الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السوبر تعددية المعنالوجية

حسن عجمي

2023 / 5 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


السوبر تعددية المعنالوجية تدرس المعاني علمياً على أساس تعدّد معاني المفهوم نفسه. أما "المعنالوجية" فمشتقة من المعنالوجيا المُركَّبة من معنى و لوجيا بمعنى عِلم وبذلك "المعنالوجية" تشير إلى عِلم المعنى. بالنسبة إلى السوبر تعددية المعنالوجية، يمتلك كلّ مفهوم معان ٍ عديدة ومتنوّعة ومختلفة ومتعارضة ولكن رغم اختلاف وتعارض معاني المفهوم نفسه تصدق كل معانيه المختلفة والمتعارضة ما يجعلها كلّها معان ٍ متساوية في قيمتها ومقبوليتها فيضمن حرية أن نختار أيّ معنى منها أو اختيار كل معانيها. وبذلك لا تنحاز السوبر تعددية المعنالوجية إلى معنى دون آخر فتدرس كل المعاني ونتائجها المنطقية بدلاً من إقصاء معان ٍ وإبقاء معان ٍ أخرى ما يجعلها علمية على ضوء واقعيتها الكامنة في عدم انحيازها. و بما أنَّ السوبر تعددية المعنالوجية لا تنحاز إلى معنى دون آخر، إذن تؤسِّس لقبول كل المعاني المختلفة فقبول أتباعها ما يضمن بدوره قبول الآخر و إن اختلف عنا في فهمه لمعاني المفاهيم. هكذا السوبر تعددية المعنالوجية فلسفة إنسانوية بامتياز لكونها تؤكِّد على صدق المعاني المتعدّدة والمختلفة وقبولها جمعاء فقبول مَن يعتقد بها.

مثل على السوبر تعددية المعنالوجية هو أنَّ مفهوم "الكون" لديه معان ٍ عديدة ومختلفة ومتعارضة منها أنه المُتكوِّن من مادة وطاقة كأن يكون المُتكوِّن من ذرات وجُسيمات مادية وطاقاتها. و من معاني الكون أنه المُتكوِّن من معلومات وتبادل المعلومات كما يقول الفيزيائي جون ويلر [1] . بالإضافة إلى ذلك، من معاني الكون أنه المُتكوِّن من معادلات رياضية مجرّدة فمن الممكن بنجاح تفسير كلّ ظاهرة على ضوء معادلات رياضية معيّنة ما يؤدي إلى نتيجة إمكانية اختزال أية ظاهرة إلى مجرّد معادلات رياضية كما يؤكِّد على ذلك الفيزيائي ماكس تغمارك [2] . أما معنى آخر للكون فهو أنه وهم لأنَّ معلومات الكون موجودة على سطح الكون بدلاً من أن تكون مُوزَّعة داخله وبذلك الكون صورة هولوغرامية أي صورة ثلاثية الأبعاد كما يصرّ على ذلك الفيزيائي ليونارد سسكيند [3] .

هكذا تتعدّد معاني الكون وتتعارض. ولكن رغم اختلاف معاني الكون كلّها معان ٍ صادقة لأنه مُعبَّر عنها ضمن نماذج علمية ناجحة في تفسير الكون و وصفه. وبذلك تصدق معاني المفهوم نفسه كمعاني مفهوم الكون رغم اختلافها وتعارضها ما يحتِّم المساواة فيما بين تلك المعاني المختلفة والمتنوّعة فيضمن حريتنا في اختيار معنى منها أو كلّ معانيها ما يدلّ على صدق السوبر تعددية المعنالوجية. فإن اخترنا قبول معنى الكون على أنه المُتكوِّن من معلومات فحينئذٍ نصدق تماماً كما إن اخترنا أنه معادلات رياضية أو أنه مجرّد وهم. فلا أفضلية لنموذج علمي على آخر لأنَّ كلّ النماذج العلمية المختلفة ناجحة و إلا لم يتم تداولها علمياً. و لا أفضلية نموذج علمي على آخر دلالة على أنه لا أفضلية لمعنى على آخر علماً بأنَّ النماذج العلمية تتضمن معان ٍ مختلفة للمفهوم نفسه كتضمن النماذج العلمية السابقة معان ٍ متنوّعة لمفهوم الكون.

يصدق هذا المنهج الفكري على أيّ مفهوم آخر. فمثلاً، لمفهوم العقل معان ٍ عديدة ومختلفة منها أنَّ العقل هو الدماغ بمعنى أنَّ الحالات العقلية كالاعتقاد ليست سوى حالات فسيولوجية في الدماغ وبذلك العقل مُختزَل إلى الدماغ وحالاته الفسيولوجية المادية تماماً كما وَرَدَ ذلك لدى الفيلسوف ديفيد أرمسترونغ [4] . معنى ثان ٍ للعقل هو أنه مجموعة وظائف هي عبارة عن علاقات سببية بين مُنبِّهات و ردود أفعال كما يقول الفيلسوف دانيال دينيت [5] . أما معنى ثالث للعقل فهو أنه يتكوّن من المحيط الطبيعي والاجتماعي للفرد لاعتماده على المحيط الطبيعي والاجتماعي لكي يقوم بوظائفه كما يؤكِّد على ذلك الفيلسوف ألفا نوي [6] . كل هذا يرينا أنَّ للعقل معان ٍ عديدة ومختلفة ولكنها كلّها معان ٍ صادقة لكونها ناجحة في تحليل العقل ولذلك يعتمد عليها المفكِّرون والفلاسفة والعلماء في دراسة العقل وتجلياته. من هنا، تصدق فلسفة السوبر تعددية المعنالوجية بقولها إنَّ للمفهوم نفسه معان ٍ عديدة ومتنوّعة وصادقة رغم اختلافها مما يسمح لنا باختيار المعنى المناسب للسياق الذي يتداول هذا المفهوم أو ذاك. فبما أنَّ معاني المفهوم نفسه متعدّدة ومختلفة و رغم ذلك كلّ معانيه صادقة، إذن لن نُسجَن في معنى مُحدَّد للمفهوم ما يضمن حرية تداول أيّ معنى من المعاني المختلفة للمفهوم نفسه فيضمن بدوره حرية صياغة نصوص متعدّدة ومتنوّعة. و في هذا فضيلة كبرى لأنَّ سجننا في معنى مُحدَّد نقيض الإبداع.

من المنطلق نفسه، يملك مفهوم العدالة معان ٍ مختلفة ومتنوّعة ومتعارضة. من معاني العدالة أنها المُتكوِّنة من الحرية فقط. طَرَحَ الفيلسوف روبرت نوزيك هذا المعنى للعدالة بقوله إنَّ وظيفة أيّة حكومة هي حمايتنا من السرقة والاحتيال والقتل وليست وظيفتها إعادة توزيع الثروة لأنه إذا حَدَث توزيع للثروة فحينها نكون قد أخذنا من مال الأغنياء و قدَّمنا ما أخذنا إلى الفقراء وبذلك لا نحترم حق الأغنياء في فعل ما يريدون بما يملكون. من هنا، بالنسبة إلى هذا المعنى للعدالة، تكمن العدالة فقط في احترام حريات الأفراد و عدم التدخُّل في شؤونهم [7] . أما الفيلسوف جون رولز فيقدِّم معنى آخر للعدالة ألا و هو أنَّ العدالة قائمة على احترام الحريات وإعادة توزيع الثروة كأن تُبنَى المؤسسات لخدمة مصالح الأقل حظاً في المجتمع. و هذا لأسباب عديدة منها أننا سوف نختار العدالة كإعادة توزيع للثروة إن كنا لا نعرف إذا نحن من الأقل حظاً أم لا. فبما أنه من الممكن أن نكون من الأقل حظاً اجتماعياً واقتصادياً، إذن سنختار العدالة كإعادة توزيع للثروة أي العدالة كمساواة اجتماعية واقتصادية لكي نستفيد فمن غير العقلاني أن نختار ما ليس مفيداً لنا [8] . هنا، معنى العدالة قائم في الأساس على المساواة الاجتماعية والاقتصادية. ولكن ثمة معنى ثالث للعدالة ألا و هو العدالة كسلام. فبِلا سيادة السلام تَسُود الحروب والصراعات التي تؤدي لا محالة إلى عدم احترام الحريات والمساواة. وبذلك السلام ضروري لتحقيق العدالة كحريات ومساواة ولذلك تتكوّن العدالة أيضاً من السلام. ولكن كل هذه المعاني للعدالة صادقة رغم تنوّعها لأنه توجد حجج قوية داعمة لكلّ معنى من تلك المعاني المتنوّعة للعدالة. هكذا تصدق السوبر تعددية المعنالوجية بقبولها للمعاني المتعدّدة للمفهوم نفسه.

كلّ الأمثلة السابقة تدلّ على مصداقية السوبر تعددية المعنالوجية التي تؤكِّد على تنوّع معاني المفهوم نفسه و صدقها لكونها معان ٍ ضمن سياقات نماذج علمية وفلسفية ناجحة. هكذا لا تقصي السوبر تعددية المعنالوجية معنى معيّناً بل تقبل كلّ المعاني المتعدّدة لكونها متساوية في قيمتها الفكرية والعلمية. على هذا الأساس، السوبر تعددية المعنالوجية تضمن العدالة الفكرية القائمة على المساواة بين المعاني المختلفة.

المراجع

[1] James Gleick: The Information. 2011. Pantheon Books.

[2 ] Max Tegmark: Our Mathematical Universe. 2014. Knopf.

[3] Leonard Susskind: Introduction to Black Holes, Information and the String Theory Revolution: The Holographic Universe. 2004. World Scientific Publishing Company.

[4] D. M. Armstrong: A Materialist Theory of the Mind. 1993. Routledge.

[5] Daniel Dennett: Consciousness Explained. 1992. Back Bay Books.

[6] Alva Noe: Out of Our Heads. 2010. Hill and Wang.

[7] Robert Nozick: Anarchy, State and Utopia. 2013. Basic Books.

[8] John Rawls: A Theory of Justice. 2005. Belknap Press.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصير مفاوضات القاهرة بين حسابات نتنياهو والسنوار | #غرفة_الأ


.. التواجد الإيراني في إفريقيا.. توسع وتأثير متزايد وسط استمرار




.. هاليفي: سنستبدل القوات ونسمح لجنود الاحتياط بالاستراحة ليعود


.. قراءة عسكرية.. عمليات نوعية تستهدف تمركزات ومواقع إسرائيلية




.. خارج الصندوق | اتفاق أمني مرتقب بين الرياض وواشنطن.. وهل تقب