الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من المشروع الحديث إلى العالم السائل، حوار مع زيغمونت باوْمان

رويدة سالم

2023 / 5 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


+ أن يكون المرء غريبا هو وضع ثقافيّ مريحٌ جدّا
+ ما يقوم به علماء الاجتماع هو إعادة تدوير تجارب الوجود البشري المختلفة في العالم
+ إن مهمة الكاتب ورسالته وهدفه والتزامه ذاته هو أن يُمزق السّتائر


أجرى هذا الحوار أستاذ الحضارة الأمريكية وطالب الدكتوراه في تاريخ الأفكار "سيمون تابيت" مع عالم الاجتماع ومنظر الحداثة السائلة زيغمونت باوْمان، في منزل هذا الأخير في ليدز على مرحلتين الأولى في 10 ماي 2015 والثاني 10 ديسمبر 2015 ونُشِر تحت عنوان "من المشروع الحديث إلى العالم السائل" في مجلة سوسيو 8/2017 : 35-36.

* تلقيتَ تكوينك الفكري في جامعة وارسو، في خمسينات القرن العشرين، قبل أن تصير، سنة 1964، أستاذَ علم الاجتماع، وشخصيةً بارزة في هذه المؤسسة التعليمية وتنتهج نقد الاشتراكية الحقيقية والبحث عن ماركسية غير تقليدية. ما هي الذكريات التي تحتفظ بها عن هذا المسار الأكاديمي؟
- أعتقد أني كنت محظوظا جدا بدراستي وتدريسي في جامعة وارسو. ففي تلك الحقبة، كانت هي الجامعة الوحيدة، في الشرق والغرب، التي تضمُّ كل مدارس علم الاجتماع وتمكِّنُ من دراسة كل التيارات ووجهات النظر والمواقف والنظريات الموجودة في علم الاجتماع. ومثل ذلك التنوع كان فريدا وغير موجود في أي مكان آخر إذ أن كل الجامعات الأخرى، بصورة عامة، كانت منقسمة، فيما بينها، إلى أحزاب وطوائف مَحدودة ومُقيِّدة ومُلزِمة حتى عام 1968، حين بدأت تظهر معارضة لهمينة السوسيولوجيا التقليدية وقام مفكرون مهمُّون للغاية، مثل تشارلز رايت ميلز أو ألفين غولدنير، بصياغة مفاهيم أخرى لعلم الاجتماع واحتجّوا على ديكتاتورية الوظيفية البنيوية – الفظيعة والسقيمة – لتالكوت بارسونز. لكن كل ذلك حدث بعد مغادرتي لوارسو، حين كنت منفيّا خارج بولندا، لهذا يمكنني الجزم أنه خلال السنوات التي كنت أتردد فيها على جامعة وارسو، كانت هي المؤسسة الأكاديمية الوحيدة التي تقدم للطلاب فرصة التعاطي مع كل جوانب العلوم الاجتماعية في تلك الحقبة مما يتيح لهم الاختيار أو التوفيق أو التوليف بينها...
عندما وصلت إلى ليدز، فوجئت كثيراً بأني كنت ألمُّ بتيارات علم الاجتماع العالمية، في ذلك الوقت، أكثر بكثير، من الإنجليز الذين كانت مجالات معرفتهم محدودة للغاية في ذلك الصدد وهو أمر لم أكن أتوقعه، على الإطلاق. فقد كانوا يجهلون تماما، على سبيل المثال، علم الاجتماع الفرنسي أو الألماني. أتذكر جيداً أني صارعت كثيرا لأدرج لدى زملائي مفهوم الهرمينوطيقا  الذي لم يكونوا قد سمعوا به، إطلاقا. لهذه الأسباب، أنا مدين جدا "للتكوين الفكري" الذي تلقيته في وارسو والذي حصّنني، ضد النزوع إلى صياغة حقائق ختامية ونهائية وإطلاقية. وهي مرونة لم تكن نابعة من النسبية، بل كانت تشكيكية فنحن جميعاً "في طور تكوين" طوال الوقت وبالتالي لا يمكننا ادعاء صياغة معرفة نهائية ثم الخلود للراحة. أعتقد أن الإرث الذي منحتني إياه جامعة وارسو هو التدقيق المستمر والتساؤل الصارم والبحث الدائم وأنا مدين، في ذلك، لأساتذتي.

* قلت، بخصوص وصولك إلى ليدز: "كان يبدو أن بإمكاني العيش في هدوء، بفضل ماضيَّ كمعارض". ومع ذلك ، سرعان ما ابتعدت عن المسار "الكلاسيكي" للمعارضة الشيوعية التي تحولت إلى الليبرالية ومعاداة الماركسية. كيف تصف موقفك اليوم؟
- أود القول إن مصالحي واهتماماتي كانت مختلفة مقارنة بالمنشقين السوفيات، فعندما وصلت إلى انجلترا، اتصلت بي عدةُ مؤسسات مختصة في "دراسة وتحليل النظام السوفيتي soviétologies " وكان هناك عدد كبير منها في كل مدينة، وكان هو الفرع الوحيد من العلوم الاجتماعية الذي يهتم به مولعون حقيقيون وتقام له مؤتمرات دولية لا تحصى... واقترحوا عليّ، مرارا وتكرارا، أن أصبح أخصائيا في الشأن السوفياتي. ولكن ذلك لم يُثر اهتمامي، لأنني منذ أن بدأت دراسة علم الاجتماع والعمل عليه، ركزت على نقد كل المجتمعات، مخالفا بذلك علم السوسيولوجيا السائدة، في ذلك العصر، مع مدارسها الماركسية والوظيفية التي كانت تتشارك، حينها، خلاصة محورية تقول: "هذا مجتمع مثالي قادر على التوازن الذاتي وإعادة إنتاج نفسه، إذا فالهدف، الآن، هو الدراسة التفصيلية لنمط آليات عمله". لكن كيف يمكن أن تلغي هذه الأنماط الانحرافات أو الانشقاقات أو التغييرات؟ لقد كانت اهتماماتي الفكرية، دون معرفة الدّافع الحقيقي لها، مناقضة، تماماً، لذلك التوجه. فقد كنت مهتما، قبل كل شيء، حتى في المجتمعات المستقرة نسبيا، بما هو مفقود وما لم يكن يسير كما يجب.
في فرنسا، كان كورنيليوس كاستورياديس هو قدوتي في طريقة التفكير وهو لم يكن يعرف ذلك، لكنني قرأت أعماله باهتمام كبير. فمن مأثوراته قوله إن: "ما يعوز المجتمع اليوم هو توقفه عن مساءلة نفسه". لهذا السبب اعتمدت، طوال الوقت، نهج التساؤل، مَكمَن المشكلة، تحديدا. في المرحلة الأولى من حياتي، كنت قد صرت "مراجعا للتاريخ" لأنني كنت أنقد الطريقة التي طبقت بها الشيوعية في بولندا، وعندما وصلت إلى انجلترا، صغت أولاً نقدا للحداثة، ثم اليوم نقدا لما بعد الحداثة. لكن هدفي يبقى ثابتا ويتمثل في النقد دوما وباستمرار. وهذا هو بالتحديد السبب في أنني لم أكن لأشعر على الإطلاق بأني في مكاني الصحيح لو بقيت مع المختصين في الشأن السوفييتي الذين يعتمدون في الواقع مبدأين فكريين ثابتين. أولهما، هو إدانة المجتمع الشيوعي، أو بشكل أكثر دقة المجتمع الاشتراكي. والثاني هو الافتراض بأن العلاجات يمكن العثور عليها في الرأسمالية والسوق الحرة (الخ). هناك، إذا، لونان فقط هما الأبيض والأسود. وهذه الثنائية كانت سمة كلا النموذجين المهيمنين على علم الاجتماع. إلا أن الألوان تتغير فما كان أسود، هنا، كان أبيض هناك، والعكس صحيح. لهذا، كنت أشعر بالامتعاض من حالة المعرفة تلك، وكان يستحيل عليَّ الانضواء تحت رايتها فهي، حسب وجهة نظري، وصفة مثالية لتجريد السوسيولوجيا من أي علاقة لها بالحياة الاجتماعية. في حين أن جوهرها، بالنسبة إلي، هو التحاور الدائم بين جميع التجارب الإنسانية المختلفة للحياة الاجتماعية. إن ما نقوم به، نحن، علماء الاجتماع، هو إعادة تدوير تجارب الوجود البشري المختلفة ضمن العالم. على الأقل هذا هو المسار التي أتبعه.

* الموقف الفكري الذي تصفه قريب جداً مما وصفه إدوارد سعيد بـ"وضع الغريب outsider " والذي ربطه بوضعية سيرة المنفى الذاتية. لقد تم وصفك أنت ذاتك بأنك غريب: كيف تنظر إلي هذا الأمر؟
- أعتقد، هذه المرة أيضا، أنني كنت محظوظا فحسب. لقد خدمني القدر لأنه، بتعبير فكري، وخاصة في العالم الثقافي، أن يكون المرء غريبا هو وضع متميِّز. فكونه دون روابط أو قيود مكانية، إذا جاز التعبير، يعني أنه غير قابل للتحديد والتعريف... وواقع كوني قادرا على تجميع خبراتي المختلفة، في رحم عدة أنواع من المجتمعات، لم يكن أي منها موطني الطبيعي الذي بإمكاني أن أشعر فيه أنني "في بيتي"، هو أمر مفيد للغاية. فأن يكون المرء، في انجلترا، منفيا أو أجنبيا أو أيضا "نكرة" هو أمر مريح للغاية. غير أن ذلك يعتمد على الوضع الاجتماعي الخاص بك بطبيعة الحال، فهناك كثيرون، في ضواحي لندن، يعانون، بالتأكيد، لأنهم يتحدثون بلهجة مختلفة أو لأن لون بشرتهم مختلف قليلا، ولكن في الكلية، الأمور تختلف لأن الجميع يتسامح معك.
الكاتب التشيكي الفرنسي، "ميلان كونديرا" كتب أشياء مهمة للغاية، ليس فقط في رواياته ولكن أيضا في مقالاته. ففي كتاب "الوصايا المغدورة" على سبيل المثال، والتي هي سلسلة من المقالات القصيرة، تحدث عن فعل "تمزيق الستار" الذي يبدو لي ضروريا. يقول "كونديرا" إن مهمة الكاتب ورسالته وهدفه والتزامه ذاته هو أن يمزق الستار. لأن الستائر، عادة وبطريقة بالغة الرقة وغادرة، منسوجة من مفاهيم وصور نمطية وحقائق مزعومة، ووقائع غير مؤكدة، (الخ). وهي، بدلا من كشف الأشياء لعينيك، تبعدك عن الواقع. وعلم الاجتماع، في الأخير، وبمعنى من المعاني، هو عملية هدم، عليه تدمير ذلك الحجاب السميك جدا من الأحكام المسبقة والصور النمطية التي تحدد مسبقا نظرتنا إلى العالم حتى قبل أن نبدأ بالتفكير فيه.
نحن مكيّفون، مسبقا، بشكل كبير، وتضاعف الحال، اليوم، مع عصر وسائل الإعلام، والحوسبة والعالم الرقمي. لقد صرنا، دونما توقف، عرضة لـ"الضجيج غير المنقطع" للمدينة ذات الترابطات المعقّدة، والتي لم يعد هناك مهرب منها، ونسينا حتى سبل هجرها. كما لم نعد نمتلك الوقت لمجرَّد الجلوس والتفكير والتحليل والتوصُّل إلى بعض الاستنتاجات. تأمَّل لغة الإعلامية وستجد أنها لا تتطرَّق مجازيا إلى السباحة أو الغوص بل إلى ركوب الأمواج مما يعني، إذا، البقاء على السطح. وهذا يقودني إلى الاعتقاد بأن علم الاجتماع هو مهمة لم تكتمل. إنها مهمة غير قابل للاكتمال لأن الستائر حال تمزيقها، تُعيد نسج ذاتها ثانية وباستمرار، في أشكال أخرى. لذلك، فإذا صغنا، علم الاجتماع في شكل قاعدة سنقول إنه، في الواقع، "عمل دائم". وإذا بدأت بالتفكير سوسيولوجيا، يمكنك الاطمئنان إلى أنك لن تكون أبداً عاطلاً عن العمل. بالطبع يمكن ذلك لو سعيت وراء راتب، لكن في مجال الأفكار، سيكون هناك دائما شيء عليك إنجازه.

* هل يمكنك العودة إلى مفهوم الحداثة الموضوع المحوري في ثلاثيتك المؤسِّسة، المكتوبة باللغة الانجليزية، "المشرعون والمؤولون" (1987) و"الحداثة والهولوكوست" (1989) والحداثة والازدواجية (1991) والتي عززت، في نهاية الثمانينات، أعمالك السابقة.
- إذا ما سُئلت اليوم عن العنصر الأكثر خطورة في "المشروع الحديث"، إذا جاز استخدام هذا التعبير، فإن إجابتي ذات شقين. يركِّز الجزء الأول من هذه الإجابة على ما تبقى من مجتمع "البستنة"، أي الهوس والوسواس القهري لإنتاج النظام الذي هو وضع الأمور في نصابها مما يعني، عمليا، التصنيف، والترتيب والفصل واحتساب الناس ... وبطبيعة الحال، في كل مرة يتمّ فيها إنتاج النظام، ويتوجب ترتيب شيء مّا، يقع إنتاج متزامن، سواء شئنا ذلك أم أبينا، لأناس لا يستطيعون التكيف مع النظام المستحدث ويعجزون عن الانضواء "في إطار" النموذج الجديد. لهذا فإن الرغبة المستمرة في التحديث، والتي تعني أن كل فعل خلق يحتوي على عنصر دماره، أي ذاك "التدمير الخلاق" أو بالأحرى "الخلق المدمِّر" هي السمة الأولى الضارّة للحداثة.
السمة الثانية تكمن في "فلسفة الهيمنة"، على حد تعبير أنطونيو غرامشي، الكامنة في الحداثة. كان غرامشي قد تحدث بالفعل عن فلسفات الهيمنة (وليس الأيديولوجيات) التي تخترق المجتمع بأكمله بطريقة "بالغة النعومة"، كما وصفها ميشيل فوكو. وُجِد ، في كل العصور، فلاسفة يكتبون، في أبراجهم العاجية، كتباً معقدة جداً، تنتشر أفكارها، رغم ذلك، في كل الاتجاهات وبفاعلية في كامل المجتمع. يستمد منها الإنسان الاجتماعي حقائق جاهزة، يعبر عنها أفضل تعبير مصطلح اعتقاد شائع " doxa" والاعتقاد الشائع هو الفكرة التي يفكر بواسطتها المرءُ ولكن لا يفكر فيها لأنها أفكار مسبقة فحسب.
وبالتالي، تنبني الفلسفة المهيمنة للحداثة، حسب رأيي، على المُسلّمَة التالية: الهدف من التطور التاريخي أو التقدم أو غيرهما، هو جعل الحياة عملية ومريحة. وكنتيجة منطقية، يترتب على ذلك أنه يجب علينا التخلص من الأشياء المزعجة وغير المريحة وغير العملية... يعني هذا الشعار، عند تطبيقه على المجتمع، التخلص من بعض الفئات من الناس، أو من بعض أنماط الحياة البشرية. ويبدو أننا نتصرف اليوم كما لو كنا قريبين من خط الوصول في سباقنا من أجل الراحة والرفاهية.
نحن نعيش، اليوم، في مجتمع ترفيهي، أو بالأحرى، إذا استخدمنا مصطلحا ظهر حديثا، نعيش في مجتمع "الرفاهية". يوجد، بالفعل، هوس معاصر بهذه الـ"رفاهية"، التي تتعارض بشكل مطلق مع ما يقوله العزيز إيمانويل لفيناس من أن لدينا واجبات أخلاقية تجاه أنفسنا، ويجب أن نهتم بها. إن هاتين الرؤيتين تناقض إحداهما الأخرى بالكامل لأن الاعتناء بالنفس يعني في بعض الأحيان القيام بأشياء مثيرة للاشمئزاز، لا تساهم بشكل مباشر في "رفاهيتنا" الشهيرة. هاجسنا في جمع اللحظات والانطباعات والإضافة إليها وتكديسها هو، إذا، إشكالي للغاية.

* غلاف كتاب "محاكمة إيخمان" لحنة أرنت هو مثال قوي على "الالتزام الفكري" والذي يبدو أنك تأسف عليه اليوم. بعد ما يقرب من ثلاثين سنة من نشر كتابك (انحطاط المثقفين)، ما هو انطباعك عن تطور دور المثقفين خلال عصر الحداثة؟
- لقد كان ميشيل فوكو، من نواح عديدة، رائداً في الحديث عن دور المثقفين إذ أنه كان سباقا في إشارته إلى التغيير القائم، عندما تحدثّ عن "المثقف المختصّ". وقد اخترع هذا المصطلح، عند تمييزه بين مثقفي الماضي الموسوعيين والمثقفين المختصين في الوقت الحاضر. لقد قال إن هذا هو الشكل الجديد الذي يتخذه الصراع القديم من أجل السلطة والهيمنة.
عندما كتب جورج كليمنصو في جريدة "لورور" حول مصطلح "مثقّف"، كان مقتنعا أن الاختلاف بين المثقف وغيره من المواطنين، غير المحيطين معرفيا بقدره، جليّ لأنه يبيح لنفسه تجاوز حدود وظيفته. وبطريقة ما، كان المثقف يتحمّل مسؤولية جميع الشؤون المجتمعية. انطلاقا من هذه الرؤية، "المثقفون المختصون" يمثِّلون تناقضا لفظيا وظاهريا، إذ لا يمكن أن يكون المرء متخصِّصا ومثقفا في نفس الوقت. فأن تكون مثقفا يعني أن تتخطى المجال الضيق الذي يوفِّر لك مصالح شخصية، من حيث الدخل أو الامتيازات. وأخشى أن توقُّع ميشيل فوكو قد تحقق. ذلك أن النخبة المتعلمة لا ترى أنها معنية، الآن، إلا بشئونها المهنية. ومن يضطلعون بمسؤوليات حقيقية تجاه مستقبل المجتمع بأكمله عددهم قليل جدا كما أن المشكلة قد غدت، على كل حال، أكثر أهمية اليوم، بما أن علينا، الآن، تحمل مسؤولية مستقبل الكوكب الذي نتباهى بتدميره.
لهذا السبب كنت قد أسندت إلى المثقفين، منذ حوالي ثلاثين عاماً، وظيفة المؤولين Interprètes. وهذا له أهمية عملية حاسمة، خصوصا اليوم، في عصر الدياسبورا حيث يعيش أفراد من ثقافات ولغات، ووجوه مختلفة في نفس الشارع، على مقربة من بعضهم البعض. إن هذا المشكل ليس تجريديا بل هو، على العكس من ذلك، ممارسات وحياة يومية، لا "صراع حضارات" مفترض. ولهذا السبب فمسألة تأويل وترجمة الخبرة أي الثقافة هي أمر ذو أهمية جوهرية. لكن المثقفين لا يقومون بذلك إلا إن كانوا مختصين في الأنثروبولوجيا. وعندها عليهم كتابة مقالات تنشر في مجلات لا يقرؤها أحد. لهذا أنا متشائم، على المدى القصير على الأقل، فيما يتعلّق بدور المثقفين في المجتمع – ولو من الناحية العملية لا النظرية. إن ما ينقصنا حقا هو أناس قادرون على رسم سيناريو لمستقبل قابل للإدراك لأن دور المثقف هو أن يشير إلى الاحتمالات الممكنة للمستقبل. لكنني لا أسمع أي من هذه الأصوات، اليوم.

* لقد تخليت عن مصطلح ما بعد الحداثة، في نهاية التسعينات، لتنظِّر لما تسميه "الحداثة السائلة". ما هو تقيِّمك لذلك التشخيص، بعد مرور عشرين عامًا تقريبًا، وما هو التعريف الذي ستعطيه له اليوم؟
- ما زلت لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال الشهير "ما هي الحداثة السائلة؟" الذي يُطرح عليّ منذ نشر كتاب "الحداثة السائلة"، من خمسة عشر عامًا. هل الحداثة السائلة هي نوع جديد من المجتمع الذي عليه أن يستمرّ حتى يتم استبداله بآخر أم أنه ما أطلقت عليه في النهاية حالة "خلوّ العرش interregnum "؟ وحتى إذا كان "خلوّ العرش" هذا مرحلة انتقالية، فإن، من الأجدر، إطلاق هذا الاسم عليه بدل استخدام مصطلح "الانتقال"، باعتبار أن هذا الأخير مفهوم مبتذل. إن الانتقال هو، في الحقيقة، مصطلح مستخدم، في اللغة السياسية المعاصرة، لوصف المرور من حكومة معروفة إلى أخرى معروفة. أي أن الناس ينتقلون من نمط حياة قديم (مهجور أو مرفوض أو منهار) إلى نمط حياة آخر معروف سلفًا. الأسئلة الوحيدة التي يطرحونها هي تلك المتعلقة بسرعة التغيير، وكما كان قد وصفها ماكس فيبر، هي الأسئلة العقلانية التي تطبّق في كل حالة، أي "اختيار الوسائل الجيدة للوصول إلى نهاية معلومة". وما هو جوهري هنا هو مصطلح "معلومة".
لقد اخترت هذا مصطلح على وجه التحديد لأننا لا نعرف ما يوجد في نهاية الطريق. فنحن نعرف أننا نسير على الحبل، ونعرف ما نريد التخلص منه، لكننا لا نعرف على الإطلاق أي نوع آخر من المجتمع نريد استبدال الراهن به. في عصرنا هذا، يتجنب الناس النقاش حول أسس "المجتمع الجيد" وكل ما يفعلونه هو ردّات فعل إزاء الأزمات، أي الأزمة السابقة والأزمة الحالية. وما يفسر ذلك هو أننا نعيش تحت طغيان الزمن، فالأزمات تتابع بسرعة بالغة وقبل إيجاد حلّ للأولى، نجد أنفسنا قد بدأنا الغوص بالفعل في التالية.
مثال جيد جدا يوضح هذا الوضع هو تجربة "مُحْتَجُّو الساحات" وهم من يذهبون إلى مكان ما، ويستقرون فيه، ويلفِتون الانتباه إليهم، ويتظاهرون، ويصرخون، ويوقعون العرائض... عبر ما يقومون به، هم يسعون للتأثير في مجريات الأحداث ويعتبرون ما يفعلونه مشاركة في الحياة السياسية. هذه الحركات مختلفة ومتنوعة ولكنها تتشارك في شيء واحد مشترك، على الأقل، هو أنه ليس لديهم قائد. فهم لا يشبهون الأحزاب السياسية، التي لها قائد يحدد الأولويات (سواء منتخب أو معين أو قام بتنصيب نفسه ذاتياً). إن هؤلاء المحتجّين هم، بالأحرى، في طور تجربة نوع من المجتمع المتكافئ جذريا، فدون أن يكون لديهم أي هيكل رسمي، كل شخص منهم يعبّر عن رأيه، والذي يكون صراخه أعلى يبلِّغ صوته أكثر... يقدِّم معظم السياسيين والمراقبين الحجة المحورية القائلة بأن هؤلاء لا يستطيعون تحقيق شيء في السياسة (وهو أمر صحيح جزئيا) ما لم يخضعوا إلى زعامة ما. ولكني أعتقد أن هذا الافتقار إلى القيادة على وجه التحديد هو الذي يَصُوغ هذه الحركات ويشكِّل وجودها. لأن القادة لديهم أفكار، تؤدي إلى برامج، والتي بدورها ترسم الحدود بين "هم" و "نحن.
فالقادة يقومون بخلق الانقسامات التي تتولى الأحزاب الدفاع عنها وهي الطريقة التي تعمل بها السياسة التقليدية. إذا كان لدى محتجّي الساحات قائد يمتلك أفكارًا وقدرة على رسم الخطوط والحدود، فلن يتمكنوا من البقاء للحظة، وهنا، لا أقصد بضعة أسابيع أو بضعة أشهر، ولكن بضعة أيام أو بضع ساعات. لأن الشرط الذي لا غنى عنه لما أسميه "تضامنهم المتفجِّر" هو أنهم يضعون خلافاتهم جانباً ولا يتحدثون عنها أبداً. ذلك إن لديهم مستويات معيشية مختلفة جداً فبعضهم يأتي مباشرة من الشارع أو من أحياء معدمة بينما الآخرون هم أبناء أغنى الفئات. لكن كلهم ​​يصِلون محمَّلِين بتظلّمات ومطالبات متقاربة. ولنأخذ على سبيل المثال فكرة "تحالف قوس قزح" الذي أطلقه اليسار الأمريكي في أواخر الستينات والذي فشل فشلا ذريعا. كان الهدف منه هو تجميع أناس ذوي مطالب مختلفة تمامًا تحت راية واحدة، لكن في الواقع من المستحيل إبراز أيديولوجية واحدة من هذه التعددية. فقد كان من بينهم من يدافع عن مصالح المثليين المضطهدين وفي نفس الوقت كانت هناك مجموعة أخرى من الأشخاص الذين يتعرضون للتمييز العنصري. إلا أن توحيد أصواتهما غير ممكن بما أن لكل من هاتين المجموعتين مشاكل مختلفة تماما، رغم اشتراكهما في واقع الاضطهاد. انطلاقا من هذا المثال، يمكننا أن نستنتج أن محتجّي الساحات لا يجمعهم نموذج حياة واحدة يطمحون إليه، وبالعودة إلى سؤالك، هذا يعني، أننا سنظلّ في حالة خلو العرش لفترة طويلة.

* كيف تقيِّم، في هذا السياق، الإطار النظري في عالم يتطور باستمرار؟ وبشكل أكثر تحديدًا، ما هي الاجراءات العالمية الأكثر حسما وكيف تربط بينها وبين خلو العرش هذا وبين عملية "التسييل"؟
- بعض الأصوات، مثل ريتشارد سينيت، تنبذ المجتمع السائل، وبطريقة ما، تعلن نهايته. فمن خلال ملاحظتهم لبيئتهم، يرون ظهور قوى سياسية متلهفة للاستقرار والحزم وقادرة على رسم حدود واضحة وحماية مداخل القلعة وبالتالي، تساهم في ما يمكن أن يسمى "إعادة الصلابة" للحياة السياسية. أدرك أن مثل هذه القوى هي في طور الظهور في عدد متزايد من البلدان ، حتى في الدول التي تعتبر تقليديا ذات ديمقراطية اجتماعية مثل السويد والدنمارك وفنلندا، ولكن هذا لا يعني، مطلقا، أن الواقع الاجتماعي الفعلي يتحوَّل ليصير صلبا وأفضل تنظيما وأكثر استقرارا. إن سعى هذه الحركات إلى إيجاد حل فعليّ محليًا لمشكلات ذات طابع عالمي يضاعف، فحسب، "سيولة" المشهد العالمي. ذلك أنه يتعيّن على الجميع العمل على المستوى العالمي ذاتِه لأن إدخال عنصر فوضى (مثل إزالة القيود عن رأس المال) ومحاولة تصحيح ذلك من خلال إجراءات سياسية محلية "قوية" (مثل تعزيز الحدود "الإنسانية") يؤدي فقط إلى خلق فوضى أكثر تشعبا وحداثة سائلة أكثر تدفقا من ذي قبل.
أصر، غالبا، على ما دعوته ظاهرة "انعكاس البندول". إذا نظرنا إلى القيمتين الأساسيتين، الحرية والأمن، اللتين تشكلان حياتنا الاجتماعية والسياسية فإننا سنرى أن الناس سعوا، في فترة شبابي، إلى المزيد من الحرية وكانوا مستعدين للتخلي عن بعض الأمن لكسب المزيد منها. واليوم البندول في طور الانعكاس والناس صاروا مستعدين، بالفعل، للتخلي عن بعض حريتهم للاستفادة من المزيد من الأمن. لكنني أواصل تكرار أن هذا الاستعداد يعزز فقط واقع العولمة غير الخاضع للقيود، انطلاقا من أن جذور "السيولة" هي عالمية، وأن هذا "الانعكاس للبندول" لا يشمل، على الإطلاق، ذلك المستوى النظامي – غير الواقعي إلا على المستوى الفردي، حتى وإن كان واسع النطاق. إننا، بابتعادنا عن تلك الحقائق العالمية و"اهتمامنا بأمننا المحلي"، نحرم أنفسنا من جزء من ذواتنا بدل محاولة حل المشاكل التي تسببنا فيها على الصعيد العالمي. كما أن اعتنائنا بشأننا الخاص، هو تفضيل لحلول مُنافِقة ومُطمئِنة سيتجلى لنا في النهاية أنها قاصرة.


دمتم بخير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 5 أشخاص جراء ضربات روسية على عدة مناطق في أوكرانيا


.. هل يصبح السودان ساحة مواجهة غير مباشرة بين موسكو وواشنطن؟




.. تزايد عدد الجنح والجرائم الإلكترونية من خلال استنساخ الصوت •


.. من سيختار ترامب نائبا له إذا وصل إلى البيت الأبيض؟




.. متظاهرون يحتشدون بشوارع نيويورك بعد فض اعتصام جامعة كولومبيا