الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإسلام في تركيا: انطباعات أنثروبولوجية

زكرياء مزواري

2023 / 5 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من التخصصات الغائبة أو المغيبة عن برامجنا التعليمية في الجامعة، تخصص علم الإناسة أو ما يعرف بالأنثروبولوجيا، وهو علم وإن ارتبطت سمعته بالاستعمار وأساءت الكتابات الوطنية إليه، إلاّ أنّ قوته أكبر بكثير من أن تختزل في جرّات قلم متسرعة. ويكفي أن ترتبط الأنثروبولوجيا بدراسة الآخر المخالف للأنا، لتتفجر قوتها، وتعتبر الإنسان كائناً ثقافياً بامتياز؛ أي أن مجمل فعله (لغة-لباسا-دينا-أدبا- ...) يعود إلى الثقافة، وإلى البناء الاجتماعي للسلوك الإنساني، فكل شيء مبني ثقافيا، ولا وجود لمسألة الطبيعي في سلوك الإنسان إلا ما يخص جانبه البيولوجي فقط. وهذا ما تنبه إليه العلامة عبد الرحمن بن خلدون سابقاً، حين قال في إحدى فصول مقدمته: "الإنسان بن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه".
على هذا النحو يمكن فهم الكثير من الظواهر الثقافية، والدين أحد أهم النظم الثقافية الموجودة في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية؛ إذ لا يخلو أي اجتماع بشري من مكوّن الدين منذ القدم إلى الآن، بل كثير من نظريات العلمنة في العلوم الاجتماعية التي تبلورت في القرن التاسع عشر، وبشّرت بأفول الدين من الفضاء العام ورفع الطابع السحري عن العالم، تراجع تأثيرها، وصارت في عداد الأدبيات الكلاسيكية التي ينبغي الإطلاع عليها، وظهرت بدءاً من منتصف القرن العشرين، توجهات معرفية جديدة تنادي بضرورة تجديد العدة النظرية والمنهجية لمواكبة ما يجري في الساحة الدينية العالمية من مستجدات.
إن علم الأنثروبولوجيا منذ ميلاده واهتمامه بالنظم الثقافية والدين على رأسها، لم يخض في الأسس النظرية والعقدية للدين على شاكلة الدراسات اللاهوتية أو الفلسفية، بل اتجه صوب الأبعاد التطبيقية للمعتقدات الدينية، وملامسة بعدها المعيش، قصد فهم المعاني والدلالات التي يضفيها الفرد على أفعاله، ومن تم رصد مجموع نظرته للعالم. هذا الهدف، لا يمكن للأنثروبولوجي بلوغه، إلا إذا أخذ بعين الاعتبار البنية الثقافية للمجتمع المدروس، فبينهما تداخل وعلاقة تأثير وتأثر، وأي إغفال لهذه العلاقة يحرم الباحث من فك شفرات النظام الاجتماعي من جهة، ويحرمه من فهم تعدد الصيغ الدينية بين البلدان التي تعتنق نفس الدين من جهة أخرى.
على هذه الشاكلة مثلاً، قدّم الأنثروبولوجي الأمريكي العالمي "كليفورد غيرتز" دراسته المقارنة الوازنة بين إسلام أندونيسيا وإسلام المغرب، تحت عنوان "الإسلام ملاحظا"، وحاول فيه أن يجمع بين أدوات الانثروبولوجي والمؤرخ، إيماناً منه بالتفاعل الموجود بين المنظومات الثقافية والمعتقدات الدينية، وعلى ضوئها استخلص تعدد الصيغ الدينية بين هذين البلدين الإسلامين، النابع من اختلاف التفاعل بين المنظومتين.
هذا الدرس الأنثروبولوجي، وهذا المفتاح المعرفي والمنهجي، يسهل علينا مثلاً فهم طبيعة الإسلام الآن في تركيا الحديثة؛ ففي عاصمتها إسطنبول كمدينة تحتل الصدارة العالمية من حيث عدد مساجدها، تستطيع أن تلمس التعدد الديني لدى ساكنتها أو زوارها، كما تستطيع أن تدرك اختلاف الطقوس تبعاً لاختلاف المذاهب، أو ترى المساجد خاصة العتيقة منها مفتوحة على طول الوقت للزوار والسياح باختلاف نوعهم وجنسهم، كما قد تبصر النساء مثلاً محجبات ويدخن السجائر، هذا بالإضافة إلى وجود كنائس نشيطة يؤدي فيها الناس صلواتهم.
إن تفاعل الإسلام كدين باعتباره مصدر تشريع لقرون طويلة خلال فترة الخلافة العثمانية، مع موجة التحديث القوية والعنيفة التي قادها مصطفى أتاتورك بعد الإعلان عن نهاية الحكم السلطاني في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، أبان عن مرونة الإسلام، وطبيعة تفاعله مع التغيرات الاجتماعية التي مرت منها تركيا، فالكيفية التي يعيش بها الأتراك معتقداتهم الدينية في حياتهم اليومية، تشهد على حجم التحديث التي طالت ذهنياتهم وأنماط تفكيرهم، وعلى درجة العلمنة التي تمكنت من النفاذ إلى أعماقهم، بحيث صار الشأن الديني مسألة خاصة، متعلقة بالفرد وحاجته إلى البعد الروحي، والفضاء العمومي هو ملك للجميع، ولا يحق لأي فئة دينية دون أخرى أن تستحوذ عليه، وأن وظيفة الدولة لا تعني تحريك الأوراق الدينية والطائفية واللّعب على أوتارها، بقدر ما تكمن في ضمان الأمن والسلم والحرية، والوقوف بنفس المسافة والقدر مع جميع المعتقدات، دون الميل لجهة دون أخرى، أو تغليب نمط على آخر.
هذا المستوى الذي وصلت إليه التجربة التركية في علاقتها بالمسألة الدينية، لم يأت من فراغ، أو بين ليلة وضحاها؛ فإرساء معالم الدولة الحديثة، والانخراط في سيرورة التحديث منذ فترة مبكرة، نتيجة الاحتكاك بالغرب، والإصلاحات الكبيرة التي باشرتها سواء في فترة الخلافة العثمانية أو بعد سقوطها، وظهور الدولة القومية، كانت عوامل كلها مساهمة في خلق هذا النوع من الإسلام أو هذه الصيغة من الدين، والتي تختلف كل الاختلاف عن الإسلامات الموجودة في الدول المتبنية لنفس الدين، والتي لا زال مسلسل التنمية والتحديث يسير بوتيرة بطيئة، تحت فعل فاعل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن أمام خيارات صعبة في التعامل مع احتجاجات الجامعات


.. مظاهرة واعتصام بجامعة مانشستر للمطالبة بوقف الحرب على غزة وو




.. ما أهمية الصور التي حصلت عليها الجزيرة لمسيرة إسرائيلية أسقط


.. فيضانات وانهيارات أرضية في البرازيل تودي بحياة 36 شخصا




.. الاحتجاجات الطلابية على حرب غزة تمتد إلى جامعة لوزان بسويسرا