الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفقه هو تدبير القرأن بالميزان

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 5 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من الأوامر الكلية التي وردت في القرآن بصيغة اللوم والحث والتحريض على إتباع ما في اللوم من تقصير ينسب للناس، هو موضوع تدبر القرآن وفقا لما ورد في هذه الآية (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) ﴿٨٢ النساء﴾، بل هناك نص أخر أشد باللوم من هذا وأكثر قسوة فيه فقد جاءت الآية الكريمة (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) ﴿٢٤ محمد﴾، هذا الذم والتقريع لم يكن نتاج إرادة من الناص بدون مناسبة ولا هو فقط تحذير من عدم التدبر في كتاب الله، ولكن لخطورة أمر التدبر كطريق لمعرفة محمول النص وقصدياته وغاياته ودلالاته جاء الأمر شديدا وقويا وبهذه الصيغة الحادة من اللوم.
هناك نقطة مهمة يؤمن بها الكثير ويعمل بها الغالبية العظمى من المؤمنين بالكتاب وهي أن التدبر في النهاية هو التفقه بالدين أو طريق الفقه هو طريق التدبر، فقد كتب د. سعيد حليم كمثال لهذه النظرة التي تخلط بين الفقه كفن والتفقه كطريق ومنهج عبادي وبالمعنى العام والخاص مع عملية تدبر القرآن، وأعتبار الأخير هي واحدة من تحصيلات دراسة الفقه الإسلامي، فيقول ما نصه (أن الفقه في الحقيقة: مَلَكة يتأهل بواسطتها الطالب لاستنباط الأحكام من الأدلة الشرعية؛ فالفقهُ بهذا المعنى ليس عملًا جاهزًا للحفظ، بل هو ممارسة، وتفكير، وتدبُّر، وإبداع، وتجديد) ، إن الإشارة للتدبر هنا على أنه جزء من ممارسات التفقه في الدين جعل من الأمر الوجوبي الكلي مجرد فرع صغير مقرونا بغيره مما لا أمر فيه ولا قوة للأمر حتى، لكن يبقى السؤال هنا حتى تكون الإجابة واضحة ودقيقة ومثمرة ومنتجة، ما هو الفرق بين الفقه والتدبر؟.
في المعرفة عموما وحتى ندرك الأسماء بمسمياتها والمعارف بتعريفها علينا أن نعود إلى معرفة المعنى أو تعريفه أما لغويا أو أصطلاحا أو أستعمالا، لنكون على بينه عما نتحدث به، تقوم التعاريف بوظيفة مهمة الكشف عن ماهية المعرف به، فهي بمثابة الباب الذي يلج منه الطالب إلى المادة التي سيتناولها بالدرس، وتتحد جميع العلوم والمعارف وحتى في الأفكار العادية المطروحة للناس في هذه الخَصيصة الوظيفية، فأي موضوع علمي أو معرفي أو فكري كيفما كان، لا بد فيه من ضبط تعاريفه ومصطلحاته على الوجه الذي يمنحها صفة منفردة لا يشاركها موضوع أو فكرة أو معرفة أخرى، كي يدور الباحث في فَلَكها وإطارها ويضمن لنفسه النجاة من التيه والتخبط إذا ما أخطأ المسار وخرج من حقل التعريف الذي يطلبه إلى حقل مفهوم آخر، فتختلط عليه المصطلحات والمفاهيم وربما يخلط حتى بين الموضوع الأصل وما شابهه أو قرب منه في المعنى أو الدلالة أو المجال الذي يدرسه.
فالتدبُّر عرفا ومن خلال المعنى اللغوي ودلالاته العامة مثلا هو: النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه عادة، قال الجرجاني في تعريف التدبر من هذا الإطار «وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكرَ تَصَرُّفُ القلبِ بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب»، يقول السعدي في معنى التدبر (التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك من "العمل والاتباع")، في التعريفين السابقين ركزا في تعريف التدبر فقط على نتائج التفكير "العواقب"، بمعنى أن التدبر في تعريفهما هو ما ينتهي له العمل بالفكر أو العمل العقلي الذي يقود الإنسان لفهم موضوع ما، فهو ليس ألة تفكر بل صورة ذهنية لنتائج عملية التعقل والإدراك والفهم فقط.
عند فريق أخر من المسلمين نجد أن تفير الكلمات وإعادة بناء التعريف وفقا لما يرونه من معنى، لا يغير من حقيقة أن التعريف ملخصا يعود لنفس فلك التعريف السابق، فقد ورد تعريف يخصهم يقول أن التدبر (هو أخْذ الشيء بعد الشيء وهو الوقوف عند الآيات والتعمّق بها وأخذ العبرة للعمل بها، فهو في الواقع ناتج عن التفسير والتأويل الصحيحين)، نعم يركز التعريف على نتاج التفسير والتأويل الصحيح لا على ألية للفهم ومنهج للتفكر في آيات الله كما جاء في النص (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) الغاية هنا من التدبر ليس تلمس النتائج كما يزعم المعرفون والمفسرون، بل هو طريق للتذكر وتخصيصا لأولي الألباب الذين خصهم الله بالمدح لأنهم يدركون على وجه اليقين ما يريد الله من النص وما فيه.
‏‏ لو قرأنا قوله‏ ‏{‏‏سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى}‏‏‏الأعلى‏ 10‏‏، يقتضى أن كل من يخشى يتذكر والخشية قد تحصل عقب الذكر والتذكر والذكر وما يتبعه من تذكر مفتاحه التدبر في القرآن حسب النص، ومفهوم سيذكر مرتبط بفعل ‏{‏مَن يَخْشَى‏}‏ وهو مفهوم مطلق‏،‏ ومن الناس من يظن أن ذلك يقتضى أنه لابد أن يكون قد خشى أولًا حتى يذكر، وهو ليس كذلك‏ ‏‏بل هذا معلوم كقوله‏ {‏‏هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏} ‏البقرة‏ 2‏، وقوله‏ {‏‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا}‏‏ ‏‏النازعات‏ 45‏‏، وقوله‏ ‏{‏‏فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}‏‏ ‏‏ق‏45‏، وقوله‏‏{‏‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏}‏يس‏ 11‏ وهو إنما خاف الوعيد بعد أن سمعه، لم يكن وعيد قبل سماع القرآن ، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏} ، وهو إنما اتبع الذكر وخشى الرحمن بعد أن أنذره الرسول‏.‏
وقد لا يكونوا قد خافوها أو خشوا منها قبل الإنذار، ولا كانوا متقين قبل سماع القرآن تدبرا وتعقلا وفهما وإدراكا لما فيه، بل هو به ومنه صاروا متقين‏،‏‏ ومثل هذا قوله‏ ‏{‏‏هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ‏} ‏‏الجاثية‏ 20‏ ‏‏، وقد قال في نظيرها‏{‏‏وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏}‏‏ ‏‏الأعلى‏ 11‏‏، وإنما يشقى بتجنبها‏‏‏ وهذا كما يقال‏ إنما يحذر من يقبل، وإنما ينتفع بالعلم من عمل به‏، ‏‏ فمن استمع القرآن بتدبر فآمن به وعمل به صار من المتقين الذين هو هدى لهم‏.، ومن لم يؤمن به ولم يعمل به لم يكن من المتقين، ولم يكن ممن اهتدى به‏ بالنتيجة، بل هو كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}‏‏ ‏فصلت‏‏ 44‏، ولم يرد أنهم كانوا مؤمنين فلما سمعوه صار هدى وشفاء، بل إذا سمعه الكافر فآمن به صار في حقه هدى وشفاء، وكان من المؤمنين به بعد سماعه‏.
إذا التدبر الذي ورد في النص وإن كان يرتب النتائج المتوخاة التي أشار إليها في التعاريف السابقة، لكن ليس كتحصيل حاصل من فعل لأدوات ووسائل ومسائل أخرى، بل هو ألة الوصول الأساسية التي يستطيع الإنسان من خلالها فهم النص ومن ثم العمل بما فهم وأدرك، والنتائج المتوقعة في النهاية هي التي تكون تحصيل حاصل للعمل الصالح الموافق للتدبر في القرأن، وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية جعل الله القرآن كتاباً ميسراً للفهم، وفي هذا المجال يقول القرآن (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ولأهمية هذا الأمر يكرر القرآن هذه الآية الكريمة في سورة القمر أربع مرات، ويقول أيضاً (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ويقول: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا)، والقرآن هنا ليس فقط يدعو الناس إلى التدبر في آياته، وإنما يطلب منهم أن يمارسوا التدبر العميق أيضاً، كما نفهم من قوله سبحانه: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)، قال العلامة الطباطبائي في الميزان "الآيةُ تحضيضٌ في صورة الاستفهام".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البريك العنابي.. طبق شعبي من رموز مدينة عنَّابة الجزائرية |


.. بايدن يعلن عن خطة إسرائيلية في إطار المساعي الأميركية لوقف ا




.. ارتفاع حصيلة الضحايا الفلسطينيين إثر العمليات الإسرائيلية في


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات بالمحافظة الوسطى بقطاع غزة




.. توسيع عمليات القصف الإسرائيلي على مناطق مختلفة برفح