الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنموذج الاستدلالي:من الحساب الصوري البرهاني الى الخطاب الحجاجي الطبيعي

عزالدين غازي

2006 / 10 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


.تقديم
لعل أهم القضايا التي سنتطرق إليها في هذه المقالة المقتضبة هي إشكالية العلاقة بين المنطق والحجاجية، فكلا المفهومين يستند إلى طبيعة واحدة ، تجمعهما خاصية واحدة لانهما يشتركان في الخطاب الاستدلالي بضروبه. ولما كان الاستدلال طريقة يسلكها كل من المنطق والحجاجية كان من الممكن أن نجعل منه " أنموذجا "modèle صوريا نستطيع به المرور بدون حواجز تحليلية إلى عوالم ممكنة أكثر حدسية ورمزية .

.مفهوم الأنموذج
يشكل مفهوم الأنموذج النقطة الحساسة في الأبحاث الجوهرية الفلسفية المعاصرة وخاصة الابستمولوجيا التي من خاصيتها المهيمنة البحث في انبثاق "فلسفة طبيعية" معتمدة على المجهودات الرياضية (المفاهيمية والتقنية) وعلى إمكانية نقل هذه المقاربة إلى ليس فقط الظواهر الفيزيائية بل كذلك إلى الظواهر المرفولوجية منها والبنيوية بصفة عامة، فالأنموذج هو الذي يتيح تمثل نظرية ما في نظرية أخرى، أو بتعبير روني طوم تماثل بين ظاهرة X وموضوع مبنين M (أنموذج M) يتيح ويسمح بالإجابة عن السؤال المطروح إزاء x.
لقد طور توماس كوهن Thomas kuhn وكذلك ألفريد تارسكي Alfred Tarski من بعده ، مفهوم الأنموذج في الدينامية التاريخية للعلوم ( انظر مثلا كتابه: Structure des révolutions scientifiquesالصادر سنة 1970)، بحيث يتكون الأنموذج (الباراديغم) لديه من مجموعة متجانسة من الوقائع والتفسيرات النظرية معززة بعوامل خارج علمية، ظلت الميكانيكا النيوتونية لمدة طويلة أنموذجا للفيزياء إلى أن تمت إزاحتها مع نهاية القرن 19 من قبل التصورات الجديدة للديناميكا الحرارية وللنظرية النسبية.
وخلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي طور مجموعة من الرياضيين والفلاسفة الطبيعيين والعلماء البيولوجيين والفزيائيين والنفسانيين نظرية جديدة في الرياضيات الأساسية سميت بنظرية الكوارث théorie de catastrophes تختزل هذه النظرية الجديدة المفاهيم إلى أشكال والأشكال إلى نظام من الانقطاعات الكيفية وكل شكل فيزيائي يمثله مركز جذب ضمن نظام دينامي في فضاء من المتغيرات الداخلية ،فهي تبحث عن الاستقرار والتحول في نفس الآن. وهذه النظرية الفريدة تعتمد على هندسة الفضاء والتفاعل والتتابع الضروري أو الاحتمالي وهي ركائز نجدها أيضا في الذكاء الاصطناعي وعلوم أخرى…ولقد عرض روني طوم لهذا المشروع الرئيسي في كتابه "الاستقرار البنيوي و قوانين الأشكال".(أنظر د.محمد مفتاح دينامية النص (تنظير وإنجاز) المركز الثقافي العربي ص: 13-15.) .


.تعريف النص الاستدلالي
إن كل خطاب طبيعي هو نص أو بناء يتركب من عدد من الجمل السليمة مرتبطة فيما بينها بعدد من العلاقات ، هذه العلاقات قد تكون علاقات مثنوية أو جمعية ، أي بين جملتين أو أكثر ، ثم كذلك يمكن أن يكون هذا الربط مباشرا أو غير مباشر ( طه عبد الرحمان ، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام ص 20-27) وهذا شرط من شروط النص الاستدلالي الذي هو عبارة عن نص اقتراني بحيث أن كل عناصره مرتبطة فيما بينها ، وأما ما يجعل من النص الاستدلالي نصا استدلاليا هو تلك العلاقات " الاستدلالية " وحد العلاقة الاستدلالية أنها بنية تربط بين صور منطقية لعدد معين من جمل النص أي بنية نونية يمكن صوغها كما يلي : ( صن 1 ،.....صن ء ، .....صن ن-1 ، .....، صن ن )
بحيث يشكل كل صن ء ( 1 > ء > ن ) الصورة المنطقية لإحدى الجمل وتدعى المتوالية الجزئية صن 1 ، ....صن ن- 1 بمقدم هذه العلاقة وصن ن بتاليها .
ويختلف النص الاستدلالي باختلاف ترتيب هذه الصور وبذكرها أو حذفها وباختلاف قيمتها المنطقية .
فقد يكون النص الاستدلالي من الصنف التدرجي الذي تسبق فيه المقدمات النتيجة أو من الصنف التقهقري الذي تأتي فيه النتيجة قبل بيان المقدمات ( تطرق أرسطو في كتابه القياس إلى أنواع المقدمات من جهتي الكيفية والسلب والإيجاب ، انظر في هذا الشان كتاب القياس لابن رشد ، المقالة الأولى من أنالوطيقا أرسطو ) وقد يكون من الصنف الاظهاري إذا ذكرت جميع الصور المنطقية التي تدخل في بناءه ، أو من الصنف الاضماري ، إذا طويت بعض هذه الصور واحتيج إلى ذكرها لتمام بنيته الاستدلالية ، كما يكون من الصنف البرهاني إذا كانت علاقاته قابلة للحساب الآلي أو من الصنف الحجاجي إذا كانت هذه العلاقات تأبى الخضوع لمثل هذا الحساب الصوري ( طه عبد الرحمان في أصول الحوار ص 29) يتضح مما ذكر ، أن النص الاستدلالي يتخذ طبيعة معينة بحسب رتبة الصورة المنطقية في الجملة ، بمعنى آخر ، حذف أو ذكر الصورة يختلف استنادا إلى القيمة المنطقية لهذه الصورة نفسها .
من هذه الزاوية يمكننا أن تحدث عن الاستدلال كخطاب تربطه علاقات ، ولما كان كذلك ، فان حضور هذه العلاقات في القول الطبيعي تجعل منه خطابا استدلاليا وحقيقة الاستدلال في الخطاب الطبيعي أن يكون حجاجيا ، على اعتبار أن الفعالية الحجاجية صفة لكل خطاب طبيعي
وإذا صح أن الخطاب الطبيعي ، وخاصة الحواري ، يستند إلى الخطاب الاستدلالي صح معه أن الخطاب الحجاجي خطاب يعتمد الاستدلال الذي عبره نفهم ونستكشف المستلزم أو المتضمن في النص ، فالمتكلم يذكر دليلا صحيحا على قوله من غير أن يقصد التدليل به وأن يسوق الدليل على قضية بديهية أو مشهورة هي في غنى عن دليل للتسليم بها ( طه عبد الرحمان في أصول الحوار ص 40 ) ذلك أن المتكلم لابد وأن يأخذ بمقتضيات الحال التي تتمثل في المعارف والمعتقدات الموجهة ثم المطالب والأغراض المراد فعلها .

.الأنموذج الاستدلالي بين الخطاب الطبيعي والحساب البرهاني
بإمكاننا إذن ، أن نقول أن " الاستدلال " أصبح "أنموذجا " وأرسطو ،المعلم الأول، إن لم يكن قد أفصح عن كونه يمثل أنموذجا في الخطاب الحجاجي فإنه مع ذلك، قد ألمح في كتابه المقالات أو الطوبيقا الذي طرح فيه جملة من القضايا كلها تتعلق بالمنهج الجدلي و أشار قائلا " إن الاستدلال الاستنباطي صورة للحجاجية " ( Aristote , Topiques, Livre1 ترجمة Branchwigص 1 ) وعمل أرسطو هنا إنما ينطوي على إيجاد منهج أو طريقة تمكنه من تطبيق الاستدلال بأنواعه فتراه ينطلق من أفكار مسلم بها فيجيب عن قضايا مثبتة بدون أن يعرض بما يناقض أو يعاكس المسلم به .
بهذا المعنى ، نصل إلى تصور إطار نموذجي لنظرية الحجاج وسيصبح مفهوم الاستدلال أول من سينمذج الخطاب الطبيعي ويصورنه، ففي فن الجدل منذ السفسطائيين وزينون الايلي وأرسطو كل هؤلاء اشتغلوا بعمليات الاستدلال في البرهنة على صحة آرائهم فكان هو النموذج الأمثل بالنسبة إليهم لاقناع متلقيهم بضروب الجدل وفنونه . وقد استمر هذا الاستخدام عبر تاريخ الفلسفة وخاصة مع ديكارت الذي وظفه للبحث في القضايا الوجودية الشائكة، كذلك فعل كانط حينما كرس جهوده في البحث عن منهج استدلالي متعال عبر عنه بنظرية العقل الخالص منتقدا فيه الكوجيتو الديكارتي .
أفرزت هذه الفلسفات نظريات جديدة في المنطق وفلسفته فبرز أحد رجالاته هو ألفريد تارسكي الذي اكتشف مفهوم " الأنموذج " في الدلاليات الرياضية الذي به يتم نقل نظرية علمية ما إلى أخرى مع الاحتفاظ الجهوي للنظرية الاولى في الثانية (ليس كما ذهب توماس كوهن) . فبما أن المنطق بناء تحكمه القوانين الصورية والخطاب الحجاجي الطبيعي تحكمه القوانين الرمزية، فان المنطق كأنساق والكلام كأحوال طبيعية سيجعلنا نميز بين المنطق كأسلوب أو أداة للفحص وللبث في القضايا بالصدق أو بالكذب والمنطق كموصوف لهذه الأداة والأساليب المستكشفة للظواهر التي تبحثها مصطنعة نماذجها النظرية ، وبتعبير آخر ، البحث أكثر في العلاقات الاستدلالية الحجاجية والمنطقية التي تؤثثها. هذه العلاقات هي ذات طبيعة استدلالية برهانية ثم استدلالية حجاجية ، وما نبغيه هنا هو إبراز طبيعة المنهجين الاستدلاليين : البرهاني والحجاجي .
ولأن اصطدمنا بالمقولة التالية التي تقول بان الاستدلال المنطقي الصارم يقابل الاستدلال الحجاجي المرن ، إن لم نقل الخطاب الحجاجي الهادف إلى إقناع الآخر ، فإننا في هذا الإطار سننطلق من الفرضية التالية : متكلم ومخاطب يتحاوران بطرائق وأساليب يعتمدان في جوهرها على المناقشة والمجادلة بالعقل وتبادل الحجج أي ب " المناظرة " ( انظر الطاهر وعزيز ، المناهج الفلسفية ، مجلة المناظرة ، ع 2 ص 14 ) والإقناع والتبليغ يتم الجدال حتى يؤدي الأمر إلى تحييد المخاطب عن الاعتقاد الأول الذي يتملكه ، بمعنى أن العملية الحجاجية ترتقي بواسطة الأنموذج الاستدلالي إلى مراتب ودرجات إما أن تكون ضعيفة أو قوية في حين أن الخطاب الاستدلالي الصارم المستند إلى عمليات حسابية صورية فهو خطاب في حد ذاته يعتمد قيمتي الصدق والكذب مما يجعله أمام الاستدلال الطبيعي غير قادر على البث في قضايا حدسية وظنية لابد أن تكون معها المرونة في الحكم على قضاياها.

رغم كل هذا لن تستوقفنا هذه النظرة بما يؤكده أرسطو أن الاستدلال شكل للحجاجية الطبيعية ، هذا المفهوم تغير مع عالم البلاغة الشهير شارل بيرلمان الذي تأثر بالنزعة الديكارتية كثيرا ، ذلك ما سوف نراه لاحقا في مقالات عن الأنموذج الاستدلالي عند أرسطو ثم كانط في استدلاله المتعالي وعلماء منطق الحوار المعاصر مثل كراب وبارث وهينتيكا وسارنين وبيث وكيتش وصول كريبك وغيرهم ممن أثاروا زوبعة اللعب بالعبارات المعلنة بين العارضين والمعترضين لبسط الأطروحة في إطار ما يسمى بالأنساق الصورية للجدليات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يرحب بالتزام الصين -بالامتناع عن بيع أسلحة- لروسيا •


.. متجاهلا تحذيرات من -حمام دم-.. نتنياهو يخطو نحو اجتياح رفح ب




.. حماس توافق على المقترح المصري القطري لوقف إطلاق النار | #عاج


.. بعد رفح -وين نروح؟- كيف بدنا نعيش.. النازحون يتساءلون




.. فرحة عارمة في غزة بعد موافقة حماس على مقترح الهدنة | #عاجل