الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فترة الحماية الفرنسية للمغرب: جدلية التقليدانية والتحديث

صلاح الدين ياسين
باحث

(Salaheddine Yassine)

2023 / 5 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تقديم:
إن فترة الحماية الفرنسية التي امتدت من تاريخ التوقيع على معاهدة فاس (30 مارس 1912) إلى غاية حصول المغرب على استقلاله، قد كشفت بوضوح عن ازدواجية مرجعيات الحقل السياسي المغربي، بين ما هو حديث، وما هو تقليدي، سواء تعلق الأمر بالنظام الذي أقامته سلطات الحماية الفرنسية (المحور الأول)، أو الوعي المركب الذي طَبَعَ النخبة الوطنية التي ناضلت من أجل استقلال المغرب (المحور الثاني).
المحور الأول: نظام الحماية الفرنسية: تغيير في ظل الاستمرارية
تتمثل أهمية معاهدة الحماية التي جرى توقيعها بتاريخ 30 مارس 1912، في كونها تمهد لنظام سلطوي جديد بالمغرب مكون من طبقتين مزدوجتين: الأولى تقوم على المؤسسات والعلاقات التقليدية (المخزن)، والثانية تنبني على آليات الحُكم والسيطرة الحديثة (الدولة) . وهكذا فقد ورث محمد الخامس عرشا تحت وصاية أجنبية، لا سلطة له على أي من آليات الدولة الحديثة: الجيش، المالية، الإدارة، العلاقات الخارجية. لم يحتفظ السلطان من الناحية الفعلية سوى بإدارة الأملاك المخزنية، الأوقاف، المحاكم الشرعية، والتعليم الأصلي أي الديني.
لقد اقتصرت إصلاحات الحماية الفرنسية على بنية نظام المخزن، دون أن تطال عمقه، إذ أعطى الفرمان الشريفي المؤرخ في 31 أكتوبر 1912 للمخزن الشريفي وجها جديدا. فالوزير الأعظم لم يعد مجرد مساعد للسلطان، بقدر ما أضحى صاحب سلطة تنظيمية عامة مُفَوضة له من قبل الخليفة. وإلى جانبه وزيرين آخرين: أحدهما مكلف بالحرب، والآخر مكلف بالمالية . هذا بالإضافة إلى ما أمدت به الحماية الفرنسية السلطان من جهاز إداري وقوة حديثة، مكنته من القضاء على بعض منافسيه التاريخيين (وخاصة العلماء والقبائل والزوايا)، أو أقله تحجيم نفوذهم.
ولم يكن هاجس سلطات الحماية الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في معاهدة فاس (30 مارس 1912)، حين ارتأت المحافظة على الوضعية الدينية للسلطان، والتقاليد المغربية الراسخة، بقدر ما كانت تروم من خلال ذلك توظيف النفوذ الروحي لأمير المؤمنين، بقصد إسباغ الشرعية على قراراتها أمام السكان، لا سيما بعد أن أدركت فرنسا بأن التخلي الظاهري عن السلطة لرئيس الدولة (السلطان في هذه الحالة)، مع الاحتفاظ بجوهرها، يُعد أكثر فائدة بالنسبة إليها من حكم المغرب بصفة مباشرة كما حدث بالجزائر.
وبناء على ذلك، فقد اعترض الماريشال ليوطي أول مقيم عام فرنسي بالمغرب على مطالب دعاة الجمهورية، إذ رفض تنحية السلطان، والتدخل في الشؤون الداخلية للقبائل، مع الحفاظ على نظام الظهائر القانونية الذي كان معمولا به قبل مجيء الحماية الفرنسية . وفي ظرف نصف قرن، أُقيم على أرض المغرب مجتمع جديد وافد - بقاعدته الإنتاجية، وتنظيماته الاجتماعية، ولغته، وثقافته، وعقيدته الخاصة - مجاور للمجتمع الأصلي، غير متداخل معه.
وهكذا، حافظت سلطات الحماية على تقليد البيعة ووظفته بانتظام، بقصد إضفاء الشرعية على وجودها، وعلى القرارات السياسية التي كانت تتخذها باسم السلطان – أمير المؤمنين. فالصلاة ظلت تُقام باسم أمير المؤمنين في جميع مساجد المغرب، بل إن السلطان قد تَرجم واقعيا إمارته للمؤمنين يوم 11 أبريل سنة 1947، بمناسبة زيارته لمدينة طنجة، من خلال إمامته صلاة المسلمين بنفسه في المسجد الأعظم للمدينة.
كما ظلت السلطات الفرنسية وفية لسياسة "فرق تسد" التي كانت مُتبعَة في نظام ما قبل الحماية، إذ عملت على تأطير البادية البربرية من طريق القضاء والعرف، في مسعى لعزلها وتوظيفها سياسيا في مواجهة أي حركة محتملة تقوم بها بورجوازية المدن، أو السلطان ضد مصالح الحماية الفرنسية. ومن أبرز تجليات هذه السياسة سياسة "القواد الكبار"، وإصدار ظهير 16 ماي 1930 المعروف ب "الظهير البربري". وقد ورث مغرب ما بعد الاستقلال الطابع المزدوج لنظام الحماية الفرنسية، حينما وجد نفسه أمام جهاز مخزني عتيق، يعج بحاشية من أعيان القصر والشخصيات الدينية، يتعايش مع جهاز إداري عصري، لا يعرف أحد من المغاربة كيفية تسييره باستثناء الفرنسيين.

المحور الثاني: الحركة الوطنية بين التقليد والحداثة
اتصفت فترة النضال من أجل استقلال المغرب بوعي مزدوج: فمن جهة، كان ثمة من يدعو إلى التشبث بالتقاليد المغربية والهوية الدينية، في مقابل تيار آخر ينزع إلى التحديث. وقد عبر علال الفاسي (1910-1974)، بوصفه أحد زعماء الحركة الوطنية عن هذا الوعي المزدوج، إذ تبنى الأفكار الإصلاحية التي كانت سائدة في المشرق الإسلامي، محاولا التوفيق بين العودة إلى الهوية الإسلامية الأصلية، والانفتاح على الحداثة بعد تكييفها مع تعاليم الإسلام.
وبرأي واتربوري، فإن توظيف التقليد والعادات الاجتماعية المحافظة، يُعد من أهم سمات السلوك السياسي المغربي، فقد استعمل الوطنيون الصلاة للاحتجاج ضد الظهير البربري، واعتمد حزب الاستقلال على الأسلوب نفسه، حين طالب الوطنيين بمنحه جلود أكباش عيد الأضحى لسد عجزه المالي . وقد رفع الحزبُ عينُه عريضة المطالبة بالاستقلال إلى سلطات الحماية الفرنسية بتاريخ 11 يناير سنة 1944، والتي طالبت بإحداث نظام سياسي شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية - الإسلامية في الشرق، تُحفظ فيه حقوق سائر عناصر الشعب المغربي وسائر طبقاته، وتُحدد فيه واجبات الجميع، مما يُبرز بوضوح المرجعية المحافظة التي يستند إليها الحزب.
وإلى جانب حزب الاستقلال، كان بعض الوطنيين التقليدانيين يرفضون بشدة أفكار وتوجهات الحركة الوطنية "العلمانية"، مخافة تفسخ الهوية المحلية، وزوال اللحمة الدينية. وهكذا فالحل الوحيد في نظرهم للحصول على الاستقلال، هو تبني الإسلام ليس فقط كعقيدة، بل كمنظومة اجتماعية متكاملة، وكنظام سياسي شامل. ويحيل محمد نبيل ملين في كتابه "فكرة الدستور في المغرب، وثائق ونصوص (1901-2011)" إلى وثيقة تجسد تصور أحد الوطنيين التقليدانيين، وهو محمد المنتصر بالله الكتاني.
لقد أسس الكتاني حزبا سياسيا سنة 1942، أطلق عليه مسمى حزب الخلافة، ووضع له منهاجا أسماه فتية طارق والغافقي، تيمنا بفاتح الأندلس، وبقائد معركة بلاط الشهداء بفرنسا. وقد دعا الكتاني في رسالته إلى تطبيق الشريعة في كل المجالات اقتداء بالسلف، والجهاد بالسيف والقلم، بهدف تحقيق استقلال بلدان المغرب الكبير، وانضمامها إلى جامعة الدول العربية، في أفق التحول إلى اتحاد إسلامي شامل تتمتع كل دولة فيه بحكم ذاتي. كما يرى مؤلف الرسالة بأن نظام الحكم الذي ينبغي أن يسود المغرب يجب أن يكون مستمدا من القرآن والسنة والمذاهب الأربعة، بحيث يخول للملك سلطات واسعة رغم وجود مجلس منتخب، بهدف أسلمة وتعريب الدولة والمجتمع المغربيين.
وفي المقابل، برز طيف واسع من المثقفين المغاربة المنتمين إلى الحركة الوطنية الساعين إلى تقييد السلطة، وخلق هيآت تقريرية إلى جانب السلطان، وهي النخب عينها التي ناضلت ضد الحماية الفرنسية بالتحالف مع السلطان محمد بن يوسف، فقد أُتيحَ لغالبية أفرادها التعرف على المؤسسات السياسية الفرنسية، وعلى أعلام الفكر السياسي الحديث بأوروبا، أمثال "مونتيسكيو"، و"جان جاك روسو"، و"جون لوك" . وهكذا، برزت ملامح طبقة سياسية جديدة، تتشكل من الشباب الذين واصلوا تعليمهم في المدارس الحديثة في فرنسا، أو في دول الشرق الأوسط. إذ امتازت هذه النخبة برغبتها في تحديث العمل السياسي بالمغرب وعصرنته، حيث شرعت في تكوين الجمعيات، والوداديات، ثم الأحزاب السياسية فيما بعد.
وقد عبر عن هذا التوجه حزب الشورى والاستقلال ذو المرجعية الليبرالية الحديثة، إذ فتح قادة هذا الحزب قنوات الاتصال مع الإقامة العامة في غشت 1947، تكللت برفع مذكرة يوم 23 شتنبر من نفس السنة، تتضمن برنامج عمل مستعجل، من بين أهم ركائزه انتخاب مجلس وطني، تكون أولى مهماته سن دستور يضمن الحريات، ويكرس فصل السلطات، في أفق تحقيق هدف الحزب المتمثل في إرساء دعائم نظام ليبرالي ديمقراطي، يسود فيه الملك ولا يحكم.
وإلى جانب حزب الشورى والاستقلال، برز حزب الإصلاح الذي لعب أدوارا ريادية في نشوء وتطور الحركة الوطنية. فمنذ بداية الخمسينيات، شرع قادة الحزب في الحديث عن شكل نظام الحكم الأكثر مواءمة لمغرب الغد، خاصةً وأن بشائر الاستقلال بدأت تلوح في الأفق. ومن هذا المنطلق، أصدرت اللجنة التنفيذية للحزب مشروع دستور أبصر النور في فاتح سنة 1954. تتكون هذه المسودة من مقدمة وخمسة أبواب، بحيث تجعل من الشعب مكمن السيادة ومصدر السلطات، بغرض إنشاء نظام ديمقراطي برلماني، يسود فيه الملك ولا يحكم، وهو ما يعد تجسيدا للمرجعية السياسية الحديثة.
خلاصة:
عمل نظام الحماية الفرنسية على استيراد بعض تقنيات وآليات الدولة الحديثة الغربية، ليتم صهرها في قالب نظام المخزن، والذي تم الحفاظ على جوهره التقليدي (إمارة المؤمنين، البيعة...)، في مسعى من سلطات الحماية لإسباغ الشرعية على سياساتها، وتفادي الاصطدام مع التقاليد والأعراف المحلية. كما أن هذه الازدواجية التي أرسى لها نظام الحماية، كان لها بالغ الأثر على النظام السياسي المغربي في حقبة ما بعد الاستقلال، من حيث الصراع المستمر بين أنصار المرجعية التقليدية، ودعاة المرجعية الحديثة.
* مراجع:
- ملين، محمد نبيل، فكرة الدستور في المغرب، وثائق ونصوص (1901-2011)، تيل كيل ميديا.
- العروي، عبد الله، "من ديوان السياسة"، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2010.
- أكنوش، عبد اللطيف، "السلطة والمؤسسات السياسية في مغرب الأمس واليوم"، الدار البيضاء: مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، 1988.
-معتصم، محمد، "النظام السياسي الدستوري المغربي"، الطبعة الأولى، الدار البيضاء: مؤسسة إيزيس للنشر، 1992.
- Naimi, A, Monarchie marocaine : du fonctionnement traditionnel à la modernité constitutionnelle, inactuel.ma : https : //inactuel.ma, (06/04/2021).
- واتربوري، جون، "أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية"، الطبعة الثالثة، ترجمة: عبد الغني أبو العزم وآخرون، الرباط: مؤسسة الغني للنشر، 2013.
- Zekri, k,. « Aux sources de la modernité marocaine », OpenEdition Journals, URL : http://journals.openedition.org/itineraires/463, (le 23/06/2014).
- حمداوي، جميل، "سوسيولوجيا النخب: النخبة المغربية أنموذجا"، الطبعة الأولى، شبكة الألوكة، 2015.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يكثف غاراته على مدينة رفح


.. مظاهرات في القدس وتل أبيب وحيفا عقب إعلان حركة حماس الموافقة




.. مراسل الجزيرة: شهداء ومصابون في قصف إسرائيلي على منازل لعدد


.. اجتياح رفح.. هل هي عملية محدودة؟




.. اعتراض القبة الحديدية صواريخ فوق سديروت بغلاف غزة