الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخبرة القضائية من منظور سوسيولوجي

نورالدين لشكر
باحث

(Noureddine Lachgar)

2023 / 5 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هل يمكن تصور نشاط إنساني حديث لا يتفاعل معه القانون؟

إذا كانت الخبرة  بشكل عام كفاعلية إنسانية تتموقع بين المعرفة العلمية والتقنية، فإنها تمارس في مجال التقاضي بين المتخاصمين من طرف نخبة اجتمعت فيها خصائص معينة، وحيث أن الحاجة إليها أضحت ملحة في المجتمعات الحديثة، فليس غريبا إذن أن يتم تحيين ومراجعة المادة القانونية المنظمة لتلك الفعالية باعتبارها مساهما أساسيا في ضبط العلاقات الإجتماعية عموما. فحيثما هناك نشاط إنساني فهناك إطار قانوني، وتبدو مهمة القانون ضبط "العلاقات العادلة التي يكتشفها العلم داخل النسيج الاجتماعي". على أن المراجعة والتحيين في الغالب تتم من قبل فقهاء ومشرعين، بيد أن هناك حاجة أخرى دفع إليها تطور الأبحاث العلمية وهي ضرورة الإنفتاح على حقول أخرى، قد تكون مغذية للحقل القانوني، ولم لا؟ ضخ الاجتهادات القانونية في حقول علمية أخرى كعلم الاجتماع، الذي يهتم هو أيضا بالخبرة بشكل عام، باعتبارها مفهوما من مفاهيم الدولة الحديثة، فكيف يمكن تناول الإطار القانوني المنظم لعمل الخبرة القضائية وفق مقاربة سوسيولوجية؟ وكيف يمكن تجاوز القراءات التقليدية للمفهوم وفق هذه المقاربة؟ وما مدى مساهمة كل من العلوم القانونية وعلم الإجتماع في تغذية بعضهما البعض عن طريق هذا المفهوم؟

المطلب الأول: الخبرة القضائية والعلوم الاجتماعية

أولا: ضرورة الإنفتاح وحدوده

يكثر الحديث عن الانفتاح بين الحقول المعرفية، سواء في العلوم الطبيعية أو الإنسانية أو الإجتماعية، فالطفرة التي عرفتها الفيزياء مثلا في بداية القرن العشرين، كانت نتيجة التطور الذي حصل في الرياضيات، والإحصاء الذي يعتبر فرعا عن هذا الرياضيات انعكس على الكيمياء، بل وانعكس أيضا على العلوم الإنسانية والإجتماعية وتحديدا علمي الإجتماع والإقتصاد، ولا يخفى أن هناك علاقة وثيقة بين الأنثروبولوجيا والتاريخ، إلخ. من هنا، فالإنفتاح بين حقلي السوسيولوجيا والقانون هو شكل من أشكال إعادة النظر في مفهوم الخبرة الذي نحن بصدده. إلا أنه وبالرغم من هذا الإنفتاح لابد أيضا من التأكيد على احترام الحدود المعرفية والمنهجية لهذا الموضوع، الذي ستتم مقاربته من زاوية سوسيولوجية بالرغم من أن مادته قانونية، وعليه، فإن هناك احتياط منهجي لابد منه، كي لا يتم الانجرار وراء تحليل سوسيولوجي فارغ من مادته الأساسية، أو قراءة قانونية جامدة يغيب فيها البعد النقدي. إن هذا الإحتياط المنهجي سببه هو ذلك الكم الهائل من المراجع والدراسات والأبحاث والمقالات حول موضوع الخبرة القضائية، بحيث يمكن القول أن الباحث يستعصي عليه حصر هذه الإنتاجات، ناهيك عن الإلمام بها درسا وتحليلا ومناقشة، فكم هي القضايا التي تم تناولها ضمن مجال الخبرة القضائية؟ وكم من الدراسات في كل قضية على حدة؟ من الخبرة في قانون المسطرة المدنية إلى الخبرة الجنائية، بالمقابل ذلك الخصاص الكبير إن لم نقل الفراغ من حيث الدراسات والأبحاث حول مفهوم الخبرة من زاوية سوسيولوجية وطنيا وعربيا، مع أن المفهوم تم تناوله في الدول الغربية مبكرا وبعدد وافر من الكتابات والإنتاجات العلمية.

إن انفتاح السوسيولوجيا على الخبرة القضائية من أهدافه النظر كيف تم تطوير المفهوم وضبطه، وكذا كيف تم ترسيم حدوده من جهة الإستقلالية والموضوعية والنزاهة، حيث لا وجود لروابط مادية أو مصالح عاطفية مع أحد أطراف النزاع، علاوة على ذلك يمكن الطعن في الخبراء لنفس الأسباب عند القضاة. وبالتالي يبدو من الضروري المساهمة في الكشف بشكل واضح عن نموذج الخبرة القضائية، وما إذا كان ممكنا الاستلهام منها لتنظيم الخبرة في العلوم الاجتماعية. ولتحقيق هذه الغاية، لابد من التأكيد على أنه وبالرغم من كثرة الدراسات التي تناولت الخبرة في القضاء إلا هذا المقال سيعتمد على مرجعين أساسين، نظرا لأهميتهما القصوى، فالمرجع الأول يوفر المادة القانونية التي يمكن اعتمادها للتحليل، والمرجع الثاني هو اجتهاد لخبير دولي ساهم إلى حد بعيد في تعميق النقاش حول الموضوع والرفع من سقفه.

ثانيا: الخبرة القضائية بالمغرب كحاجة ملحة ومساعدة بحيادية

يمكن اعتبار الحقل القانوني والمنظومة القضائية مجالا واسعا تناول هذا المفهوم بحرفية ودقة كبيرة تستدعي التوقف معها قدر الإمكان، بل والقراءة الفاحصة لمجموعة أحكام قضائية أونصوص قانونية، والنظر كيف نظمت هذه الأخيرة عمل الخبرة وكيف وضعت حدودا للخبير، فهذا الإحتكاك بتلك النصوص والأحكام القضائية قد يساهم بشكل كبير في ضبط المفهوم سوسيولوجيا ومن المحتمل أن تتحقق تغذية راجعة بين الحقلين معا من خلال المفهوم ذاته، فكيف تم تحديد الخبرة في القانون المغربي؟ وماهي وضعية الخبير المفوض لدى المحاكم المغربية؟

الخبير والقاضي: مساعدة بدون تفويض في السلطة 

يمكن اعتبار الخبرة من أهم الإجراءات المساعدة للقضاء والتي يأمر بها القاضي في ظروف خاصة وشروط معينة قصد إجراء تحقيق في مسائل فنية، فلا يمكن للمحكمة أن تبث في النزاع المعروض عليها دون توضيح لتلك المسائل من الأشخاص ذوي المعارف الخاصة كي تستطيع الحكم فيها بارتياح، "فلا يمكن أن تقوم العدالة بدون خبراء". وقد عرف بعض الفقهاء القانونيين الخبرة القضائية بأنها "إجراء للتحقيق يعهد به القاضي إلى شخص مختص ينعت بالخبير، ليقوم بمهمة محددة تتعلق بواقعة أو وقائع مادية يستلزم بحثها أو تقديرها أو على العموم إبداء رأي يتعلق بها علما أو فنا لا يتوفر في الشخص العادي، ليقدم له بيانا أو رأيا فنيا لا يستطيع القاضي الوصول إليه وحده". لذلك فالخبير في القضاء لا يعتمد فقط على المعرفة النظرية، بل يجب أن تتوفر لديه "القدرة على تطبيق القواعد أو المعرفة النظرية على الحالات الواقعية".

       وإذا تم استحضار أن العلم والتقنية يتطوران، سينتج عن هذا الوضع شرط آخر، وهو وجود مختصين كما يحدد ذلك التعريف، لكنهم ملزمين بمواكبة المستجدات العلمية والتقنية، وهذه المواكبة هي لاستجلاء اللبس والغموض المحيط بالمسائل التقنية والفنية في موضوع الخبرة، وهي أيضا ما يجعل القاضي يبث انطلاقا مما هو ثابت علميا ليريح ضميره ويحقق العدالة المرجوة. وقد اهتم المشرع المغربي بالخبرة القضائية شأنه في ذلك شأن باقي التشريعات المعاصرة، وأفرد لها نصوصا خاصة "من المادة 59 إلى المادة 66 من قانون المسطرة المدنية المعدلة بمقتضى قانون 00 – 85 والمواد من 194 إلى المادة 209 من قانون المادة الجنائية"، كما توجد قواعد أخرى أساسية تنظمها في فروع قانونية كثيرة، كالقانون المدني والتجاري، أو قانون الجنسية والقانون الجنائي، والمؤكد هو أن من سمات الخبرة أنها وسيلة من وسائل الإثبات ذات الطابع العلمي التي لا يمكن للمحكمة الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال.

إن أنماط العيش وأساليب الحياة تتطور وتتشعب، الشيء الذي أفرز تخصصات متعددة وكثيرة جدا وفي مجالات متنوعة كالطب والبيولوجيا والمحاسبة والطبوغرافيا والهندسة المعمارية، إلخ، وهو ما يجعل القاضي -الذي في الأساس تكوينه قانوني-مهما بلغ تكوينه العلمي والمعرفي غير قادر على مواكبة هذا التطور في كل هذه المسائل التقنية والفنية. ولهذا فالخبرة إجراء للتحقيق يتميز عن باقي إجراءات التحقيقات القضائية، كالأبحاث التمهيدية واليمين وشهادة الشهود والقرائن، إلخ، ولذلك فأطراف النزاع عبر موكليهم يلجؤون للخبرة كوسيلة للدفاع عن ادعاءاتهم، ويلجأ إليها القاضي من أجل استجلاء الصورة وجمع كافة العناصر والأدلة والبراهين التي يستعين بها، من أجل الفصل في النزاع المعروض عليه. وهو ما خوله المشرع المغربي للقاضي ضمن سلطته التقديرية إما تلقائيا او باقتراح من طرف من أطراف النزاع أو كلاهما معا، غير أن المشرع المغربي لا يجيز أن تتحول الخبرة إلى حائط قصير يلجأ إليه القاضي ليلقي من خلاله مهامه على غيره وهو ما سيعتبر تفويضا من السلطة القضائية للخبراء. في هذا الإطار عبر المجلس الأعلى للقضاء بالقول أن: "مهمة الخبير الذي تعينه المحكمة تنحصر في جلاء أمر تقني يرى القاضي الإطلاع عليه ضروريا للفصل في النزاع المعروض عليه، أما الإجراءات التي تتعلق بالقانون كمعرفة الأرض المتنازع عليها، هل هي من الأملاك الخاصة أو من أملاك الدولة أو الجماعات، وهل المدعوون يتصرفون في الأرض عن طريق المنفعة والاستغلال فقط أو عن طريق التملك، فهذه كلها إجراءات قانونية من صميم أعمال القاضي الذي لا يجوز أن يتنازل عنها للغير أو يفوض النظر فيها إليه".




تنظيم الخبرة: بين الحاجة الملحة والبطء في الإجراء

      هذا وقد نظم المشرع المغربي عمل هذه المهنة واعتبرها حرة، لكنها تشارك في خدمة عمومية وتنير القضاء، حيث تم تعريف الخبير بكونه "المختص الذي يتولى بتكليف من المحكمة التحقيق في نقط تقنية وفنية". غير أن النظر إلى موضوع الخبرة يفرز بعض الملاحظات الأساسية، وأهمها تلك التي تؤكد على أهميتها ودورها الكبير في استجلاء الحقيقة بالنسبة للقاضي وهو ما سبق بيانه، لكنها تسجل بطء إجراءاتها المعقدة، بل وتضيف نفقات إضافية ومرهقة للمتنازعين البسطاء، فهناك قضايا يتم تأجيلها لأشهر وربما لسنوات لحين حصول المحكمة على تقرير الخبير والذي قد لا تعتمده في آخر المطاف، بسبب أن رأي ودور الخبير مجرد دور استشاري وليس تقريري، فهو رأي للإستئناس وغير ملزم، و"المحكمة ليست ملزمة بالأخذ بما توصل إليه الخبير". ومهما يكن القول، فإن هذا التوتر بين الحاجة للخبرة والبطء في عملياتها أو كلفتها، لا يدفع باتجاه تجاهلها بل التفكير في آليات تطوير عملها. فدواعي الاستعانة بالخبراء لا يمكن حصرها، فهي في تزايد مستمر، بل إن دورها يتعاظم وما هو إلا نتيجة للتطور الذي سبق الحديث عنه في شتى المجالات الاقتصادية والتقنية والعقارية والصناعية، حيث أصبح من المتعذر على القاضي مسايرة هذه التطورات بمفرده دون الإستعانة بذوي الإختصاص.




ثالثا: الخبرة بلغة المشرع، بين مطلب التعليل والدقة والوضوح 

لقد تم ضبط مفهوم الخبرة من طرف المشرع وتقنينهحتى لا يتم التلاعب به، لما يملكه من حجية وتنوير لإحدى السلط الثلاث. لذا فالمشرع المغربي يحدد الغاية من حضور الخبرة في القضاء، حيث يروم نحو تحقيق المحاكمة العادلة، إذ المتتبع للعمل القضائي يستنتج هذا الحرص على تحقيق هاته الغاية، وعليه فقد تم نقض أحكام استئنافية كثيرة قضت بها محاكم استئناف مغربية لدى محكمة النقض، أو نقض جزئي، مع الإحالة على نفس الهيئة من أجل إعادة المحاكمة، والسبب الرئيس كان في نظر محكمة النقض هو عدم الاحترام الكلي أو الجزئي للمساطر المدنية أو الجنائية في موضوع الخبرة.

لقد سبق القول أن الخبرة كإجراء إنما يدخل ضمن السلطة التقديرية للقاضي نظرا لاستحالة إلمامه بكل التطورات التي تعرفها أنماط العيش والحياة، اقتصاديا واجتماعيا وفنيا، إلخ، وهي ليست مجرد وسيلة علمية رهن إشارة القاضي، بل هي "من وسائل الإثبات المنصوص عليها في القانون"، وكثيرا ما تلجأ المحكمة إلى خبراء في موضوع بعيد كل البعد عن القانون وينتمي إلى حقل علمي آخر كالخبرة النفسية مثلا، وحيث أن الخبرة بشكل عام غير ملزمة للقاضي، بل على سبيل الإستئناس، فيمكن للمحكمة أن تأخذ ما تطمئن إليه وتطرح ما عداه، وهنا تكمن إشكالية أجاب عنها المشرع بذكاء، حيث أن القاضي قد يطرح أشياء وهي ليست من فنه أو اختصاصه، وقد يبدو هذا استعمال سيئا لسلطته التقديرية، من هذا المنطلق ألزم المشرع على المحكمة "إبراز الأسس التي اعتمدتها" حين أخذت ما يعزز اطمئنانها وطرحت ما عداه، إنها دعوة لتبرير القرار.

وإذا كانت إحدى غايات هذا المقال هي استلهام الريادة القضائية والقانونية في موضوع الخبرة، وضخها في العلوم الاجتماعية الأخرى وعلى رأسها علم الاجتماع، فإن الأسطر الأخيرة تدفع للتساؤل بقوة، هل تبرر الجهات الراعية التي تمول عددا من الدراسات والخبرات الأسس التي جعلتها تأخذ خبرة ما أو سبب رفضها؟

حدود الخبير: الحياد والموضوعية وعدم التفويض

وضع المشرع حدودا للخبير واضحة حتى لا يتم تجاوز المهمات والنقط والحدود المرسومة له، فهناك ضوابط قانونية من بينها أنه عند مباشرة عملية إنجاز الخبرة، فإن عليه أن يتحلى "الإلتزام بالموضوعية وتحديد بدقة الأسس والمعايير المعتمدة". ناهيك عن مواصفات أخرى تم استخلاصها من القوانين المنظمة لعمل الخبير كالحياد ومراعاة المقتضيات القانونية والمرجعية لموضوع الخبرة، ومن حق الخبير أيضا أن يلجأ إلى جميع الوسائل التقنية المعمول بها نظرا للتطور الذي تعرفه الحياة كما سبقت الإشارة إلى ذلك في شتى المجالات.

ووجب أيضا هنا التذكير أن الدراسات السوسيولوجية تحدثت عن الخبرة كاختصاص وكفاءة، وفي هذا الباب يلاحظ دقة المشرع المغربي في التمييز بين الخبير والمختص، حيث أن الخبير المسجل لدى هيئة المحكمة ضمن اختصاص محدد قد تلجأ إليه المحكمة في قضية لا تدخل اختصاصه، فيلجأ بدوره إلى الاستعانة بمختص في المجال المتنازع حوله كالمسح العقاري مثلا، هنا تعتبر محكمة النقض أن الحكم الذي بني على هذه الوضعية من طرف إحدى محاكم الإستئناف المغربية منقوض حيث أنه "يستعان في المسائل الفنية بأهلها، وأن تعليل المحكمة لحكمها المبني على الخبرة، بأن الخبير استعان بذوي الاختصاص تعليل فاسد وهو بمثابة انعدامه مما يعرضه للنقض".

إن من أهم الدروس التي يستفاد منها مرة أخرى من خلال هذا النص، أن التفويض في المهام يهدم الخبرة من أساسها، الشيء الذي يفرض مجموعة تساؤلات حول مصداقية الخبرات في العلوم الإجتماعية التي تنجز لصالح مؤسسات وطنية أو دولية، ذلك أن العديد من الخبراء سواء كانوا سوسيولوجيين أو إحصائيين أو اقتصاديين يفوضون لمحققين ميدانيين إجراء بحوث وتحقيقات عبر مقابلات فردية مثلا أو بؤرية، وقد يكون لذلك أسبابا عديدة من بينها، صعوبات ميدانية، إذ أن الميدان المبحوث قد يكون موزعا في نقط جغرافية متعددة، وبسبب المدة الزمنية المحددة سلفا لعملية إجراء الخبرة يضطر معها الخبير أو مكتب الدراسات الإستعانة بطلبة وباحثين يفوض لهم الإجراءات الميدانية، غير أن هذا التكليف أو التفويض قد لا يفي بالهدف الذي جاءت من أجله الخبرة، خاصة وأن بعض المحققين لم تحصل لهم درجة التشبع المعرفي والمنهجي لإجراء الأبحاث الميدانية أو المقابلات. وإذن، فما استقرت عليه اجتهادات محكمة النقض يبدو صوابا لأنه يتوافق تماما مع النصوص التشريعية لكن الإكراهات التي تعترض الدراسات الإجتماعية تجعلها هي أيضا تلجأ إلى تلك الحلول التي سبق الحديث عنها والتي يمليها على الخبير ميدان البحث والدراسة.

المنازعة في الخبرة: المطالبة بالتعليل

إن الحكم في القضايا يأتي بناء على اقتناع هيئة المحكمة، وقد تحتاج هذه القناعة كي تتشكل إلى إجراء خبرة ثانية، لكن إجراءها "لا يعني عدم اقتناع بالخبرة الأولى"، بل هو زيادة في الإطمئنان وتدخل ضمن السلطة التقديرية للقاضي، غير أن محكمة الموضوع مطالبة مرة أخرى "بتعليل قرارها". فالخبرة مجرد وسيلة يستعين بها القاضي وتدخل ضمن اختصاصه، غير أنها ليست حجة قاطعة، بل تخضع للتمحيص ويمكن التنازع فيها، انطلاقا من التنازع في المعطيات والبيانات التي يقدمها الخبير، ولذلك فالمشرع المغربي يعتبر أن "اكتفاء المحكمة بما أثبته الخبير في تقريره وعدم البحث في صحته رغم المنازعة فيه يجعل قرارها ناقص التعليل الموازي لانعدامه". إذ أن هناك من قد يطعن في الخبرة أو يثير سؤالا حول مدى اختصاص صاحبها-الخبير، لذا اعتبر المشرع أن: "مناقشة اختصاص الخبير هي من قبيل التجريح فيه". هنا وضح رجال القانون أن العبرة بخبرة ثانية وما قد ينتج عنها من تفاوت هو ليس في نتائجها، بل في الأسس المعتمدة في تقدير الخبراء وإلا فإن الغموض يكتنف الخبرة وتعتبر غامضة وغير مقبولة.

هذا وقد يتطور الأمر بين المتنازعين فيلجأ أحد الطرفين إلى إجراء خبرة خارج التراب المغربي كتقرير "خبرة جينية" مثلا، فالقانون المغربي يعتبره "دليلا قويا"، يفرض على المحكمة أن تجيب على مقدم تلك الخبرة مالم تجر خبرة جينية في الموضوع، وهي بالتالي إن لم تفعل ذلك، يصبح قضاؤها مبني على غير أساس. بل إن المشرع زاد من تسييج الخبير في موضوع الخبرة الأولى والخبرة الثانية، حين اعتبر أن وجود فوارق بينة بينهما يفرض على الخبير الثاني أن يضمن خبرته عناصر المقارنة ومالم يفعل ذلك ف"تقرير الخبير مطعون فيه". بل إن المشرع وبالرغم من أن الخبرة لا تمثل إلا رأيا للإستئناس عند القاضي لكنها ستصبح ملزمة له، خاصة عند عدم اقتناعه برأي الخبير الأول، إذ يوجب رفضه للخبرة الأولى الاستناد إلى عناصر موضوعية، أما إذا انتفت هذه العناصر الموضوعية ولم يحصل الاقتناع برأي الخبير فإنه يصبح لزاما عليه الاحتكام إلى خبرة أخرى.

ج- آجال الطعون: أهمية زمن الخبرة

ومن أهم الدروس المستخلصة في إطار الخبرة القضائية، مسألة آجال الطعون في الخبرة الأولى، ذلك أن المشرع يعتبر حضور الأطراف أثناء إجراءات الخبرة والإدلاء بالمستجدات يعد دليلا على عدم تجريح الخبير، "وعلى من يريد القيام بالتجريح أن يقدم الطلب داخل أجل خمسة أيام من تاريخ التوصل".

هنا تبدو قضية آجال الطعن أو التجريح في الخبرة لها أهميتها القصوى داخل المنظومة القضائية، ولربما للتغيرات التي قد تمس المعطيات خاصة إذا تعلق الأمر بملف طبي مثلا، وقد تبدو مسألة الأجل ليس لها نفس الأهمية في الحقول المعرفية الأخرى، ذلك أن التغيرات في المجال الإجتماعي مثلا، قد لا تسير بنفس السرعة التي تكون بها في موضوعات فنية ضيقة المجال كما هو الحال في الجانب الصحي أو المقاولاتي أو المالي، لكن الثابت هو أن التغير هو أحد المبادئ التي تقوم عليها العلوم الإجتماعية، فإنجاز تقرير خبرة عن "الهدر المدرسي" أو إفلاس مؤسسة تعليمية او مقاولة خاصة زمن جائحة كورونا (Covid-19) مثلا، ليس هو قبلها، وقس على ذلك "عمل الخادمات في البيوت"، و"الأطفال المتخلى عنهم"، إلخ. هنا تنبغي الإشارة إلى أن العديد من الدراسات وتقارير الخبرة تنجز بطلب من مؤسسات عمومية وطنية وأخرى دولية، لكن يتم الإحتفاظ بها ولا يتم نشرها، بل وحتى إذا نشرت فبعد أن تتقادم وتبتعد المعطيات المقدمة فيها عن الزمن الذي جمعت فيه، مما يصعب معه إجراء خبرة أخرى للتحقق من تلك المعطيات ومدى صحتها، وهنا يمكن الإشارة إلى الدراسة التي قامت بها وزارة الوظيفة العمومية حول "الساعة الإضافية" لكنها اكتفت بوعد المواطنين أنها ستنشرها لاحقا ولم تحدد وقتا لذلك.

ما ينبغي التأكيد عليه مرة أخرى أنه رغم أن أهمية زمن الخبرة متفاوتة بين القضاء والعلوم الاجتماعية، نظرا للاعتبارات السابقة.

د-  نصوص قانونية للإستئناس

عند القراءات المتأنية للُّغة التي كتب بها المشرع النصوص المتعلقة بعمل الخبرة، يمكن استخلاص أن هاته اللغة هي نتاج لتراكم قضائي وتقني يعبر عن احتكاك عميق بالمفهوم، نتج عنه خبرة قانونية به، وتعبر "اجتهادات محكمة النقض"حول الخبرة والخبراء، متنا رصينا يمكن أن يكون أرضية لقراءات نقدية فاحصة تعود بالفائدة على المجال ذاته أو مجالات العلوم الاجتماعية عموما. وفي هذا السياق تسحتضر مجموعة نصوص لتحقيق هذه الغاية.

النص الأول: "لما اعتمدت المحكمة مضمون الخبرة في تحديد التعويض المستحق للضحية واقتصرت في تعليلها على أنها منطقية وموضوعية دون الأخذ بالاعتبار الدفع الذي أثارته الطاعنة، تكون قد عللت قرارها تعليلا فاسدا يوازي انعدامه".

إن هذا الإجتهاد يعتبر أن ادعاء المنطقية والموضوعية التي تنبني عليها بعض الخبرات لا يعتبر كافيا لتكون القرارات سليمة، مالم تأخذ بعين الإعتبار الطعون الموجهة للخبرة الأولى، وبناء عليه، يلاحظ المشتغل داخل حقل علم الاجتماع مثلا، أن بعض تقارير الخبرة التي تقوم بها مؤسسات وطنية أو دولية في قضايا اجتماعية لا يلتفت فيها للنقد الموجه لها، وهو ما يعبر عن غياب أي حوار علمي أو أكاديمي حول طبيعة تلك الخبرات-الدراسات. إن عدم استحضار النقد والنقد المزدوج يضرب في مبدأ المنطقية والموضوعية التي يفترض أنها أساس لأي عمل يدعي العلمية. ذلك أن الإستفراد بنتائج الخبرة وعدم نشرها أو عرضها للفحص الأكاديمي سيجعل القول الذي يعتبرها مجرد خبرة تحت الطلب قول راجح.

النص الثاني: "تقارير الخبراء لا تأخذ حكم الحجة القاطعة التي لا يمكن الطعن فيها إلا بالزور".

ما يستغرب له في هذا الإطار، كيف أن الخبرة القضائية تبنى أحيانا على تقرير تقني أو علمي أو فني يكون هامش الخطأ فيه ضئيلا نظرا للمقاربة التي تنتمي للعلوم الدقيقة، لكن بالمقابل وفي ميدان الخبرات الاجتماعية، يتم الدفاع عن اختيارات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية استنادا إلى خبرات تم إنجازها من قبل مكاتب دراسات، ويصرح كم من مسؤول للدفاع عن تلك الإختيارات أنها بنيت على خبرة/دراسة معينة، وكأن الخبرة حجة قاطعة لا تقبل الطعن! بالرغم من أن العلوم الإنسانية والإجتماعية عموما تتسم بطابع النسبية فكيف بمكاتب دراسات تفتقر أحيانا لشرط العلمية ويضعف حضور البعد النقدي فيها.

النص الثالث: "اعتماد الخبير المنجز للخبرة على مجرد تصريحات المطلوب يجعل المحكمة تستبعد ما أسفرت عنه الخبرة".

إن القضاء كي تستقر قناعته بالمحاكمة العادلة لا يسلم بمجرد تصريحات شفهية، بل على الخبير أن يعاين الوقائع بنفسه دون وساطة، الشيء الذي ينتفي في كثير من الخبرات التي تنجزها بعض مكاتب الدراسات بإسم العلوم الاجتماعية، فغالبا ما تنجز "خبرات" بناء على تصريحات شفهية تعبأ في استمارات ومقابلات بأسئلة مبنية وموجهة، فقد يقوم الخبير أو المحقق الميدان بطرح أسئلة على المستجوب حول طبيعة ملكيته أو عدد رؤوس ماشيته دون أن يكلف نفسه عناء التحقق من الإجابة في الحقل أو في الإصطبل، وهنا يكمن أحد أبرز الإشكالات في العلوم الإجتماعية وتحديدا علم الإجتماع والأنثروبولوجيا.

النص الرابع: "ما انتهت إليه الخبرة مثبت للعلاقة الجنسية ولا يعتبر دليلا أو حجة على استعمال العنف".

يلاحظ هنا كيف الخبير حين أثبت واقعة ما - (العلاقة الجنسية)، فلا يعني ذلك البناء عليها للخروج بأحكام أخرى كاستعمال العنف أثناء تلك العلاقة المثبتة من جهة الخبير، الشيء الذي يلاحظ في بعض الدراسات الإجتماعية، فقد يتم إجراء خبرة ضمن نطاق محدد، لكن قد يتم توظيف نتائجها بشكل عام على قضايا أخرى أو الخروج بخلاصات واستنتاجات تبدو في ظاهرها منطقية لكنها مجرد تأويل وظن قد يكون مجرد وهم.

النص الخامس: "إذا تنوزع في استنتاجات تقرير تحليل عينات البضاعة وطلب المتهم من المحكمة إجراء خبرة جديدة فعلى المحكمة عندما تأمر بخبرة جديدة أن تلجأ إلى المختبرات المبينة في القائمة المنصوص عليها لا أن تعهد بها إلى جهة أخرى".

بغض النظر عما يمكن اعتباره "أزمة الخبراء في ظل القانون المغربي"، والتي من المحتمل أن تكون ناتجة عن خلل في المساطر القانونية، يمكن التساؤل عن لوائح الخبراء المعتمدين في مجالات تخصصاتهم والذين تلجأ إليهم المؤسسات الدولية والوطنية، أم أن مجمل الدراسات تلجأ إلى "خبراء" في إطار شبكة العلاقات بين هؤلاء ورؤساء تلك المؤسسات، بل قد تستحدث مكاتب الدراسات تبعا للحاجة الملحة التي تفرضها تلك العلاقات بين أكاديميين ومستشارين في الوزارات أو المؤسسات الوطنية والدولية.

وأخيرا، إن الخبرة في القانون المغربي تعرف ضبطا من الناحية التشريعية، وبالرغم من الإختلالات التي يمكن أن يعرفها التنزيل على أرض الواقع نظرا لتباين وضعيات الخبراء وإكراهات الواقع، هذا وللخبير الحق في التعبير عن رأيه الشخصي دون أن يتعرض للتهميش، ولو كان رأيه معزولا عن رأي جماعة من الخبراء، غير أن الخبير عليه التوفيق بين التزامه وحيطته في التعامل مع المعطيات السرية، وبين حفاظه على استقلاليته. ... (يتبع في الجزء الثاني)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر أمني: ضربة إسرائيلية أصابت مبنى تديره قوات الأمن السوري


.. طائفة -الحريديم- تغلق طريقًا احتجاجًا على قانون التجنيد قرب




.. في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. صحفيون من غزة يتحدثون عن تج


.. جائزة -حرية الصحافة- لجميع الفلسطينيين في غزة




.. الجيش الإسرائيلي.. سلسلة تعيينات جديدة على مستوى القيادة