الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تولستوي: الموت والمعاناة أشباح تصرخ على المرء2/ 2

داود السلمان

2023 / 5 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ومع ذلك يعتقد تولستوي ثمة حقيقة، قد تكون خافية على بعضنا، ليس اخفاء العين، بل اخفاء الوعي، يعني احيانًا الإنسان تخفى عليه حقائق كثيرة عن حياته ووجوده، فلم يستطع الوصول إلى كنههما، فيبق جاهلا لقضايا هي من صميم واقعه.
تولستوي يصف حقيقة الإنسان كما البذرة، فهي محفوظة فيه، أي الحقيقة، فيأتي وقت تنبثق فيه هذه الحياة. ويمثل انبثاق الحقيقة في انجذاب الشخصية الحيوانية لخيرها، حيث يكشف لها الوعي العقلي عدم امكانية الخير الشخصي، ويشير لها إلى خير آخر.
وثمّة مشكلة أخرى تواجه الإنسان، فتثقل عليه وطأة الحياة حتى يضج بها. هذه المشكلة يسميها تولستوي بـ "التوجه الزائف للمعرفة"، أي أن هناك سوء فهم في تلقي المعارف التي نحصل عليها، ونحن في طريقنا إلى دراسة طبيعة الحياة، في سبيل الوصول إلى معرفة كنهها.
يقول حاول الناس أن يفهموا حياة الإنسان، أي القانون الذي يجب أن تخضع له شخصيته الحيوانية ليحقق خيره، بدراسة وجوده التاريخي، لا حياته أو الجزء الذي يعيه، ودراسة خضوع الحيوان والنبات والمادة المرئية لهم لقوانين مختلفة؛ أي أنهم يفعلون ما يفعله أناس يدرسون وضع أشياء لا يعرفونها، ليتكهنوا بالهدف الذي يجب أن يسعوا اليه وهم يجهلونه. فيفترض تولستوي لو أن حياة الإنسان هي فقط وجود حيواني، وأن خيره الذي يشير اليه وعيه العقلي غير ممكن التحقق، وأن قانون العقل وحده ليس سوى ظل، فلن يقتصر على أن هذه الدراسة ستكون غير مجدية، بل مهلكة، حيث إنها ستغلق في وجه الإنسان موضوع معرفته الوحيد، كما أنها ستُدعم تعرضه للوهم الذي مفاده أنه بدراسته ظل شيء ما يمكنه أن يعرف الشيء ذاته.
قديمًا قال سقراط "اعرف نفسك" لأنّ معرفة النفس هي أول الطريق في معرفة ما يحيط بالإنسان، من معارف وقضايا غائبة عن وعيه، وبالخصوص القضايا المادية. يعتقد تولستوي أن كل ما يعرفه الإنسان عن العالم المادي مرهون بمعرفته لنفسه، وبأن يجد في نفسه ثلاث علاقات مختلفة تربطه بهم، العلاقة الأولى هي علاقة الوعي العقلي، والثانية هي علاقة الشخصية الحيوانية، والثالثة هي المادة. إنه يدرك في نفسه هذه العلاقات الثلاث، ولذلك يتمثل امامه كل ما يراه في العالم دائما في ثلاثة مخططات منفصلة: الكائنات العاقلة – الحيوانات والنبات – المادة غير الحية.
وتبقى قضايا الزمانية والمكانية تكتنف شخصية الإنسان الحيوانية أن تؤثر على الحياة الحقيقية. لهذا يرى تولستوي أنه ليس بمقدور الإنسان الراغب في العيش أن يقمع أو يطلق حركة وجوده الزماني والمكاني، لكن حياته الحقيقية، أي تقيق خيره بالخضوع للعقل، تجري بصورة مستقلة عن هذه الحركات الزمانية والمكانية المرئية. تتمثل الحياة الإنسانية في هذا التحقيق المتزايد لهذا الخير عبر الخضوع للعقل. في غياب هذا الخضوع المتزايد، تمضي الحياة الإنسانية اتجاهي الزمان والمكان الواضحين، بينما الوجود واحد.
وهل ثمّة حياة حقيقية، وحياة غير حقيقية، يُجيب تولستوي بالإيجاب، ويصف الحياة الحقيقية بقوله: "الحياة الحقيقية هي تلك الحياة التي يُؤلف منها مفهومًا عن كل حياة أخرى، أي هي السعي صوب الخير الذي يمكن تحقيقه بإخضاع المرء شخصيته لقانون العقل. لا العقل ولا درجة تبعية له يمكن أن يتحددا بالزمان والمكان. تكتما حياة الإنسان الحقيقية خارج نطاق الزمان والمكان".
ووجود الإنسان وقيمته العليا مرهونين بإنسانيته، كذلك مسعاه لتحقيق الخير، ومحاولة تجنب الشّر، ولا يتحقق ذلك إلّا من خلال الوعي، الوعي العقلي. وعليه يسئل تولستوي السؤال: ما الذي يتطلبه الوعي للعقل؟.
ويجيب إن الوعي العقلي يقول للإنسان إن الخير لا يمكن أن يتحقق له، أي لشخصه في ظل هذا الترتيب للعالم الذي يراه من واقع شخصيته. حياته هي رغبة في الخير لذاته، لنفسه تحديدا، وهو يرى أن تحقيق هذا الخير غير ممكن. لكن الغريب في الأمر هو الآتي: بالرغم من أنه لا يرى بصورة غير قابلة للشك أنه لا يستطيع تحقيق هذا الخير لنفسه، فأنه يعيش بهذه الرغبة الوحيدة المتمثلة في تحقيق هذا الخير المستحيل، خيره وحسب.
لابد للإنسان أن يعيش الحياة بحلاوتها ومرارتها، بسعادتها وشقاؤها، الحياة لا تخلو من نكد ومن بؤس ومن معاناة، جاء الإنسان لهذه الحياة بدون ارادته، وسيخرج منها كذلك بدون ارادته. يقول المؤلف: "إذا أراد الإنسان أن يحيا، فعليه أن يأخذ الحياة برمتها، وليس جزءًا صغيرًا منها يتجلى له داخل اطار المكان والزمان. ومن يأخذ الحياة برمتها سوف يُضاف له المزيد منها، ومن يأخذ جزءًا منها وحسب سوف ينتزع منه ما لديه".
ويصل تولستوي إلى نتيجة مهمة، هي قد تكون عصارة هذا المبحث، ارتأيت أن اختم بها هذا المقال، وأنا استعرض هذا الكتاب الممتع والمهم.
يذهب المؤلف إلى أن الإنسان اذا لم يكن له وجود مسبق بالحياة، وظهر من لا شيء ثم مات، فلابد أن نفسه الخاصة لن تستمر في الوجود، ولا يمكن لها أن تستمر. لن يدرك الإنسان أنه لن يموت إلا عندما يدرك أنه لم يولد قطّ، وكان موجودًا دائمًا، وهو موجود الآن، وسيظل موجودًا. لن يثق الإنسان في خلوده إلا عندما يدرك أن حياته ليست موجة، بل حركة أبدية تتجلى في صورة موجة في هذه الحياة وحسب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟