الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللهُ الذي لا نُريده

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 6 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في رحلة البحث عن الذات
بغرض البقاء في بيئة متقلبة وخطرة، كان لابد أن يتعلم الإنسان الخوف والابتعاد عما قد يؤذيه ويهدد حياته. الخوف ليس غريزة طبيعية في جينات الإنسان يُولد مُسلحاً بها بالفطرة. بل هو ضرورة تفرضها البيئة التي يعيش فيها المرء، يتعلمه من تجاربه السابقة مع أخطار الطبيعة ثم ينقل خلاصة ما تعلمه لأطفاله وذريته. إذا كان متمسكاً بالحياة وسط هذه البيئة الموحشة، لابد أن يخاف مما يهدد استمراريتها- وهو كثير بلا حصر. كذلك هو، حتى يملك الشجاعة اللازمة لمجابهة كل هذه الأخطار والتغلب علها، كان لابد أن يتعلم مَلَكة أخرى تُكتسب أيضاً عبر التعلم ولا تُورث عبر الجينات- الأمل. من دون هذا الأمل في الانتصار على الأخطار المعترضة طريق الحياة الوعر، لكان الإنسان قد رفع الراية واستسلم وانقرض من الوجود مثل حال أجناس كثيرة منذ ملايين السنين مضت. ما كنا بالمليارات الآن، وما كان ليخاطب بعضنا بعضاً من هذا المكان. الخوف والأمل يشبهان في الظاهر الغرائز الحيوانية الفطرية في قوتهما وشمولهما وغلبتهما على النفس البشرية؛ لكنهما في الحقيقة ملكتان مكتسبتان من تجربة العيش اليومي وسط طبيعة خطرة، تتوارثهما الأجيال من خلال التعلم والتربية والتقليد.

ما كان الله موجوداً في حياة المرء الانعزالية وسط مجموعات صغيرة الحجم. كان المرء يخاف ويُمَنِّي النفس بالأمل والرجاء في الحدود الطبيعية، المطلوبة لحفظ حياته الصغيرة والبسيطة. لكن حين كَبُرت المجموعة وتحولت إلى مجتمع ضخم ومكتمل الأركان، كان لزاماً أن يتضخم أيضاً الخوف والأمل من حدودهما الطبيعية إلى أخرى مصطنعة لكنها ضرورية لحفظ بقاء هذا الكيان الجديد الأضخم والأهم من كل إنسان فرد ومن كافة المجموعات الصغيرة المنعزلة سابقاً أو حالياً. لذلك تمت مأسسة الخوف والأمل في خلق كيان جديد بالكلية لا وجود له البتة سوى في حياة المجتمعات الحضرية الكبرى- الله. ما كان المرء في حياته الانعزالية الصغيرة بحاجة إلى من يقرأ له الطالع من الأخطار المحدقة به أو يسترضي له الآلهة من أجل مستقبل أفضل. كان يملك من الخوف والرجاء الطبيعيين، المُتَعلمين من مصارعة أخطار الطبيعة والشعور بالرضا حين تذليلها والتغلب عليها، ما يكفي لتحقيق الغرض- البقاء. وما كان بحاجة إلى يد العون من إله لكي يقصد باب من يدعون قدرتهم على الشفاعة والتوسط لديه.

اللهُ مؤسسة اجتماعية من روح وجسد، أو لائحة تأسيسية ومقر رئيسي وفروع بلا عدد. الهدف من تأسيسها نبيل: ترويض واستئناس همجي البراري والأدغال والصحاري حتى يكون مثمراً وصالحاً للعيش وسط مجتمع كبير من آخرين مثله، وقادر على المساهمة الإيجابية في سبيل حفظه ورفعته. ومثل كل المؤسسات نبيلة الهدف الأصلي التي يُنشئها ويطورها أي مجتمع بشري، تكون معرضة باستمرار لنفس عوامل تقدم العمر والشيخوخة والتحلل والفناء التي تخضع لها سائر الأشخاص الطبيعية والاعتبارية في صورة أمراض وترهل ووهن وفساد وسوء استغلال وعجز عن مواكبة التغيير والتطور إلى آخره. لذلك، مثل أي مؤسسة، الله دائماً وأبداً بحاجة إلى دماء جديدة تجدده من داخله مثلما يجدد البشر والنبات والحيوان أنواعهم عبر التوالد.

شأن سائر الآلهة عبر العصور وحول العالم في الوقت الحاضر، إِلَهُنَا- الله- هو أيضاً استثمار في مشاعر الخوف والرجاء في أعماق النفس البشرية. لكن بينما تجددت وتطورت معظم الآلهة التي لا تزال حية ومعبودة منذ آلاف السنين حتى اليوم، لازال إلهنا متكبر على التجديد وعنيد على التطور. رب المسيحية، مثلاً، ما عاد في الوقت الحاضر رب القرون الوسطى الدراكولي الدموي، الذي ينصب لأتباعه محاكم للتفتيش في ضمائرهم، ويُعطر جيوبه الأنفية بأبخرة شواء أجساد المضللين والمهرطقين في المحارق. لقد تجدد وتطور وأفسح الطريق أمام أتباعه ومريديه للولوج إلى عالم الحداثة المبني على التسامح وقبول الآخر المختلف والمناقض دينياً. بينما رب الإسلام، ربما غافلاً عن انقضاء أكثر من ألف عام، لازال مُصِّر على أن تُقطع يد السارق، ويُرجم الزاني والزانية بالحجارة على رؤوس الأشهاد حتى الموت، ويُستتاب أو يُهدر دم كل من يجرؤ على التعبير عن رأيه الشخصي! كيف انقطع رب الإسلام عن العالم كل هذا الزمن الشاسع، وكلما أطل علينا على حقيقته العارية من التجميل المصطنع ذَكَّرناً فوراً بأهل الكهف؟!

ربما لأن استثمارنا فيه قد فاق كل الحدود الطبيعية والمنطقية، لدرجة جعلته يتضخم على حساب كل شخص اعتباري آخر ضروري من أجل تطور الجماعة وتقدمها. وهل هناك شخص آخر في الفضاء العام الإسلامي له من المقرات (البيوت) أكثر من الله؟! وإذا حصرنا أصوله وثرواته، هل هناك أي شخصية عامة على الإطلاق تملك مثقال ذرة مما يملكه؟! وإذا فحصنا هرميته الإدارية، هل هناك أي مؤسسة عامة على الإطلاق توظف من البيروقراطية وأبواق الدعاية بحجم ما يوظفه؟!

ربما بسبب كل هذا الاستثمار المبالغ فيه والمتجاوز لكل حدود المنطق أصبح صيداً ثميناً ومغرياً لأبعد الحدود لكل الطامعين والمغامرين والطامحين في حكم أو ثروة أو نفوذ اجتماعي أو أخلاقي. الأمر لا يكلف أكثر من إشهار "قال الله"، أو تزين بلفظة الجلالة رايتك وستُفتح لك الأبواب أمام تحقيق أحلامك الجامحة مهما كان الثمن الذي ستدفعه الجماعة. مثل هذا النوع من الاستغلال يفقد الدين استقلاليته الذاتية، ويستنفد طاقته وحيويته في غير موضعها الطبيعي والصحي، ويحرمه من القدرة على التجدد والتكيف مع بيئة محيطة دائمة، وسريعة، التغير.

إِلَهُنَا الذي في ريعان شبابه لملم شتاتنا من البراري والأدغال ووديان الصحاري وجمعنا في أمة حضارية عظيمة نافست، وتفوقت على، معاصريها على معظم الأصعدة أصبح الآن في شيخوخته، بسبب شدة خوفنا منه وقسوته معنا، يشل تفكيرنا وقدرتنا على العمل والحلم من أجل المستقبل. استثمارنا النهم في الخوف يكاد يقضي على أي بصيص من الأمل. كم منا اليوم يريدون حقاً إله يقطع لهم أيديهم حتى لو سرقوا، يرجمهم بالحجارة في قعر حفرة عميقة حتى الموت لإقامة علاقة طبيعية وإنسانية بالتراضي بين ذكر وأنثى؟! كم منا اليوم يريدون حقاً إله يقسمهم إلى فرق وشيع وطوائف متكارهة ومتناحرة، يمزق بعضها بعضاً، ويعود بنا من رحابة وتسامح العيش المتمدن والمتحضر إلى كهوف الجبال في تورا بورا، مثلما فعل حرفياً بالمغفور لهما الدكتور أيمن الظواهري والمهندس أسامة بن لادن؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الدين سلطة
منير كريم ( 2023 / 6 / 2 - 17:39 )
تحية للاستاذ الكاتب
مثل الدين عبر المجتمعات وعبر التاريخ سلطة على البشر
لا ادري اذ يقول البعض ان الدين لعب دورا ايجابيا في بدايته
ولكن كيف كان ذلك ؟ لا احد يعلم
لكننا نعلم ان القسر السياسي والقسر الديني متلازمان عبر الزمن
الحرية وخاصة الفردية تضعف كليهما
المدخل اذن ان نكون احرارا دائما
شكرا


2 - في الأرض قد لا نكون أحرار دائماً كما نتمنى
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي ( 2023 / 6 / 2 - 20:19 )
عزيزي الأستاذ منير كريم، أنت محق فيما تقول حول تلازم القسر السياسي والديني عبر الزمن. هذا صحيح. لكن ما ينبغي أن يكون، وما هو جاري حالياً حتى في الديمقراطيات الليبرالية، أن أدوات القسر مختلفة. السياسة تستخدم قوة إنفاذ القانون، التي تصل في أقصاها إلى حد القوة المسلحة المميتة. لكن أداة القسر الديني، حتى هناك، تبدأ من الاغراء والاقناع اللفظي، أو التبشير، وفي أقصاها القسر الاجتماعي، أي أي يميز أفراد المجتمع المحلي سلبياً ضد المخالف لهم دينياً أو سلوكياً بأي شكل، دون الوصول إلى الاعتداء البدني.
أما بخصوص الدور الإيجابي الذي يلعبه الدين، فهذا لا شك فيه. حيث أن الدين في حال نجاحه في مهمته يعمل مثل الغراء الذي يمسك بمفاصل الجماعة بعضها ببعض، حتى لو لجأ أحياناً لوسائل بغيضة. وهذا قد نجح فيه الإسلام عن جدارة في مبتدأ عهده. فحتى رغم زوال الحكم العربي الإسلامي بعد بضع سنوات فقط، إلا أن الدين الإسلامي قد نجح في ملئ هذا الشغور السياسي وحافظ على لحمة الجماعة المسلمة، ولو كان حاكمها أعاجم لا يعنيهم الإسلام في شيء. هذه حقيقة تاريخية.
وشكراً لك لمرورك وتعليقك المفيد أخي الكريم. وأنا أتابع جميع التعليقات


3 - اين ادوات القسر السياسية في الديمقراطيات الليبرالي
د. لبيب سلطان ( 2023 / 6 / 2 - 22:10 )
الاخ عبد المحيد
ان حقوق وحريات التظاهر والتجمع والنشر والفكر والصحافة والاعلام والعقيدة تشكل اليوم ماندعوه نظم الديمقراطيات الليبرالية التي نتمنى نموذجها يسود العالم العربي او حتى نصف او ربع نموذجها، لا اعلم من اين اتيت باطروحتك في تعليقك اعلاه ان السياسة فيها تستغل قوة القانون لممارسة القوة المميتة ..انها ممارسات الانظمة الديكتاتورية وليست الليبرالية الديمقراطية ولا اعلم من اين اتيت بهذه الاطروحة المخالفة للواقع الذي نراه امامنا يوميا
وطرحك للقسر الديني في هذه المجتمعات غير مفهوم ايضا فمفهوم الحريات فوق العقائد الذي طرحه استاذ منير ومكرس في هذه المجتمعات اصبح من ثقافتها والمباراة الفكرية لا تعني القسر فالحجة الاقوى للاقناع في نظم الحريات هي التي تفوز وفوزها ايا كانت لاتمس بحريات باقي المجتمع وعموما التيار الديني ضعيف ومتهالك في المجتمعات الليبرالية لضعف حجته عكس التيار اليميني القومي الذي يحاول التلاعب بالمشاعر الوطنية والقومية ولكنه ايضا عاجز عن جر هذه الشعوب للتخلي عن ليبراليتها وقيمها الانسانية المنفتحة التي تشبعت بها بتوفر الحريات ا

اخر الافلام

.. الجيش الإسرائيلي يُصدر أوامرَ إجلاءٍ من رفح ويقصف شمال القطا


.. قصف متبادل بين مليشيات موالية لإيران وقوات سوريا الديمقراطية




.. إسرائيل و-حزب الله- يستعدان للحرب| #الظهيرة


.. فلسطين وعضوية أممية كاملة!.. ماذا يعني ذلك؟| #الظهيرة




.. بعد الهجوم الروسي.. المئات يفرّون من القتال في منطقة خاركيف|