الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن المؤخرات السائلة

زكرياء مزواري

2023 / 5 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ولّت مرحلة المقدّمات كأنّها حلم عابر. كان العصر فيما مضى يتميّز بالصّلابة والقوّة، والزّمن لا يفعل فعلته في الإنسان والحيوان والجماد إلاّ عبر طفرات طويلة الأمد. كانت سيرورة التّاريخ تمشي ببطء شديد، ووتيرة التغيّر ثقيلة الخُطى، بحيث لا يمكنك معاينة أثرها إلاّ بعد مُرور ردحٍ من الدّهر. أمّا الآن، وبفعل تداعيات الثّورة الرّقمية، دخلنا طوراً جديداً ميسمه السّرعة الفائقة، وميزته اللّيونة والسّيولة.
في عصر الهُنا والآن، عصر الاستهلاك والآنية المفرطة، لم يعد هناك متّسع في وقت الإنسان للتفكير في مقدمات الأشياء ومقاصدها، ولا في الغوص في دقائق الأمور وغايتها، بل صارت إنّيته ضحلة لا تبحث عن العمق، وشفّافة لا تطلب السّتر، مزهوة بخوائها، ومنتشية بسردياتها اللّحظية الصّغيرة.
هذا الإنسان الجديد السّائل، الذي بشرّت به فلسفة ما بعد الحداثة، وجسّدته التّقانة الفائقة، بات يطلب مؤخرات الأشياء لا مقدماتها، وأمسى يبحث عن النتائج لا عن أسبابها، إنسان أُحادي البُعد نتيجة التّحكّم المفرط في مدخلات وعيه ومخرجاته، لا يكاد يتجاوز جسده وحوّاسه الخمس.
إن هذا العالم المادي المُصمَت الذي يحيى داخله هذا الإنسان، غيّر الكثير من كينونته، وبات معه مجرد شيء أو سلعة مطروحة في عالم السّوق. لقد فقد كلّ قيمة جوّانية مُتعالية، وصار وجوده مرتبطاً بالاستهلاك ومطاردة الهوايات والموضات، ديدنه التّبضّع، ودأبه ملاحقة آخر إنتاجات السّوق، ما دامت في نظره مؤشراً على درجة "التقدم" و"التحضر"!
هذا التحريض على الاستهلاك، ما كان له أن ينجح لولا قوة الصورة التي تديرها بمهارة عالية الآلة الإعلامية، كآلة نجحت في اختراق وعي الإنسان، وأعادت تشكيل رؤاه لذاته وللعالم وفق مقاسات السّوق، وقوانين العرض والطلب. هذا الغزو الإمبريالي الكاسح لسيكولوجية الإنسان، جعل منه كائناً عارياً مُفرغاً من الدّاخل من أي قيمة تجعله يقاوم درجة التّنميط والتّدجين والتّسطيح، كما صيّره في نهاية المطاف مجرد مادة وظيفية-استعمالية.
لقد أبانت المجتمعات الاستهلاكية عن مدى خواء أفرادها من أيّ حاسّةٍ نقديةٍ، ومن أيّ مضمونٍ إنسانيٍّ مُركّبٍ، كما باتت سلوكاتهم متوقعة وقابلة للتوجيه والبرمجة، بعد أن تفوّقت آلة الذكاء الصناعي المتحالفة مع اقتصاد السوق بخوارزمياتها، واكتشفت الحدائق السرية لهذا الكائن، والمتكوّنة من مجموع الميول والرغبات والأذواق، وكل ما هو حميمي وجوّاني.
إن التّرشيد المحكم للسّوق، وقبضته الحديدية على مراكز اهتمام الفرد المعاصر، جعل حاله شبيه بحال السّمكة الحمراء وهي في "الأكاوريوم"؛ ذلك أنها تعتقد أن عالمها الحقيقي هو ذاك الإناء الذي يحيط بها من كل جانب، وأنها من فرط الدوران داخله، تفقد ذاكرتها القدرة على التركيز والانتباه، وتصير بذلك متلذّذة بوضعها، ومتخيّلة أن عالمها هو أفضل العوالم الممكنة.
إن خطورة تمركز الإنسان المعاصر حول الاستهلاك، لا تكمن في الهوس المبالغ فيه في الشّراء والتّبضّع من أجل التّبضّع فقط، بل في أن يصير جسد الإنسان موضوعاً يقع عليه الفعل، ويصير مفعولاً به في عالم السوق؛ ذلك أن هذا الجسد اليوم، صار صَنَمَ هذه الحضارة الجديدة، وبات يُطلب كغاية في ذاته، مُزيحاً بذلك الصنم القديم الذي تربّع على عرش المملكة الإنسانية لقرون طويلة وهو العقل.
إذا كان الفيلسوف الفرنسي المسكين روني ديكارت في المرحلة الحديثة وضع العقل كأساس لهوية الإنسان، واعتبره بمثابة القاعدة المتينة والصّلبة التي ينبغي للهوية أن تنبني عليها، وأداة لإثبات وجودها، فإنّنا اليوم أمام كوجيطو جديد، يقلب السّابق رأساً على عقب، ومضمونه: "أنا أمتلك جسداً جذّاباً، إذن، أنا موجود". هذا الإبدال المعرفي يعكس درجة تمركز الحياة المعاصرة حول الجسد، ويجلّي مستوى التّفنّن الذي وصلت إليه الحضارة في الاعتناء به.
لم يعد الهوس بالجسد اليوم، مقتصراً على المجتمعات الغربية باعتبارها مجتمعات صناعية ورأسمالية، بل مع الثورة الرقمية، تمم تعميم "الجسد-النموذج" الذي صنعته مؤسسات المتعة واللّذة على كافة أرجاء المعمورة، وجعلت الفرد يستبطن معايير جمال هذا الجسد المتخيّل، ويُحاكم بها جسده الأصلي.
إن إعادة تشكيل وعي الإنسان، وإعادة بناء ذائقته الجمالية، يبرز بجلاء عند الجنس الأنثوي؛ ذلك أن اقتصاد المتعة اليوم صار متمركزاً حول جسد الأنثى بشكل مفرط، وصارت قطاعات التجميل والزينة من أقوى القطاعات المدرّة للرّبح، ويكفي أن نلقي نظرة سوسيولوجية على الإحصاءات المتعلّقة بهذا الموضوع، حتّى يتّضح الأمر بأنّنا أمام مؤسسات احترافية عالية، لها دراية عميقة بسيكولوجية الأنثى، وأمام اقتصاد عقلاني يعرف كيف يخلق حاجات جديدة يوقع بها المرأة في شباكه.
لم يترك قطاع اللّذة شيئاً من جسد الأنثى إلاّ وأصابه، حريص أشدّ ما يكون الحرص على إخراجه من حالة الطبيعة وإدخاله إلى حالة الثقافة؛ فالطور الأول مُزعج بالنسبة إليه، لأنه يُفسد حفلته التّنكرية في تطويعه وتحويله إلى مجرد مادة وظيفية-استعمالية، والطور الثاني يساعده على بسط مزيد من النفوذ عليه، وذلك بعد ترويض العين ونمذجة الذوق وتنميطهما. ومن الأعضاء التي حظيت باعتناء خاص من طرف هذا القطاع، نظراً لما تضفيه على جسد الأنثى من "جمال"، وما تسبغ عليه من "جذب" و"افتتان"، هو عضو المؤخرة.
صحيح أن مؤخرة المرأة على مرّ التّاريخ كانت مركز إغراء للرجل، وصحيح كذلك أن العجيزة البارزة معيار لجمال جسد الأنثى، لدرجة كانت محطّ تغنّي من طرف الشعراء، لكن الفرق بين الأمس واليوم، أن هذا العضو الأنثوي انزاح من الهامش إلى المركز، وصار غاية في ذاته، وأمسى نحته وتكبيره مطلب القاصي والداني، وبات مصدر عدم رضا للأنثى على جسدها إن هي افتقدت للنسخة-النموذج التي رسمها السوق.
لقد وقع تحوّل في وظيفة المؤخرة، وانتقلت من عضو طبيعي له وظائف بيولوجية إلى آلية للجمال وإنتاج الفرجة، وأداة لنزع الاعتراف وإثبات الذات من خلال الاستعراض، وصارت قيمة جمال الأنثى مستمدة من المؤخرة، وباتت الوصفات الطبيعية منها والصناعية ديدن المرأة وشغلها الشاغل. لقد نجح قطاع اللّذة في الاستثمار في صناعة "المؤخرة-النموذج" وفق ما يطرحه السوق من سلع، وما يعرضه من أشكال وأنواع، ونجح في صياغة أذواق الذكر كذلك عبر الصورة والإشهار، وذلك من خلال قولبة معايير الجمال لديه، وجعله يختزل جسد المرأة في شكل وحجم مؤخرتها، بل وباتت متعته الجنسية لا تكتمل إلا بوطء هذا العضو!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تلوح بإرسال قوات إلى أوكرانيا دفاعا عن أمن أوروبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا بشأن عملية رفح وصفقة التب




.. بايدن منتقدا الاحتجاجات الجامعية: -تدمير الممتلكات ليس احتجا


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تغلق شارعا رئيسيا قرب و




.. أبرز ما تناولة الإعلام الإسرائيلي بشأن تداعيات الحرب على قطا