الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخبرة القضائية من منظور سوسيولوجي -Judicial expertise from a sociological perspective- الجزء 2

نورالدين لشكر
باحث

(Noureddine Lachgar)

2023 / 5 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المطلب الثاني: علم اجتماع الخبرة بين التنسيب والتطوير للقوانين

أولا: الخبرة والقضاء: العلم مساعد للعدالة

ليس للخبير في القضاء أي إمكانية لإصدار حكم قانوني، لكنه يقدم خبرته ومعرفته للقاضي في قضايا ملموسة، أو ذات طابع تقني مستحضرا ضميره الأخلاقي وموضوعيته وتجرده. وكما سبق في تحديد الدلالة الاشتقاقية للخبير، فقد تمت الإشارة إلى أنه يقدم "حقيقة" تفسر الواقع استنادا إلى خبرته المتصلة بذلك الواقع، غير أن هذه الحقيقة تستخرج مسبقا خارج القانون، من هنا تشكلت علاقة فريدة بين المجالين، بين القانون والخبرة، بين القاضي وخبرائه، وأضحت موضوعا لدراسات متعددة، وأنتجت معرفة ساهمت بشكل كبير في ضبط المفهوم، نظرا للحاجة الملحة إليه، إذ أن الأمر يتعلق بالنزاعات اليومية بين الأفراد كأفراد، وبينهم وبين المؤسسات، أو بين هذه الأخيرة بعضها مع بعض. إن الخبير يراقب الوجود المادي للوقائع، و"إثبات الطابع المادي لحقيقة الأشياء". هذا الإثبات يحتاج إلى المعرفة العلمية بمستجداتها للكشف عن خبايا الواقعة التي طلبت من أجلها الخبرة، حيث يصبح العلم مساعدا للعدالة، بل يمكن للخبرة المؤسسة على العلم أن تلغي تصورات القاضي السابقة وتحل محلها، ذلك أن هذا الأخير تستعصي عليه الخبرة العلمية كحقيقة عقلانية وموضوعية وتقنية، وهنا يرى "إريك جسبير" أن الحقيقة العلمية التي توجد خارج القانون تحل محل الحقيقة القانونية ذاتها، بل إن بعض الباحثين سيذهب إلى أبعد مدى في هذا الموضوع، إذ يعتبر أن الخبرة وبالرغم من أنها توجد خارج فضاء المحاكم، ورغم أنها لا تقرر نيابة عن القاضي بشكل مباشر، لكنها قد تقرر بطريقة غير مباشرة قبله وهي من تبني قراره، "إن العلوم المختصة، بامتلاكها لفضاء اللاقانون (l’espace de non droit) تقدم الخبراء لدى المحاكم، وبالتالي تقرر قبلهم، وبالنيابة عنهم".

ثانيا: معيار حداثة المؤسسات: خبرة تمحو الحدود بين العلم والقانون 

إذا تقرر أن الحدود بين المعرفة والخبرة تبدو ضبابية، إذ أن المفهومين يستقي بعضهما من بعض في وضعيات متعددة، فإن الحدود الفاصلة بين العلم والقانون ليست ضبابية فحسب بل تبدو وهمية. ذلك أن القانون ينفتح على العلم من خلال وسيط رئيسي هو الخبرة، وحيث أن معيار حداثة المؤسسات وعلى رأسها الدولة يكمن في قدرة السيطرة على المخاطر التي تهدد المجتمع، فإنه يصبح من الواجب أن تكون العقلانية العلمية من خلال الخبرة هي عماد البرامج والتدخلات، فحداثة الدولة تقف ضد المصادفة في البرامج والتدخلات، وتقف ضد أي لبس أو شك في القرارات المصاحبة لها، وهو مطلب لحقيقة أكثر ثباتا، حيث أنها ستقف على آخر تطورات العلم، فالقانون إذن سينفتح على العلم من خلال مفهوم وسيط وهو الخبرة. من هنا سيصبح القانون مفتوحا على الوقائع التي تعيد تجديده بشكل دائم. وسيكون المشرع والقاضي منفتحا أكثر على كل المستجدات، فتطفو على السطح وبطريقة غير مباشرة معرفة علمية مفيدة قانونيا وتشارك في بناء المجتمع الحديث. وهكذا إذن يمكن الحديث عن "محو الحدود بين الميدان القانوني والميدان العلمي". والشكل التالي يبرز تلك السيرورة التفاعلية التي تنطلق من الواقع بمستجداته فتساهم في تطور العلم والتقنية، اللذان بدورهما يطفوان على سطح القضاء والقانون من خلال مفهوم الخبرة، الشيء الذي يساهم في تطور مفهوم الدولة والمجتمع الحديث.

الشكل 1: سيرورة التفاعل بين مفاهيم (العلم والتقنية، الخبرة، القضاء، الدولة الحديثة، ...).

 

إن من أكبر الأسئلة الإبستمولوجية التي تطرح هنا، هي ذلك التجاذب الذي يعرفه مفهوم الخبرة بين ما هو تقني وما هو علمي من جهة وبين ما هو قانوني ومؤسساتي من جهة أخرى. فالخبرة تمثل تلك الثغرة التي ينفذ من خلالها العلم بعقلانيته الخاصة داخل القانون وداخل أجهزة الدولة والمؤسسات والمنظمات وكل الأشكال التي ابتكرها الإنسان لتنظيم اجتماعه البشري. فالخبرة ليست نشاطا علميا بحثا، لكنها تدمج العلم في القانون ومن ثم تتوقع المخاطر بشكل استباقي وتقرر في خيارات مجتمعية ويصبح حديث السياسي رهين بمستجدات العلم. ويمكن من خلال هذا النقاش تصور هذه العلاقة التفاعلية بين المعرفة العلمية والقانون والخبرة. لذلك يجب بكل بساطة تحليل أنماط التفكير الواقعية التي يستخدمها القانونيون كما يطالب بذلك ميشيل تروبير.

ثالثا: الخبرة والخيال القانوني

إن الحديث عن المعرفة العلمية في علاقتها بالخبرة، هو حديث أيضا عن آراء بعض الرواد المعاصرين من سوسيولوجيين وفلاسفة وقانونيين ممن يؤسسون هذه العلاقة على الإبداع والإبتكار، وعلى قاعدة أفقها رسم مجتمعات تريدها الجهات الراعية، وتجاوز تلك العملية التي تسعى إلى مجرد اكتشاف الظواهر وقوانينها. ومن تم كان الحديث عن خبراء قادرون على إبداع لاواقع اجتماعي افتراضي وجعله واقعيا. في هذا الإطار، ولتطوير هذه الفكرة، يعتبر البعض أنه في "دولة ما بعد الحداثة" لا ينبغي للقانون أن يكون مجرد صورة عن الواقع، لقد أصبح هناك حديث عن "الخيال القانوني"، وهنا تصبح الخبرة هي الوسيط مرة أخرى لاستنبات عقلانية قانونية مستمدة من عقلانية علمية داخل المجال العام. إن هذا الإنقلاب في الأسس التي يقوم عليها القانون كمنظم للعلاقات الإجتماعية من الواقع إلى الخيال، هو ما سيسهم بحدة حسب إريك جسبير "في وضعية المساءلة العلمية والشك والإتهام للقانون بدل وضعية التبجيل والمعيارية التي يحظى بها". وهنا لا يمكن تجاوز الجهد الكبير الذي بذله الفيلسوف وعالم الإجتماع الألماني يورغن هابرماس الذي أعاد بناء المبادئ العامة للأخلاق، واعتبر أن تشريع القوانين يكون انطلاقا من تلك الصلة بين العلم والسلطة، وهو ما ينفي عن القانون خاصية التعالي ويجعله خاضعا للتفاعلات داخل المجتمع ك"سياسة تداولية، ومفهوم إجرائي ديمقراطي". هذه السياسة التداولية والإجرائية لا تتم إلا من خلال مجتمع توغلت فيه الخبرة المسلحة بالعلم والتي هي بمثابة الثغرة التي سبق الحديث عنها بين المعرفة العلمية من جهة، وبين التقنية والقانون من جهة أخرى، ومن تم فالمشرع يعكس تلك التفاعلات القائمة داخل المجتمع بين هذه العناصر، والتي حرص يورغن هابرماس على إخراجها إلى واضحة النهار، خاصة في مؤلفه "المعرفة والمصلحة". ففي المجتمعات الديمقراطية الحديثة أصبح لزاما على المشرع الذي يريد مواجهه وضع المخاطر أن يبدع ويوظف شيئا من الخيال ويدرك جيدا ما يقع في الحياة العامة من تطورات متسارعة، حيث تطرح التساؤلات الحارقة إبان الوضعيات المفاجئة للمجتمعات، كوباء كورونا (كوفيد-19) والإستنساخ، والتعديلات الجينية، والشكوك المرتبطة بالحقول الكهرومغناطيسية الناتجة عن محطات البث اللاسلكي وسط الأحياء السكنية، والألعاب الإلكترونية المدمرة للطفولة وللذاكرة، والتغيرات المناخية، إلخ. وإذا ما تم توسيع دائرة النقاش حول علاقة الخبرة بالمعرفة العلمية، وتحديدا في البعد الفينومينولوجي، يمكن القول بهذا المعنى أن الخبرة العلمية مثلا في القانون المعاصر تنحو إلى بعد ظاهراتي أيضا وتنتج حقيقة عن الواقع.

إن الحياة تزداد تعقيدا ودقة وتنوعا، ومن تم تفرض القراءة القانونية على صاحبها أن يكون متيقظا يراعي الحدود بين العلم والقانون، وهناك سعي حثيث من المختبرات العلمية لتقديم الأدلة، ليس فقط للقانون والقضاء، بل للبحث العلمي، لكن أيضا، لتبرير شرعية خيار مجتمعي، وجعل بعض المخاطر مقبولة اجتماعيا. لقد خلخلت جائحة كورونا (كوفيد-19) مثلا، كل التصورات والسياسات الاجتماعية والإقتصادية، ودفعت بقوة نحو التفكير في تغيير مجموعة من البرامج والاستراتيجيات، وقد لوحظ كيف تم التوجه نحو (التعليم عن بعد) مثلا، والذي رغم مخاطره حسب بعض التربويين خاصة بالنسبة للتعليم الأولي والإبتدائي، إلا أن هناك سعي نحو جعله تعليما مقبولا اجتماعيا، وهو ما تختص به اليوم المواد التقنية، والتشريعات القانونية والمذكرات والبلاغات المنظمة لعمل القطاعات الوزارية، وهنا يمكن القول "إن وظيفة البينة القانونية هي العمل على إثبات حقيقة ما اجتماعيا". هذا البعد الظاهراتي للمعرفة العلمية والتقنية هو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل بقوله إن "كل معرفة تبدأ مع الخبرة لكنها لا تنشأ عنها" وهي عبارة ذات دلالة عميقة في إطار بناء معرفة اجتماعية وخيار مجتمعي يبدأ من الخبرة بالظواهر وجعلها مقبولة اجتماعيا ومبررة شرعيا وقانونيا.

رابعا: تنسيب ومعيارية القوانين بالعلم  

تصبح الحاجة ماسة إذن لخبراء ممسكين بالعلم وقادرين على جعله جاهزا وقابلا للاستعمال، مع النظر إليه بشكل استباقي كمجال يتداخل فيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي وكذا الأخلاقي. ثم إن الوعي بهذا المفهوم يجعل أصحاب القرار يدمجون العلم من خلال الخبرة في الفضاء العام. هذه النظرة الإلزامية للعلم في المجتمع تجعل الفاعلين من الخبير إلى المقرر المؤسساتي، يعون جيدا معنى حداثة القانون. فالمعرفة العلمية في لحظة معينة تصبح معيارا حديثا للقانون الذي يحرص على ضبط العلاقات داخل المجتمع، وهذا الأخير يسيطر فيه التقنو–علم، ومن ثمة، فإن القانون يصدر حكمه مستمدا جذوره من العلم، من خلال تحديده لإطار الخبرة العلمية الجيدة، وتوقعاتها، وحتى غاياتها، وهذا لا يتحقق إلا في سياق عام يطبع الشك في الفرضيات والنتائج ناهيك عن الأحكام المسبقة. فقد ولى العصر الذي كان فيه القانون يتأسس على مبدأ لا يتغير، إذ يمكن الإستنتاج أن هناك محاولات لنزع صفة الشرعية عن الحقيقة القضائية التي يكون القاضي سيدا لها، أو على الأقل تنسيبها، إن نزع الشرعية أو تنسيبها يكون بالخبرة وهي أساسية هنا لتقارب "حقيقتان"، "الحقيقة العلمية" و"الحقيقة القانونية". فإذا كانت الحقائق العلمية مؤشر عليها بطابع النسبية فإن "الحقيقة القانونية" المستمدة من العلم والتي تتدخل الخبرة في عملية بنائها أحق بهذا التنسيب أيضا. ويتأكد هذا مع استحضار مساهمات مفكرينوخبراء قانونيين الذين يعتبرون أن القانون لا ينبغي أن يكون جامدا، بل متحركا ومتغيرا، ونسبيا تبعا للقواعد الأخلاقية والثقافية والإقتصادية للمجتمع التي هي متغيرة وتعرف التحول.

خلاصة: 

حاول هذا المقال أن يجيب على مطلبين، مطلب يبرز أهمية الإنفتاح على العلوم القانونية ومدى ما تكشفه عن علاقة بين الخبير والقاضي، فهذا الأخير لا يمكنه اعتبار الخبرة حائطا قصيرا يمكنه من تفويض المهام، كما أن تنظيم عمل الخبرة يعكس ذلك التراكم الذي أثله القضاء في الموضوع، وهو ما يستشف أيضا في لغة المشرع المتسمة بالدقة والوضوح، ثم ذلك الدرس العميق الذي يمكن استخلاصه من الخبرة القضائية وضخه في العلوم الاجتماعية، من خلال بعض النصوص الصادرة عن أعلى سلطة قضائية. وأما المطلب الثاني فهو لإبراز فاعلية الخبرة في تنسيب القوانين، وكيف يمكن اعتبار المفهوم معيارا لحداثة المؤسسات من خلال محو الحدود بين العلم والقانون، فهذا الأخير لايمكن أن يكون حديثا إلا بالقدر الذي ينفتح على العلم عبر الخبرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الاتهامات المتبادلة والدعم الكامل.. خبايا العلاقة المعقد


.. الشيف عمر.. أشهر وأطيب الا?كلات والحلويات تركية شغل عمك أبو




.. هل ستنهي إسرائيل حربها في غزة.. وماذا تريد حماس؟


.. احتجاجات طلابية في أستراليا دعما للفلسطينيين




.. أصداء المظاهرات الطلابية المساندة لغزة في الإعلام • فرانس 24