الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم السابع

حامد خيري الحيدر

2023 / 5 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تُعدّ المنطقة المُمتدة من مدينة الموصل نحو الشمال الغربي لأرض العراق حيث المُثلث العراقي السوري التركي، من أغزر المناطق وأغناها بالمواقع الأثرية، والتي تعود بدايات أغلبها الى الألفين السابع والسادس قبل الميلاد، حيث فترة العصر الحجري الحديث وما بعدها، وأوضح مثال على مَدى كثافة الاستيطان في هذه البقعة الخصبة من أرض الرافدين، هو عدد المواقع الأثرية المكتشفة في حوض سد الموصل، والتي جاوزت المئة وثمانين موقعاً، وقد تميّزت مواقع هذه المنطقة بتنوعها الثقافي وتعدد الأطر المَعيشية لسكانها، لذلك تُعتبر نقاط تلاقي وتمازج بين الثقافات البشرية في كل من وادي الرافدين وبلاد الشام وهضبة الأناضول خلال تلك الحقب التاريخية، مما أوجد فيها ثقافة خاصة مُتميّزة أنتجها أنسان تلك البيئات المتلاصقة، كما تميّزت أيضاً بتتابع الاستيطان واستمراريته منذ تلك المراحل المبكرة البعيدة وحتى الفترات التاريخية المتأخرة، لتغدو بمَثابة سجل تاريخي يوثق تعاقب تطوراتها الثقافية والحضارية، ومن بين أهم تلك المستوطنات التي تُمثل ذلك التواصل المُتنامي مدينة بلد أسكي موصل التاريخية.
تقع هذه المدينة التاريخية الى الشمال الغربي من مدينة الموصل بمسافة حوالي ثلاثة وأربعين كيلومتراً، على الضفة اليمنى لنهر دجلة، وللوصول إليها يُسلك الطريق الذي يربط مدينة الموصل بقضائي "تلعفر" و"سنجار" باتجاه الغرب، وبعد مسافة سبعة وثلاثين كيلومتراً وقبل الوصول الى المفرق المعروف باسم "الكِسِك"، يُسلك الطريق الجانبي المُتجه شمالاً والمؤدي الى موقع سد الموصل وبحيرته الكبيرة، ليصل المدينة بعد مسافة ستة كيلومترات تقريباً، حيث يُمكن مشاهدة أطلالها من بعيد بتلتها المرتفعة وضواحيها المُنحدرة من طرفها الشمالي نحو الجنوب والغرب، مُمتدة على السهل الفسيح المُحاذي لنهر دجلة.
تتميّز "بلد أسكي موصل" بموقع هام حيث أنها شُيّدت وسط سهل مُنخفض تُحيط به المرتفعات والروابي، ليكون من أهم عوامل نشوئها وازدهارها ورخائها الاقتصادي، إذ جعل منها مَحطة تجارية هامة للغاية تقع عند مُفترق عدة طرق، أحدها يؤدي الى مدينة "سنجار" ومدن منطقة الجزيرة العليا، وآخر باتجاه الغرب حيث مدن حلب وباقي مدن الشام مُروراً بمُدن الخابور المهمة، وثالث نحو الجنوبي الشرقي حيث مدينة الموصل ومنها نحو الجنوب حتى مدينة بغداد، من جانب آخر فقد تمتعت المدينة بوفرة من المياه ساهمت بخصوبة السهل الذي أقيمت عليه، لتصبح مدينة تعتمد في اقتصادها على الزراعة بشكل رئيسي إضافة الى أهميتها التجارية، وتأتي هذه الوفرة بسبب إطلالتها الواسعة على نهر دجلة من جانبها الشرقي، بالإضافة الى مُحاذاة جانبها الشمالي لنهر "المُر" الذي أسماه المؤرخ العربي أبن الأثير في تاريخه الشهير بـ"نهر أيوب"، والذي يَصبّ في دجلة شمال المدينة.
وبسبب توفر أسباب العيش هذه من مياه وأرض خصبة وموقع مُتميز، فقد تم الاستيطان فيها منذ فترة مبكرة تمتد الى عصور ما قبل التاريخ، حيث تُبيّن المُلتقطات الأثرية التي وجدت فيها بعائديتها الى العصر الحجري المعدني وتحديداً الى الدور الحضاري المعروف باسم "العُبيد الشمالي" 4200_3500ق.م. وعلى مدى تاريخها عُرفت المدينة بأسماء عدة حسب العصور والدول التي قامت في المنطقة، منذ العصر الآشوري وحتى الفترة الاسلامية ثم العثمانية، حيث وردت في كتابات العصر الآشوري الحديث بصيغة "بَلداي" أو "بَلطاي" المأخوذ من جذر الفعل الأكدي "بلد" أو "بَلطَ " بمَعنى "عاش" أو "حيا"، علماً أن العراقيين حتى اليوم يُطلقون من جملة كلماتهم الدراجة نفس هذا الفعل، لكن بصيغة "لَبَط" بعد تقديم اللام على الباء، دلالة على نفس المَعنى، كقولنا مثلاً (السمكة تلبط) أي أنها لازالت حية، وفق ذلك يُمكن القول أن مَعنى أسم المدينة خلال تلك الفترة هو "مدينة الحياة".
وقد كسبت المدينة أهميتها الكبيرة خلال الفترة الآشورية الحديثة، وخاصة في زمن الملكين "سرجون" 721_705ق.م وأبنه "سنحاريب" 705_681ق.م، حيث أتخِذا منها مَقلعاً لتوفير أحجار المرمر والحلان، التي تحتاجها المدن الآشورية، ثم تحولت مع مرور الزمن الى مركز فني مُتخصص، يعمل فيه العشرات من العمال والفنانين والنحاتين المَهَرة، لنحت التماثيل الضخمة والمنحوتات والجداريات البارزة التي كانت تُزيّن القصور الملكية وبوابات المدن، حيث أنها كانت تنقل بعد إتمام صُنعها على الأكلاك عبر نهر دجلة الى العاصمة "نينوى"، وفي ذلك يذكر الملك "سنحاريب" في إحدى كتاباته.. (بإرادة الإله "آشور"، سيّد الآلهة، سيّد الكون، عرف جنودي حجر الكلس الأبيض [يُقصد به المَرمَر الموصلي] بكثرة قرب "نينوى" في أرض "بلطاي"، فصنع النحاتون المهرة لأجلي تماثيل "لاماسو"(1) من قطعة واحدة من الحجر، حتى غدت أجسادها تلمع كأنها نهار مُشرق، ثم نقلوها الى "نينوى" لأجمّل بها قصري).
وخلال الفترة التي سبقت السيطرة العربية الاسلامية على منطقة الموصل، أي عند القرون الميلادية الستة الأولى كان الصراع على أشّده بين القوتين الكبريين حينذاك، ألا وهما الدولتان الساسانية والرومانية، اللتان تقاسمتا النفوذ على هذه المنطقة، وكانت الحروب سجالاً بينهما من أجل التوسع على حساب الآخر، لتقع "بلد أسكي موصل" في آخر المَطاف تحت سيطرة الساسانيين وتغدو من ضمن ممتلكاتهم الواسعة، وتصبح جزءاً من منطقة نفوذ القبائل التي أعلنت الولاء لهذه الدولة، والتي تشمل مناطق شمال تكريت والموصل ونصيبين وسنجار، لتُسمى حينها بـ"شَهر آباد" أي "مدينة شَهر"، وكانت تُدار من قبل حاكم يُلقب بـ"مرزبان"، أما بعد السيطرة الاسلامية عليها، فقد ورد أسم المدينة بعدة صيّغ مُختلفة في كتب المؤرخين العرب، منها "فلط"، "بلط"، "بلد الحطب"، "بلد الخطب"، "بلد الخطيب"، إضافة الى تسمية "بلد" التي عُرفت بها حتى آخر أيامها، وحسبما سمّاها بعض المؤرخون أمثال "ياقوت الحموي" و"الخطيب العمري، حيث أنها أكثر الاسماء قرباً الى التسمية الآشورية القديمة، ومن هذه التسمية أشتق أسم "بلد" المتداول حتى اليوم.
حيث ذكر أولئك المؤرخون بأن "بلط" من أغنى مدن أرض السواد بالزراعة، إذ كانت تكثر فيها البساتين واشجار الفاكهة والكروم والخضر، بالإضافة الى زراعتها الحبوب وخاصة الحنطة التي كانت تمتاز بجودتها ووفرتها مما جعلها مضرب الأمثال، جعلها تزود العراق كله خلال العصور الاسلامية بما يحتاجه من الحبوب، ويقال انه كان يؤخذ من خراج المدينة 856000 درهم سنوياً، كما حددت المصادر التاريخية العربية المنطقة المُمتدة شمال نهر "المُر" بشكل خاص من تلك الوفرة بالإنتاج الزراعي، علماً أنه حتى الوقت الحاضر تُعدّ هذه المنطقة التي تُعرف مَحلياً بـ"الخِركَة" من أخصب وأجود الأراض الزراعية في محافظة نينوى، وتتم زراعتها على مَدار العام بمُختلف أنواع المحاصيل الزراعية.
كما يذكر المؤرخون أيضاً، أن المدينة وقعت تحت سيطرة الجيوش العربية الاسلامية بعد إتمام سيطرتها على مدينة الموصل عام 16هـ/637م، لكنهم اختلفوا في تحديد سنة الاحتلال وشخصية القائد الذي أنجز هذه المهمة، فمنهم من ذهب الى أن ذلك قد تم عام 16هـ/637م، بقيادة "عياض بن غنم"، وآخرون يرجعون الواقعة الى سنة 17هـ/638م، بقيادة "عبدالله بن عبد الله بن عتبان"، أما في زمن الدولة الأموية 41_132هـ/661_750م، فلم تَحض المدينة بشأن ذا أهمية كبيرة، حيث كانت الإشارات قليلة عنها في الكتب التاريخية، ولم تذكر المصادر سوى النَزر اليسير عن مُجريات حالها وبشكل لا يتعدى اللمَحات العابرة، ويُظن أن السبب في ذلك هو الحروب المُتتالية التي دارت رحاها بين ولاة الموصل والخوارج خلال تلك الفترة، وأيضاً النزاعات والصراعات بين الحكام من أجل المُلك، حينها مَرَّت على تلك المنطقة ظروف اقتصادية وسياسية مُختلفة، ساعد بعضها على نمو المدينة وعمرانها، وفي أحيان أخر كانت بخلاف ذلك، مما كان يؤدي الى ضعف شأنها وأفول أهميتها.
لتبلغ مدينة "بلد أسكي موصل" أوج ازدهارها في زمن الدولة العباسية، حيث غَدت مركزاً للقبائل العربية التي كانت تستوطن هذه المنطقة مثل "ربيعة" و"مُضر" و"بكر"، والتي ذكرت بالمصادر السريانية باسم "باعربايا" وأحياناً "بيت عرباي" واللتان تعنيان "بلاد العرب" أو "موطن العرب"، وما كان يُذكر عن المدينة في هذه الحقبة، أن الخليفة المهدي أتخذ منها مَكاناً للاستجمام والراحة، لاعتدال مناخها وجمال طبيعتها، من جانب آخر فقد كانت تتبع إدارياً وسياسياً لحكام الموصل خلال عهد الأمارات التي حكمت هناك، ثم لتفقد المدينة أهميتها كلياً بعد ذلك بسبب الخراب والتدمير الذي نالته نتيجة الاحتلال المغولي لها والذي أعقب غزوه لمدينة الموصل ثم شمل المنطقة بأسرها، مما أدى الى هِجرة معظم سُكانها، لكن مع ذلك فقد ظلَّ في المدينة بقايا عمران ونسبة ضئيلة من السكان، بالإضافة الى ذلك فقد تم تشييد بعض المباني الكبيرة من قبل الحاكم المغولي الذي كان يُعرف باسم "سوتاي"، والذي جعل منها مقراً له ولعائلته من أجل الراحة والاستجمام.
وخلال الاحتلال العثماني للعراق عام 1534 في زمن السلطان "سليمان القانوني" 1494_1566، أطلق العثمانيون تسمية "أسكي موصل" التي تعني بالتركية "الموصل القديمة" على أطلال المدينة عند مرورهم بها خلال مَسيرة جيشهم مع مَجرى نهر دجلة، ظناً منهم أنها مدينة الموصل القديمة نفسها، ومن حينها أصبح أسم "أسكي موصل" يأتي مرافقاً لأسم "بلد"، لتُعرف المدينة بهذه التسمية المُرَّكبة التي تجمع بين الاسمين "بلد أسكي موصل"، وخلال هذه الفترة استعادت المدينة شيئاً من أهميتها رغم الخراب الذي كان قد أصابها خلال الفترات السابقة، حيث جُعل منها مركزاً لأحد ألوية الموصل تحت مُسمى "كورة" أي نقطة تجمّع وإدارة عدِة قرى بسبب موقعها الهام الاستراتيجي، وحينها شُيّدت قلعة عسكرية على التل المُرتفع الكبير في المدينة والذي يُمثل أقدم مراحل الاستيطان فيها، كي يَطل على وادي "المُر" من أجل المُراقبة والسيطرة على حركة المُرور في نهر دجلة، وعلى طرق القوافل والمواصلات المارة في المنطقة، ولاتزال أجزاء من هذه القلعة المُشيّدة بالحجر والجص باقية حتى اليوم، حتى أن التل قد عُرف منذ ذلك الحين وحتى الوقت الحاضر بـ"تل القلعة"، لتُهجر المدينة بشكل كامل بعد الاحتلال البريطاني للموصل، قبل أن يعاودها الاستيطان مرة أخرى فيما بعد مُتمثلاً بالقرية الحالية المُشيّدة عليها.
ومن الجدير بالذكر أن العديد من المصادر التاريخية تذكر وجود مَخاضة في مجرى نهر دجلة الى الجنوب من المدينة بمسافة كيلومترين تقريباً، حيث يَنخفض مستوى المياه فيها خلال أوقات معينة من السنة، مما يُمّكن عبور النهر منها بتجاه الشرق والشمال الشرقي، وقد أوردت تلك المصادر عبور العديد من القادة مع جيوشهم من خلالها، ومن أشهر هؤلاء "الاسكندر المقدوني" 356_323ق.م حين لاحق الجيش الفارسي الأخميني بقيادة "دارا الثالث" حتى قضى عليه في معركة "كَاوكَميلا" قرب مدينة أربيل الحالية سنة 331ق.م(2)، كما عبَرها أيضاً مُتجهاً الى مدينة "حَرّان" "مروان بن محمد" آخر خلفاء بني أمية، بعد هزيمته أمام العباسيين في معركة "الزاب" عام 132هـ/743م(3).
ومن الحقائق الهامة التي تقتضي الذكر، أن "بلد أسكي موصل" كباقي مدن العراق الأخرى قد استوطنتها وأقامت فيها خلال العصور المُتعاقبة، العديد من الاقوام والطوائف الدينية إضافة الى القبائل العربية، التي استقرت في هذه المنطقة منذ القِدم قبل حلول السيطرة الإسلامية عليها مثل "الآراميين"، الذين كانوا أحدى المَوجات الجزرية "السامية" التي استقرت في هذه المنطقة منذ دُهور بعيدة من التاريخ، كما يُرجح قدوم قسم كبير منهم الى المدينة بعد سُقوط مدينة "الحَضر" عام 241م على يد الساسانيين وهجرهم إياها بعد خرابها، وكذلك الأكراد حيث تذكر المصادر التاريخية أنهم بالإضافة الى سكناهم المدينة، قد شيدوا قرى عديدة حولها، وخاصة في الجانب المقابل لها أي عند الضفة الشرقية لنهر دجلة، وبالفعل فأنه يوجد في هذا الجانب مُستوطن أثري كبير لم تجرِ فيه أية تحريات أو تنقيبات اثرية لتكشف عن هويته أو خلفيته التاريخية.
كما سَكنت المدينة أيضاً عوائل يهودية عديدة من الذين كان لهم أنتشار واسع في منطقة الموصل، حيث امتهنوا أعمالاً شَتى، لكنهم اشتهروا في هذه المدينة بمُمارستهم مهنة الطب، حيث بَرز العديد منه في هذا الشأن، وتذكر المصادر التاريخية أسماء بعض منهم، مثل "عزوز بن الطيب" و"أوحد الزمان أبو البركات"، كما أن المسيحين السريان كان لهم وجود كبير هنا أيضاً، حيث كان لهم أسقفية كبيرة في المدينة، بالإضافة الى العديد من الأديرة التي كانت مُنتشرة في هذه المنطقة، مثل "دير مار جرجس"، "دير الشياطين"، "دير أبي يوسف"، "دير النمل"، ومن الطريف ذكره أن أهل مدينة "بلد اسكي موصل" قد أتخذوا من المناطق المُحيطة بهذه الأديرة، أماكن للهوهم ونزهتم أيام الربيع وحلول الأعياد لنقاء هوائها وجمال طبيعتها، من جانبٍ آخر فقد كانت هذه الأديرة أيضاً مَقصداً للتجار وقوافلهم، لشراء الأجبان والخمور التي تُصنّع فيها من أجل بيعها في الأقاليم المجاورة.
ورغم انهيار مباني مدينة "بلد أسكي موصل" وتحولها مع تَعاقب الدهور الى تلال وكتل صَماء من ركام الأحجار، تنتشر عليها كِسر الفخار المُزجج، بألوان الأخضر والأصفر والأزرق الذي ازدهرت صناعته وانتشرت خلال الأدوار الاسلامية، إلا انها ظلّت مُحافظة على خططها، حيث أن طرقها ودروبها وأزقتها لازالت كما هي، ومن خلالها يُمكن تمييز أحيائها وحاراتها وما كانت تحويه من أبنية، بين رسمية هامة تركزت في الوسط ومرافق سكنية انتشرت في مختلف مناطقها ونواحيها، والتي كانت تعكس بوضوح تباين المستوى الاقتصادي للسكان، من قصور ضخمة فارهة يزيد ارتفاع رُكامها على الخمسة عشر متراً، ظلت حدودها واضحة تمتد لمساحة تقارب الستمائة متر مربع، لا يزال على بعض أحجارها نقوش جميلة مُتمثلة بزخارف هندسية ونباتية متنوعة، الى بيوت متوسطة تتراوح مساحاتها من مئة الى مئتي متر مربع، ثم بيوت صغيرة لا تزيد سعتها على الخمسين متراً مربعاً.
ومن بين أطلال تلك الأبنية يُمكن رؤية الأقسام العليا للعقود البنائية الحجرية، والتي كانت أما بقايا أواوين مُنهارة، أو سقوف لسراديب أزيل ما كان مشيّداً فوقها من أبنية، كما يُمكن أيضاً تحديد مواقع الاسواق والحوانيت والخانات واسطبلات الخيل ومَرابطها التي كانت عند الأطراف الجنوبية من المدينة، وقد اقتضت سِعة المدينة وأهميتها السياسية والاقتصادية والعسكرية أن يكون لها سور حَصين يحميها أسوة بباقي المدن الكبيرة، وهذا شيء مألوف وطبيعي في مدن العصور القديمة والوسطى، حيث تُشاهد امتدادات سور المدينة المُشيّد بالحجر والجص والذي يبلغ سُمكه أكثر من خمسة أمتار، ورغم انهيار معظم أجزائه لكن يمكن تخمين مدى ارتفاعه الحقيقي استناداً الى سمكه بحدود خمسة عشر متراً، وقد تميّز الجانب الشرقي للسور الموازي لنهر دجلة باحتوائه العديد من الغرف المَعقودة، كانت تستخدم غالباً كمشاجب للأسلحة أو لإقامة الحراس، ويُرَجّح أن هذا السور قد تم تجديده خلال فترات تاريخية مختلفة من عهود الدويلات والأمراء الذين حكموا المنطقة.
أما تخطيط المدينة فقد كانت ذات شكل مثلث مُتساوي الضلعين يقع رأسه شمالاً عند التقاء وادي "المُر" بنهر دجلة، حيث يمتد ضلعها الأول (الشرقي) نحو الجنوب موازياً لنهر دجلة بطول ألف ومئتي متر، ويمتد الضلع الثاني (الغربي) نحو الجنوب الغربي بطول يقارب الألف والثلاثمئة متر، أما الثالث (الجنوبي) فأنه يَمتد من الشرق الى الغرب بطول ألف متر تقريباً، كما تتكون المدينة من قسمين، الأول يُسمى "القلعة" نسبة الى القلعة العثمانية المُشيّدة فوق التل الأثري الكبير الذي يقع شمال المدينة ويرتفع عن السهل المُجاور بحدود ثلاثين متراً، والمتكوّن من طبقات السكن القديمة المُتعاقبة المُشيّدة فوق "الأرض البكر" المُتمثلة برابية حصوية طبيعية تطل على نهر دجلة ارتفاعها بحدود خمسة أمتار، شيّدت عليها الطبقات الأثرية الأولى التي تُعتبر بداية الاستيطان في المدينة، والتي من المحتمل جداً انها تعود الى عصور ما قبل التاريخ، كما ويطل الجانب الشمالي من التل على وادي "المُر"، حيث يُمكن من هذا المكان بوضوح رؤية ناحية "وانة" التي تقع الى الشمال من "بلد اسكي موصل" بمسافة تقارب الثلاثة كيلومترات على الضفة اليسرى من نهر دجلة.
أما القسم الثاني من المدينة فيَمتد مع السفوح الشرقية والغربية لمرتفع "القلعة" والمُمتدة نحو الجنوب، حيث تأخذ الأرض بالانخفاض تدريجياً لتكون بمُستوى السهول المُحيطة بها، حيث تُمثل هذه المناطق مراحل الاستيطان الأحدث التي تعود الى القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، والعائدة الى الفترات الاسلامية المـتأخرة. وقد تعرضّت المدينة على مَر السنين الى تجاوز كبير من قبل السكان المَحليين، حيث شيّدوا خلال العشرينات أو الثلاثينات من القرن العشرين قرية كبيرة فوق جزء واسع من تل القلعة وسفوحه، قسم من بيوتها بُنيَّ بالحجر وأخرى بالطين، شَغلت رُبع مساحة المدينة الأثرية تقريباً، عُرفت باسم "قرية أسكي موصل" أتبعت إدارياً بقضاء الموصل، بالإضافة الى اقتطاعهم أجزاء كبيرة من جانبيها الشرقي والشمالي المُطلين على وادي "المُر" ونهر دجلة لغرض الزراعة، علماً أن عدد نفوس هذه القرية وفق إحصاء عام 1957 كان 651 نسمة.
ومثل مُعظم حال قرى العراق النائية تُعاني "قرية أسكي موصل" من واقع تعس بائس، حيث معظم سُكانها في حالة فقر مُدقع، أغلبهم يعانون من داء التدرن المُنتشر بكثرة في هذه المنطقة، نتيجة شُربهم مياه النهر الملوثة واستنشاق الهواء شديد الرطوبة، قسم كبير من سكانها يعملون بالزراعة، لكن القِلة منهم فقط يمتلك أرضاً تخصه، حيث أن الغالبية كانوا يستأجرون أراضٍ من آخرين وأحياناً يستصلحونها بالمُشاركة، جهداً وناتجاً وربحاً، وهناك من يعمل كأجير لدى مُزارعين كِبار في أوقات مُعينة من الموسم الزراعي، عند البذار والشَتل وموسم الحصاد، ومن لم يعتادوا مهنة الأرض، فأنهم كانوا يعملون بأشغالٍ شاقة في أماكن نائية ضمن مشاريع البناء ومَقالع الحجارة، أو كعمال مُستخدمين في موقع سد الموصل ضمن مختلف النشاطات، أما الشباب فكانوا شبه عاطلين عن العمل والدراسة، وكان اعتماد أهل القرية على مياه النهر في الشرب والاستخدام اليومي، وهم يُسمون النهر في ضمن مفردات كلامهم "الفرا"، ومن الراجح أن هذه المفردة مُشتقة من كلمة "الفرات"، حيث تم أدغام "التاء" تخفيفاً لنطق الكلمة، علماً أن مُعظم سكان منطقة الجزيرة العراقية يُطلقون نفس المُفردة على النهر، كما لا توجد في القرية مَضّخات لسَحب المياه من النهر للبيوت البسيطة، وإنما يتم جلبها بواسطة القِرب الجلدية المُسماة مَحلياً بـ"الجود" التي تُملأ بالماء عن طريق غَمرها بالنهر ثم يتم نقلها للبيوت مَحمولة على ظهور الحَمير.
وكانت التنقيبات الأثرية التي أجريّت في المدينة من قبل المؤسسة الآثارية العراقية منذ خمسينات القرن العشرين، قد كشفت عن أقسام من بعض المباني المهمة والرئيسية فيها، والتي كانت تقع في وسط التل تقريباً، حيث لم تُستظهر بالكامل بسبب وقوعها تحت بيوت القرية، ومن هذه المباني دار الأمارة والمَسجد الجامع الذي كان كبير وواسع، إذ أن بيت الصلاة فيه بعرض ثلاثين متراً وعمق خمسة عشر متراً، يستند سقفه على أعمدة حجرية ضخمة دائرية الشكل قطر الواحد منها يزيد على المتر، شُيّدت بطريقة أنصاف الدوائر المتقابلة الأقطار والمُتعاكسة الصفوف (حَل وشَد)، أما دار الأمارة فكان كبير هو الآخر، يبدو من تفاصيله البنائية الظاهرة مدى سِعة غرفه وقاعاته وأفنيته، وتُشير الزينات والزَخارف الحجرية التي جَمّلت جدرانه وأسكفات مداخل أبوابه، الى مَدى البذخ الذي أسرف في بنائه كما يعكس بوضوح مَدى الحس الفني الراقي الذي وصل اليه فنانوا المدينة.
من جانب آخر فقد أتخذ سكان القرية من أعلى تل القلعة والى جوار أطلال القلعة العثمانية مقبرة لمواتهم، شغلت حيّزاً كبيراً من هذه المنطقة، مما جعل من الصعب أجراء تنقيبات موسعة فيها، لكن عند عقد التسعينات من القرن العشرين وخلال تنقيبات المؤسسة الآثارية العراقية في المدينة، تم حفر مَجسّ اختباري عميق في هذا التل شارك الكاتب في تنقيبه، وعن طريقه أمكن الكشف على العديد من الطبقات الأثرية التي تُبيّن تتابع الأدوار التاريخية في المدينة منذ الفترة العثمانية والإسلامية في الطبقات العليا نزولاً حيث الطبقات الآشورية الحديثة والوسيطة، وقد تم العثور ضمن هذا المَجسّ على العديد من القطع الأثرية الهامة التي تعود لهذه الفترات، مثل أسلحة حديدية وأختام اسطوانية وحلي متنوعة مَعمولة من الأحجار الثمينة والبرونز، بالإضافة الى العديد من الأواني الفخارية الجميلة الصُنع.
وبالمُجمل فأن المدينة تُعد فقيرة بالقطع واللقى الأثرية قياساً الى قِدمها وأتساع مَساحتها، وهذا يرجع بصورة رئيسة الى الهَجر المُنظم لها من قبل السكان بسبب الخَراب الذي حَصل لها وفقدانها أهميتها، ولم تكن تكن الآثار التي عثر عليها بالمدينة سوى اللوحات الحجرية المنقوشة بالخطوط العربية المختلفة التي كشف عنها في أفنية البيوت وحُجراتها المُنهارة، وكذلك أسّكفات الأبواب المنقوشة بمختلف الزَخارف العربية الجميلة من نباتية وهندسية، إضافة الى العثور العديد من المسكوكات البرونزية التي يعود تاريخها الى القرن الثالث عشر الميلادي حيث الفترتين الأتابكية والأليخانية، والقليل جداً من الدراهم الفضية والدنانير الذهبية التي تم ضَربها باسم عدد من الخلفاء العباسيين، كما تم العثور في سراديب بعض من البيوت السكنية على أعداد من الجرار والأواني الفخارية وكذلك الحِباب الكبيرة المُستخدمة لخزن السوائل من زيوت وخمور والمعروفة باسم "باربوتين".
أما أطلال القلعة العثمانية فقد انهارت معظم أجزائها، ولم يتبق منها سوى أسسها وارتفاعات بسيطة لجدارين منها، وما يُمكن وصفه عنها أنها كانت ذات شكل مستطيل يَمتد من الشمال الى الجنوب بطول خمسين متراً وعرض خمسة وثلاثين متراً، مُشيّدة بالحَجر والجص، دعّمت أركانها الأربعة بأبراج مرتفعة دائرية الشكل، قطر كل منها بحدود أربعة أمتار، لم تتبقى سوى أطلال أثنين منها، أما جدرانها المُهدّمة، فكانت بالأساس بسُمك مترين ونصف وبارتفاع يقارب الخمسة أمتار، أما وسط القلعة فتشير بقايا الأسس فيها الى أنها كانت تضّم حُجرات ومرافق بنائية مختلفة، وللأسف لم تحوي بقايا جدران هذه القلعة على أية كتابة تذكارية تحدد سنة بنائها أو أسم الشخص الذي أمر بتشييدها، وقد أكمل سُكان القرية خراب الدهر الذي حلّ بالقلعة بأن جعلوا من بقاياها مَعالف لحيواناتهم.
ومن أهم الآثار البنائية التي تُنسب للمدينة أطلال وبقايا جسرها القديم، الذي يقع على "وادي المُر" الى الشمال الغربي من المدينة بمسافة كيلومترين تقريباً، وكان قد أنهار هذا الجسر الذي تم تَشييده بالحجر المُنتظم والجص بكامله منذ أمد بعيد ولم يتبق منه سوى القنطرة الوسطى الكبرى القائمة على النهر، من مجموع خمس قناطر، لا زالت أسس الأربع الأخريات الأصغر باقية أثنان في كل جانب، وهذه القنطرة بارتفاع أثني عشر متراً وعرض خمسة أمتار ونصف تقريباً، كما كانت المسافة بين طرفيها بحدود أثنين وعشرين متراً، أما سُمكها فكان يزيد عن المتر والنصف، ويُعتقد أن تصميم الجسر كان مُماثلاً للجسر التاريخي المُشيّد في مدينة "زاخو" والمعروف بـ"الجسر العباسي"، والذي تتوسطه قنطرة وسطى كبيرة وعلى كلٍ من جانبيها قناطر أصغر بالتدريج شيّد فوقها مَمر الجسر، وقد أختلف الباحثون في أصل الجسر وتاريخه، حيث أن تصميمه وشكله وهندسته ذات طابع روماني، لكن يُعتقد بعائديته غالباً الى المَراحل المتأخرة من الفترة "الأتابكية"، وتحديداً لزمن آخر أمرائها "بدر الدين لؤلؤ" الذي حكم للفترة 630_657هـ/1232_1259م، حيث تذكر العديد من المصادر التاريخية أنه قام بتَشييد عدد من الجسور والقناطر على الوديان والمَجاري المائية بالقرب من مدينة الموصل، مُعتمداً النماذج الرومانية في بنائها، وما يُرجح هذا الرأي هو وجود آثار كلمات عربية مَنقوشة على العديد من أحجار القنطرة مَحتها عوامل التعرية عَبر الزمن فلم يَعد بالإمكان قراءة سوى البعض منها، تُمثل في الغالب اختصاراً لأسماء نقارين شاركوا في هَندمة وصقل أحجار الجسر.

الهوامش:

1_ اللاماسو... هي منحوتات الحيوانات المركبّة الحارسة التي كانت توضع على جانبي بوابات المدن والقصور الآشورية لحمايتها من الأرواح الشريرة واعطائها الهيبة والقوة والسطوة الآشورية، وأشهر وأبرز نماذجها الثيران والأسود المجنحة.
2_ معركة گاوگميلا... من المعارك المشهورة في التاريخ، وقعت عام 331ق.م، وسُميّت بهذا الاسم نسبة الى تل "كَميلا" الذي يقع شمال العراق بين منطقتي الموصل وأربيل، حيث دارت المعركة هناك بين الجيش اليوناني المقدوني بقيادة "الاسكندر الأكبر"، وجيش الفرس الأخمينيين بقيادة الملك "دارا الثالث"، انتهت المعركة بنصر حاسم للمقدونيين لتسقط على أثرها الدولة الفارسية الأخمينية وخضوع بلاد الرافدين لسلطة "الاسكندر الأكبر".
3_ معركة الزاب... إحدى المعارك الفاصلة في التاريخ العربي الإسلامي، وقعت عام 132هـ/ 750م بين الخليفة الأموي الأخير "مروان بن محمد" و"عبد الله بن علي" قائد جيوش بني العباس، حين التقى الجيشان عند منطقة نهر الزاب الكبير بين الموصل وأربيل، أنهزم فيها جيش "مروان"، ليَّفرّ بعدها إلى مصر حيث قُتل هناك في مدينة "أبي صير"، لينتهي بمقتله حكم الخلافة الأموية وتُعلن على إثرها الخلافة العباسية مع أول خلافائها "ابو العباس السفاح".


المصادر:

_ أحمد بن يحيى البلاذري ... فتوح البلدان ... بيروت 2000
_ برهان شاكر ... نتائج أعمال التنقيب في مدينة بلد أسكي موصل لعام 1996 ... سومر/ 50 ... بغداد 2001
_ بشير فرنسيس ، كَوركَيس عواد ... نبذة تاريخية في أصول أسماء الأمكنة العراقية ... سومر/ 8_ج2 ... بغداد 1952
_ جعفر حسين خصباك ... العراق في عهد المغول الأليخانيين ... بغداد 1968
_ جمس بكنغهام ... رحلتي الى العراق سنة 1816/ الجزء الأول ... ترجمة/ سليم طه التكريتي ... بغداد 1968
_ سعيد الديوَجي ... الموصل في العصر الأتابكي ... بغداد 1954
_ سليمان صائغ الموصلي ... تاريخ الموصل/ الجزء الأول ... القاهرة 1923
_ طه باقر ، فؤاد سفر ... المُرشد الى مواطن الآثار والحضارة/ الرحلة الثالثة ... بغداد 1966
_ عِز الدين أبن الأثير ... الكامل في التاريخ / المجلدات الأول والرابع والخامس ... بيروت 1987
_ كي لسترنج ... بلدان الخلافة الشرقية ... ترجمة/ بشير فرنسيس ، كوَركَيس عواد ... بغداد 1954
_ ياسين بن خير الله الخطيب العُمري ... منية الأدباء في تاريخ الموصل الحدباء ... الموصل 1955
_ ياقوت الحموي ... معجم البلدان/ المجلدان الأول والثاني ... بيروت 1995
_ يزيد بن محمد الأزدي ... تاريخ الموصل ... القاهرة 1967








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بهجمات متبادلة.. تضرر مصفاة نفط روسية ومنشآت طاقة أوكرانية|


.. الأردن يجدد رفضه محاولات الزج به في الصراع بين إسرائيل وإيرا




.. كيف يعيش ربع سكان -الشرق الأوسط- تحت سيطرة المليشيات المسلحة


.. “قتل في بث مباشر-.. جريمة صادمة لطفل تُثير الجدل والخوف في م




.. تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن.. ما الأسباب الفعلية لهذه الخ