقدم الاقتصادي والتكنولوجي العالمي، الا أن تحديات أساسية ما تزال ماثلة أمامه فيما يتعمق بإصلاح جوانب عديدة من الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وترسيخ مكانة المجتمع المدني بما يضمن دوام سيادة القانون وتحقيق العدالة،
فالمجتمع المدني هو الرديف الحقيقي للدولة، وهو صمام الأمان للسلم الاجتماعي بما يخلقه من روابط مدنية طوعية بين المواطنين عمى اختلاف أصولهم ومهنهم وميولهم الفكرية والثقافية والسياسية.
ولذلك، فإن الفرصة قائمة للبدء في مراجعات شاملة لكل جوانب الحياة الأردنية. وبالنظر إلى أهمية الأمن المجتمعي والاستقرار في حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإنه يتعين أن تحظى هذه المسألة بأولوية خاصة في اتجاه بناء وفاق وطني على سبل المعالجة لها في المدى القريب، وبما لا يسمح لظواهر أو مظاهر عابرة أن تتجذّر في المشهد الوطني أو أن تجد لها منابر تحريض أو تشجيع، وذلك عمى طريق إيجاد بيئة مجتمعية وطنية ترفض الاعتداء على القانون والانتقاص من سيادته.
نسأل ختاماً ..
كيف نعيد الثقة والأمل للمواطن الأردني ونعززّ دوره في بناء الوطن والاصلاح والتغيير؟
وما هي الخطط والاستراتيجيات التي يمكن تنبيها عملياً لصناعة مستقبل أفضل لحياة المواطن والمجتمع المدني ليكون رديفاً حقيقياً للدولة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تنامي الغضب من وجود اللاجئين السوريين في لبنان | الأخبار


.. بقيمة مليار يورو... «الأوروبي» يعتزم إبرام اتفاق مع لبنان لم




.. توطين اللاجئين السوريين في لبنان .. المال الأوروبي يتدفق | #


.. الحكومة البريطانية تلاحق طالبي اللجوء لترحيلهم إلى رواندا




.. هل كانت المثلية موجودة في الثقافات العربية؟ | ببساطة مع 3