الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الثامن

حامد خيري الحيدر

2023 / 5 / 31
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الى الجنوب من أم الربيعين بمسافة بعيدة تُقارب المائة وعشرة كيلومترات، وعلى الضفة اليُمنى لنهر دجلة، شُيدت في فترة مُبكرة من تاريخ وادي الرافدين مُستوطنة سكانية صغيرة، ما لبثت أن نَمَت وتَوَسعت بمُرور الزمن، لتتحول الى مدنية كبيرة قٌدّر لها أن تكون الحاضرة الأولى لأحد أشّد الأقوام التي حَكمت وادي الرافدين والشرق الأدنى القديم وأكثرهم بأساً، ألا وهم الآشوريين، وتلك المدينة العريقة التي احتضنت تعاظم قوتهم هي "آشور"، التي غَدت عاصمة مُلكهم ومدينتهم الدينية المقدّسة، كونها مَقر كبير آلهتهم "آشور" الذي تسموا مع مدينتهم هذه باسمه.
تقع مدينة "آشور" الى الجنوب بمسافة أربعة كيلومترات تقريباً من قضاء الشرقاط، الذي كان تابعاَ من الناحية الإدارية حتى عام 1987 لمحافظة نينوى ثم ألحق بعدها بمحافظة صلاح الدين، وكذلك هذه المدينة التاريخية التي سُميّت أطلالها بـ"قلعة الشرقاط"، وترجع تَسمية "شرقاط" الى أصول أكدية اختلفت الآراء في مَعناها، فالبعض ذهب بأصلها الى "آشوركات"، وتعني "بوابة الإله آشور"، وآخرون تناولوها بصيغة "شركات"، وتعني "القلعة الشرقية"، أما أقدم ذكر للمدينة كان قد وَرد في النصوص المسمارية السومرية بصيغة "أوسار"، ثم بعدها بالأكدية بصيغة مُشابهة هي "آوشور"، وضمن كتابات الفترات المتأخرة، ذكرها المؤرخ "زينفون" صاحب حملة العشرة آلاف مُحارب في كتابه "أناباسيس" لدى مروره بها عام 401ق.م باسم "كاناي"، في حين أطلق عليها "الفرثيون" في القرن الأول قبل الميلاد أسم "لِبّا"، كما أسماها العثمانيون لاحقاً "طبراق قلعة" أي "قلعة التراب".
ويَمتد عُمر الاستيطان في مدينة "آشور" الى مَطلع الألف الثالث قبل الميلاد، حيث كانت عند النصف الأول منه تابعة مع باقي مُستوطنات شمال وادي الرافدين للتأثير السياسي والحضاري السومري خلال عصر دويلات المدن السومرية، لتخضع بعدها للإمبراطورية "الأكدية" 2371_ 2230ق.م ثم إمبراطورية "أور الثالثة" 2113_2006ق.م، ثم أخذت المدينة تتنامى قوتها ومَكانتها في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، حيث بدأ حينها التاريخ الواضح للآشورين في مرحلته الأولى التي تُعرف بـ"العصر الاشوري القديم" الذي يَمتد حتى أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، لتغدو "آشور" معه عاصمة الشعب الآشوري ومركز قوته التي بدأت بالظهور في هذه الفترة من تاريخ وادي الرفدين وخاصة في الجانب الاقتصادي منه، حين تعاقب ملوك آشوريون أقوياء على تولي مقاليد الحكم، أعطوا للدولة الجديدة الناشئة مَكانتها في الشرق الأدنى القديم، أمثال "بوزرآشور"، "شالم آخوم"، "أيلوشوما"، رغم الأوضاع المُتذبذبة الذي كانت تنتابها حسب قوة خصومها، إذ غدت في فترة من الزمن تابعة لمملكة بابل في عهد ملكها الشهير "حمورابي" 1792_1750ق.م.
ثم خَضعت المدينة خلال فترة العصر الآشوري الوسيط 1500_911ق.م لمَملكة "ميتاني" الخورية، حتى تَحررت من سيطرتها في زمن ملكها "آشور أوبالط الأول" 1365_1330ق.م، وبعد تَعاظم الدولة الأشورية ظلت المدينة تُمثل العاصمة السياسية لها، بعدها تم نقل مَقر الحكم منها بسبب تقلب الظروف السياسية والصراعات العنيفة على عرش الدولة الى مدينة "كالخو" في زمن الملك "شلمنصر الأول" 1274_1245ق.م، ثم الى "نينوى" في زمن الملك "تجلاتبلاسر الأول" 1115_1077ق.م، ثم بعد عدة قرون الى "كالخو" مرة ثانية في زمن الملك "آشورناصربال الثاني" 883_859ق.م، بعدها الى "دورشروكين" مع آخر عهد الملك "سرجون" 721_705ق.م، لتُعاد مرة أخرى الى "نينوى" في عهد الملك "سنحاريب" 705_681ق.م.
ورغم انتقال مقر الحكم الآشوري الى عواصم أخرى جديدة، إلا أن "آشور" حافظت على مكانتها وقُدسيتها، وظلت تُمثل المدينة الدينية الأولى لدى الآشوريين حتى آخر فتراتهم التاريخية، باعتبارها موطن إلههم القومي "آشور"، لذلك كانت تَضّم مدافن ملوكهم ومكان تنظيم احتفالاتهم الرسمية، ورغم سقوط المدينة عام 614ق.م أي قبل سنتين من سقوط العاصمة "نينوى" على يد التحالف "الكلدي"_"الميدي"، إلا أن الاستيطان والسُكنى قد استمرا فيها خلال الفترات "الفارسية الأخمينية" 539_333ق.م و"السلوقية"323_126ق.م، لكنها ازدهرت بشكل ملحوظ خلال الفترة "الفرثية" 126ق.م_227م، حيث سَكنتها بعض القبائل الآرامية بسبب قربها من مدينة "الحَضر" التاريخية التي تقع الى الغرب منها بمسافة ستين كيلو متراً تقريباً، حتى تم هَجْرها بشكل كامل مع سيطرة "الساسانيين" 227_637م على المنطقة، حيث قاموا بتدميرها وحرقها عام 252م.
كان قد زار مدينة "آشور" العديد من الرحالة خلال القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، كما أجريت فيها بعض الحَفريات المُقتضبة من قبل "هنري لايارد" و"هرمز رسام" لأجل الحصول على آثارها، لكن التنقيبات الأثرية العلمية الحقيقية كانت قد بدأت فيها من قبل البعثة الألمانية برئاسة عالم الآثار "ولتر أندرية" للفترة 1903_1914، ومن خلالها تم الكشف عن جانب كبير من تاريخها الموغل بالقدِم، بعد أن أتبّع هذا العالم أسلوبين في التنقيب الأثري، أولهما "التنقيب الأفقي" الذي تم من خلاله استظهار العديد من أبنيتها الهامة التي ترجع الى عصور وفترات زمنية مختلفة، من معابد وقصور وأسوار وبوابات، حيث يعود إليه الفضل في الكشف عن تلك المباني التي لازالت شاخصة حتى اليوم، أما الثاني فهو أسلوب "الخنادق الاختبارية"، التي تم حفر العديد منها بشكل أفقي يَمتد من أقصى شرق المدينة حتى أقصى غربها، من أجل جمع أكبر قدر مُمكن من المعلومات عن تاريخ المدينة، الذي يَمتد حتى أقدم أدوارها الاستيطانية ومراحل السُكنى الأولى فيها، وقد أعتُبر "أندرية" حينها أول عالم آثار يَبتكر هذا الأسلوب في عمليات التنقيب الأثري والذي تَم استخدامه بشكل ناجح جداً في هذه المدينة، ليغدو أسلوباً علمياً مُتبّعاً ومُعترفاً به في علم الآثار ومُسّجَلاً باسم هذا العالم، ولازالت آثار هذه الخنادق باقية حتى اليوم، ويُمكن لمن يزور المدينة أن يراها بوضوح هناك.
وما يَجدر التطرق إليه هو أن "ولتر أندرية" خلال تنقيباته في مدينة "آشور" قد أحتاج الى عمال حَفر مُتخصّصين لمساعدته في عمله، لذلك ذهب الى قرية "سديرة" التي تقع مقابل المدينة الأثرية الى الجانب الآخر من نهر دجلة، وأنتقى من سُكانها خمسة وعشرين فلاحاً شاباً سافر بهم الى ألمانيا، وعلى مدى أكثر من ستة أشهر قام بتدريبهم هناك بشكل مُكثف، على أساليب التنقيب الأثري وطرق الحفر الصحيح وكيفية تمييز ألوان وأشكال التُرَب وحدود الطبقات الأثرية وأنواع الفخار وتحديد أزمانه، وبالفعل فقد أبلى هؤلاء فيما بعد البلاء المُمتاز خلال عملهم في هذه المدينة الى جانب "أندرية"، ليصبحوا الجيل الأول من الحَفارين الآثاريين الذين قاموا بدورهم بتدريب أبنائهم وأقرانهم فنون وخَبايا هذه الحِرفة التي غَدت رائجة ومُربحة خلال تلك الأيام، مع توافد العديد من البعثات الآثارية الى العراق بسبب كثرة التنقيبات الجارية فيه، ولتغدو مع تعاقب الأيام مُتوارثة ومُقتصرة على أهل هذه القرية تحديداً، ليَكسب بسببها هؤلاء الحفارون على مَرّ الزمن شهرة وسُمعة كبيرة في عملهم المُحترف هذا، فأصبحوا عُيون المُنقبين وأياديهم خلال تنقيباتهم الأثرية، حتى أن الواحد منهم عُرف لدى البعثات الأجنبية باسم "شرقاطي"، لتصبح هذه التسمية فيما بعد بمَثابة تعبير مَجازي يَدل عن مهنة الحَفار الأثاري المُتخصّص، حتى وأن لم يكن من أهل هذه المنطقة(1).
تُعتبر مدينة "آشور" ذات التخطيط المُثلث تقريباً أصغر العواصم الآشورية، إذ لا تتعدى مَساحتها مائتان وأربعون دونماً، كما أنها الوحيدة بينهن التي تقع على الضفة اليُمنى لنهر دجلة، وكانت طبيعتها تختلف كلياً عن باقي العواصم الآشورية الأخرى، حيث تطغي عليها الصبغة الصحراوية الجافة رغم مُحاذاتها النهر، وتبدو لناظرها مُجرد بقعة جَرداء تَنتشر عليها اطلال المَباني الضخمة وبقايا أسوار عالية، وقد اختير موقعها بذكاء ليوفر الجانب الدفاعي لها، من خلال استغلال التَضاريس الأرضية لتكون بمَثابة استحكامات قوية وعنصراً أساسياً لحمايتها وجعلها حصناُ دفاعياً مَنيعاً، حيث أنها شُيّدت على هضبة صَخرية ترتفع بحدود أحد عشر متراً، يَحدّها نهر دجلة من الشرق ومن الشمال أحد الجداول المائية التي تصّب فيه، وعند هذين الجانبين تم تشييد مُسناة كبيرة من الحجر المُهندم لوقاية جُرفيهما من التآكل بسبب شِدّة جَريان المياه، أما من الجانبين الجنوبي والغربي فقد أحيطت المدينة بسورين كبيرين مُتوازيين مُشيّدين باللِبن يتقدمهما مَجرى مائي، أحدهما داخلي والآخر خارجي، سُمك كل منها أكثر من ثمانية أمتار، وفي الغالب كان ارتفاعهما الأصلي يَتجاوز العشرين متراً، وهما مُدعّمين بأبراج دفاعية حَصينة.
السور الداخلي ورَد في المَصادر الآشورية باسم "دورو"، وهو بشكل قوس كبير يُحيط القسم الأكبر والأهم من المدينة الذي أثبتت التنقيبات الأثرية أن بداياته ترجع الى الألف الثالث قبل الميلاد، والذي يُعرف بالمدينة القديمة أو المدينة الداخلية التي تُسمى بالأكدية "لبي آلي"، أو "قبلي آلي"، وهو يَمتد من الشمال الغربي حيث الجدول المائي نحو الجنوب الشرقي ليَنتهي عند ضفة نهر دجلة، أما السور الخارجي والذي وَرد في المصادر الآشورية باسم "شالخو"، فهو يمتد موازياً للأول لكن في قسمه الأخير يَنحرف نحو الجنوب الشرقي، وينتهي هو الآخر عند ضفة نهر دجلة ليُحيط بالقسم الآخر والجنوبي من المدينة، الذي يُمثل المدينة الجديدة المُسماة بالأكدية "آشو آلي"، التي يرجع زمن تَشييدها الى فترة العصر الآشوري الوسيط، وتُمثل التوسع الذي حصل على المدينة نتيجة ازدياد نسبة الاستيطان فيها، وقد ذكرت المصادر المسمارية أن السورَين كانت تتخللهما ثلاث عشرة بوابة، لكن لم يتم الكشف سوى عن ثمانٍ منها فقط هي.. "تابيرا" وهي البوابة الرئيسية للمدينة وتقع عند الجانب الغربي من سورها، ثم "تيساري"، "أياشاري"، "أيدكَالات" أي "دجلة"، "أشور"، "موشلالو"، "شَمَش"، "زقارو" أي "البرج" أو "الزقورة".
وقد تم تَشييد المَباني الهامة والرَسمية في "آشور" من معابد وقصور ملكية عند جانبها الشمالي، بينما تُرك قسمها الجنوبي والمدينة الجديدة لسُكنى عامة الناس، وتُبيّن مُخططات تلك الأبنية بوضوح بأن الخصائص المُميّزة للعمارة الآشورية قد بدأت تظهر موضوعاتها لأول مرة وتتبلور أفكار مدرستها في هذه المدينة عند القرن الرابع عشر قبل الميلاد، حيث دَمج المعماريين خلال هذه الفترة الجانب الروحي بمعتقداته الدينية بالواقع الحياتي للمجتمع الآشوري في تصاميمهم، وأول ما يُشاهد من بين تلك المباني هو زقورة معبد الإله "آشور" التي تقع في الجانب الشمالي الشرقي، وما تَبقى منها عبارة عن كتلة كبيرة من اللِبن ترتفع بحدود أثني عشر متراً، إضافة الى أسس طبقتها الأولى التي كانت ذات تخطيط مربع طول ضلعها بحدود خمسين متراً، أما معبدها المُكرّس لكبير آلهة الآشوريين والذي يقع الى الشرق من الزقورة بمسافة خمسين متراً تقريباً، فكان أكبر معابد الدينة وأضخمها وسُميَّ "بيت كيشاتي" ويَعني "بيت العالم" أو "بيت سيد العالم"، كما سُميَّ أيضاً "بيت شَرّي"، بمعنى "بيت الملك" ويُقصد به "آشور ملك الكون".
كما وضَّم الجانب الشمالي من المدينة مدافن الملوك الآشوريين، التي كانت بشكل أقبية مُشيّدة بالحَجر والطابوق، تعلوها مَزارات صغيرة لغرض الدعاء وتقديم النذور، يتم النزول الى حُجرات الدفن فيها عبر سلالم مُدرّجة من الطابوق، وقد وجدها المُنقبون جميعها خالية ومَنهوبة، منها مدافن الملوك "أشورناصربال" و"سنحاريب" و"آشوربانيبال"، كما شُيّدت في هذا الجانب أيضاً معابد الآلهة "عشتار" و"نابو"، إضافة الى مَعبدين مُزدوجين أحدهما للإلهين "أنو" و"أدد"، أحتوى زقورتين بحَجم أصغر من زقورة معبد "آشور"، والآخر للإلهين "سين" و"شَمَش"، وهي ظاهرة غريبة على العمارة الرافدينية تُمثل في الغالب إحدى التأثيرات الدينية التي طرأت على تقاليد هذه البلاد، نتيجة اختلاطها مع الأقوام الأخرى في بلاد الشام وأسيا الصغرى عند أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، ومن جانب آخر فقد شُيّد عند الجانب الشمالي الغربي من المدينة وخارج أسوارها بمسافة حوالي مئتين وخمسين متر تقريباً، بيت الاحتفالات والأعياد الرَسمية المَعروف باسم "بيت أكيتي".
كما تم الكشف في مدينة "آشور" على عدد من المباني الهامة التي تعود الى الفترة "الفرثية"، حيث شهدَت المدينة خلالها نهضة عمرانية كبيرة ونشاط اقتصادي مُميّز أعاد لها شيئاً من بريق الماضي، أهمها ذلك القصر الذي عُرف لدى الآثاريين باسم "قصر الأواوين"، وهو قصر واسع مُتعدد المَرافق والوحدات الداخلية، أبرز ما فيه هو ظهور لأول مرة العنصر المعماري المَعروف بـ"الأيوان"، إذ أحتوى هذا القصر على ساحة مستطيلة الشكل بطول ثلاثين متراً وعرض عشرين، في وسط كل جانب من جوانبها إيوان واسع يطل عليها ويواجه الإيوان المقابل، بأسلوب مماثل لأواوين المدرسة المستنصرية في بغداد، وقد تَجسّد هذا العُنصر المعماري المُميّز الرافديني الأصل بشكل واضح في أبنية مدينة "الحضر"، وكذلك في الأبنية الساسانية في مدينة "طيسفون"/"المدائن" التي يُعتبر أيوان "كسرى" المَعروف بـ"طاق كسرى" أشهر وأبرز معالمها، ثم ليَتحول بعد ذلك الى ظاهرة معمارية انتقلت الى جميع مناطق الشرق الأدنى، مثل أيران وأسيا الصغرى وبلاد الشام ومصر وغيرها من البلاد الأخرى.
كما ويُلاحظ عند الجانب الشرقي من المدينة وجود مَخفر أو ثكنة عسكرية عثمانية تطل على نهر دجلة سُميّت "قلعة فرحان باشا"، لازال قسم كبير منها قائماً، حيث أن العثمانيين قد استفادوا من الموقع الاستراتيجي للمدينة الأثرية ليُشيّدوا قلعتهم فيه، من أجل السيطرة على حركة مرور الزوارق والمَراكب في النهر، ويُذكر أن هذه الثكنة قد جُعل منها بعد انسحاب القوات العثمانية من العراق عند نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 مستشفى ميداني للقوات البريطانية لمعالجة جنودها الجرحى خلال المعارك، بالإضافة الى ذلك فقد شُيّد في المدينة أيضاً مَقراً للبعثة الآثارية العاملة هناك ومَتحفاً لآثارها المكتشفة(2).
ومن الرُكن الشمالي الشرقي لمدينة "آشور" حيث هَضبتها العالية، يُمكن بوضوح رؤية التلول الأثرية المُسمّاة "العُكَر"، التي تقع عند الجانب المُقابل من نهر دجلة الى الشمال بمسافة تُقارب الأربعة كيلومترات، والتي تُمثل أطلال المدينة الآشورية "كار توكلتي نينورتا"، التي بَناها الملك "توكلتي نينورتا" 1244_1208ق.م، حيث شَيّد هذا الملك خلال فترة حكمه مدينة جديدة لمُلكه على الضفة اليسرى لنهر دجلة، ويعني أسمها "حصن تكولتي نينورتا"، وقد أجرّت البعثة الألمانية خلال تنقيباتها في مدينة "آشور" تنقيبات في هذه المدينة أيضاً، كشفت خلالها عن مُخططها وبعض من أبنيتها، حيث كانت مَربعة الشكل طول ضلعها بحدود سبعمئة وخمسين متراً، أحيطت بسور مُحصّن يحوي عدد من البوابات سُمكه يتراوح ما بين عشر وخمسة عشر متراً، كما يُقدّر ارتفاعه الأصلي بحدود خمسة وعشرين متراً، تم تقسيمها من الداخل بسور سميك الى قسمين يحوي عدد من البوابات كذلك، خَصص الشرقي منها لسُكنى عامة الناس، أما الغربي المُطل على النهر فقد شُيّدت فيه الأبنية الرَسمية من قصور ومعابد، والتي كان أهمها قصر الملك "توكولتي نينورتا" الذي أسرف في تَشييده وتَجميله، حيث كسيّت الأقسام السفلى من بعض جدرانه بالطابوق المُزجّج، كما احتوت غرفه وقاعاته على رسوم جدارية مُنفّذة على الجص بالألوان الأبيض والأسود والأحمر والأزرق، تُبين بوضوح السطوة الكبيرة التي وصل إليها هذا الملك، كما شُيد في وسط هذا الجانب أيضاً معبداَ كبيراً خُصّص لعبادة الإله "آشور" مع زقورة ضخمة مُكرّسة له، ما تبقى من ارتفاعها يُقارب العشرة أمتار.
ويُعّد "توكلتي نينورتا" الذي يَعني أسمه بشكل يُقارب العربية "توَكلت على الإله نينورتا "، أحد الملوك الأقوياء الذين حكموا بلاد "آشور" خلال فترة العصر الآشوري الوسيط، بعد أن خلف بالحكم والده الملك "شلمنصر الأول"، وامتدت سيطرته الى مناطق واسعة من أسيا الصغرى وبلاد الشام، كما سَيّطر لفترة من الزمن على بلاد بابل، حيث لقب نفسه حينها بـ"ملك بابل وآشور"، ثم أنتهى عَهده مقتولاً على يد أحد أبنائه إثر انقلاب عسكري أطاح بحكمه.

الهوامش:

1_ من أشهر الحَفارين الأثريين في العراق وأكثرهم خبرة، كان الحَفار الراحل "خلف الجاسم" الذي كسَب سمعة دولية كبيرة، بعد أن عمل في عشرات المواقع الأثرية في شمال العراق وجنوبه وحتى خارجه وأبلى بلاءً مُمتازاً في عمله، وكانت بعثات التنقيب العراقية والأجنبية على الدوام تدعوه لمساعدتها حين تواجه مشاكل صعبة ومُعقدة خلال تنقيباتها.
2_ تَعرّض متحف مدينة "آشور" التاريخية الى جريمة سرقة بَشعة عام 1995، أستولى السُرّاق خلالها على مجموعة هامة من القطع الأثرية، وقد أتهم صِهر رئيس الجمهورية آنذاك بالتخطيط لهذه الجريمة.

المصادر:

_ طه باقر ... مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة/ الجزء الأول ... بغداد 1973
_ طه باقر ، فؤاد سفر ... المُرشد الى مواطن الآثار والحضارة/ الرحلة الثالثة ... بغداد 1966
_ عامر سليمان ... الآثار الباقية ... موسوعة الموصل الحضارية/ الجزء الأول ... الموصل 1991
_ فاتر أندرية ... استحكامات آشور ... ترجمة/ عبد الرزاق كامل الحسن ... بغداد 1987
_ قحطان رشيد صالح ... الكشّاف الأثري في العراق ... بغداد 1987
_ مؤيد سعيد ... المدينة من عصر فجر السلالات حتى نهاية العصر البابلي الحديث ... حضارة العراق/ الجزء الثالث ... بغداد 1985
C. River … The Assyrian Empire Capitals … LONDON 2009_
G. Rawlinson … Assyrian Empire … CHICAGO 2002_
G. Smith … Assyria … ROMA 2014_
N. Guild … The Assyrian … LONDON 1993_
Z. Ragozin … The Rise and Fall of The Assyrian Empire … CHICAGO 2014_








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو: هل تستطيع أوروبا تجهيز نفسها بدرع مضاد للصواريخ؟ • فر


.. قتيلان برصاص الجيش الإسرائيلي قرب جنين في الضفة الغربية




.. روسيا.. السلطات تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة| #ا


.. محمد هلسة: نتنياهو يطيل الحرب لمحاولة التملص من الأطواق التي




.. وصول 3 مصابين لمستشفى غزة الأوروبي إثر انفجار ذخائر من مخلفا