الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثغرة الوعي والخطة الكونية

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 6 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ما كان الثالوث اليوناني سقراط وأفلاطون وأرسطو سوى الذُرى الشاهقة الشهيرة في تقليد ضخم مغمور وممتد من قبل ومن بعد. وما كان هؤلاء العباقرة الثلاثة يعلمون أن الأقدار تُخبئ لهم مصيراً إجرامياً لم تعرف البشرية مثيلاً له قط. لقد حلق الفلاسفة الثلاثة بالوعي المعرفي الإنساني إلى سماوات ظلت موصدة منذ ملايين السنين أمام أي عقل أو خيال بشري. وكانوا الرواد والملهمين لسلسال طويل ومستمر إلى اليوم من التلامذة والمفكرين الأدنى أصالة وإبداعاً، بدءاً من السفسطائيين والأفلاطونيين الجدد وصولاً إلى عظماء اللاهوت والفلسفة المسيحية والإسلامية، الذين سيقاضيهم الفكر الحديث بتهمة التشجيع والتحريض والتنظير لأبشع جريمة على الاطلاق بحق الإنسانية. من المبادئ النظرية التي قاربها واستكشفها العظماء الثلاثة لأول مرة في تاريخ الفكر، شيد تلامذتهم خلال العصور اللاحقة النموذج التنفيذي لأيديولوجيتين فكريتين لم تعرف البشرية قط مثيلاً لهما في الشمول والتطرف والوحشية: المسيحية والإسلام.

على عكس ما وضع مبادئه الأولى عظماؤنا الثلاثة القدماء، برهن مفكرونا الحديثون على أن الشمس لا تشرق ولا تغرب؛ لا تنير أشعتها ظلام الليل، ولا تبعث الدفيء في أجسامنا كما نعتقد؛ وأن الحيوانات لا تفترس، ولا ترعى، وليست كما نصنفها إلى ما هو مفيد وصحي لنا لنذبحه ونأكله وما هو ضار وخطر علينا لنبتعد عنه؛ ولا النبات فيه الحامض والحلو، النافع والسام؛ ولا حتى البشر الذين نحن منهم، فيهم الطيب والشرير، الصديق والعدو، الظالم والعادل أو أي من الصفات الأخرى التي نطلقها على أي مما يمس وجودنا في الحياة بشكل مباشر أو غير مباشر، في الطبيعة أو فيما ورائها. كل ذلك، في الحقيقة، هو مجرد انعكاس لما يحيط بنا داخل وعينا الذاتي.

نوافذ الوصول والتغذية إلى هذا الوعي الذاتي القابع في أدمغتنا هي ذاتها حواسنا- البصر الذي يرى النور، اللمس الذي يستأنس بالدفيء، والتذوق الذي يتعرف على الحموضة...الخ. إذن، من دون هذه الحواس، الشمس لا تضيء ولا تدفئ، ولا طعم الثمرة حامض كما نعتقد. اعتقادنا ذلك أساسه نحن أنفسنا، حواسنا، ولا يعبر بأي حال من الأحوال عن حقيقة كونية موضوعية.

أكثر من ذلك، الكون لا يعرف النظام، بل نحن- في وعينا- من ننشده دوماً ونسعى لفرضه عنوة على كل شيء حولنا، لأنه يُلبي حاجة ما لدي أنفسنا. وكلما عاند الكون ورفض الانصياع لمساعينا لحبسه داخل نظام معين من صنع وعينا، نسارع ببعض التعديلات والتفسيرات والتبريرات المستحدثة هنا وهناك، لكن مع الإصرار دائماً بوجود وصحة القاعدة العامة رغم الإقرار بوجود بعض الشذوذات والانحرافات والاستثناءات الطفيفة. حقاً، قد تتخلف الشمس يوماً عن الإشراق لسبب ما، رغم ذلك يظل إشراقها القاعدة العامة الموضوعية والمؤكدة. رغم الاستثناءات، لازال الكون مُنظم وفق قوانين ثابتة، مبني على أسباب، يسير وفق خطة كبرى دقيقة ومحكمة.

إذا كان للكون خُطة، لابد من مُخطط؛ وإذا كان له سبب، لابد من مُسبب؛ إذا كان هناك وجود، ونحن البشر بالطبع جزء منه، لابد من مُوجد له؛ وطالما هناك مخلوقات، لابد من خالق. كل هذه الاستنتاجات المنطقية كانت نتيجة طبيعية لنظرية الخطة الكونية الموضوعية والمجردة التي وضع مبادئها الأولى عظماؤنا الثلاثة القدماء. لكن، كما أثبت العلم الحديث، كل ذلك ليس أكثر من وعي بشري مبنى على حواس غريزية تلبي في الأساس احتياجات بيولوجية محضة، أو وعي ذاتي بشري أناني صِرف بغرض البقاء ولو على حساب كل ما يحويه الكون معنا من كائنات أخرى، ولا يعبر على الإطلاق عن أي حقيقة موضوعية أو محايدة أو مجردة قائمة بذاتها بمعزل عن هذا الوعي.

الدليل، أنه كلما اتسعت وارتقت أدوات هذا الوعي البشري بفضل التراكم المعرفي والتقدم التكنولوجي، سقطت الواحدة تلو الأخرى أغلب النظريات والأنظمة والخطط الكونية التي اعتقدت الأجيال السابقة في صوابها شبه المطلق- مثل الاعتقاد في مركزية الأرض ونظرية الخلق الإلهي. حتى ما هو قائم ومثبت ومتفق عليه في هذه الآونة لا ينظر إليه علماء وباحثون اليوم كحقيقة كونية مُسلمة أو موضوعية أو مجردة أو ثابتة أو خالدة كما اعتقد الأقدمون، بل مجرد تصور بشري محض مبنى على مُعطيات كونية يجري تفسيرها وتنظيمهاً، ثم إعادة تفسيرها ونَظْمها من جديد من عصر لآخر، وفقاً لما هو متاح للوعي في حينه من أدوات معرفية وتكنولوجية، والذي لا ريب سيخضع للتعديل، وقد يسقط كلياً، حينما تتوفر أدوات معرفية وتكنولوجية أفضل من المتاح الآن.

وما هي دلالات أن نعرف بطريقة منهجية وموثقة أن أي وكل معرفة سائدة على الاطلاق، في أي مجال مهما كان، ومهما كانت تبدو مجردة وسامية ونبيلة في غاياتها، لا تتأتى إلا عبر حواس البشر ذاتهم، وأن هذه الحواس موجودة فيهم أصلاً لغرض غرائزي وأناني محض: حفظ بقائهم؟ ماذا يُستفاد من العلم بأن الإنسان نفسه هو منشأ وغاية كل معرفة يعتقد خطئاً في كونها مجردة من شهواته ونزواته وغرائزه الحيوانية، موضوعية ومحايدة وقائمة بمعزل عنه في موضع ما من الكون الفسيح، أو في وجود الخطة الكونية التي تبنتها وتأسست فوق فرضياتها أضخم وأشرس الأيديولوجيات البشرية على الإطلاق، المسيحية والإسلام؟ سيعرف:

* أنه لا يوجد عِلْم مطلق أو أزلي أو في لوح محفوظ ومقدس صالح لكل زمان ومكان؛
* أن أي فكرة أو رؤية أو نظرية سائدة مهما كانت وفي أي مجال قد وضعت في الأصل لخدمة مصالح بشرية معينة، بالتحديد مصالح مُنشئيها ومُروجيها، وفقاً للأدوات المعرفية والتقنية المتاحة لوعيهم في حينها، وأن المصالح تتغير بتغير البشر، وكذلك المعرفة بتغير أدواتها؛
* أن أهل مكة أدرى بشِعابها، بمعنى أن أهل كل زمان ومكان هم الأفضل موقعاً، في ضوء بيئاتهم المادية وأدواتهم المعرفية المتغيرة، لتحديد احتياجاتهم ومصالحهم وتلبيتها أفضل من أي شخص آخر من خارج مدينتهم، حتى لو كان إله في السماء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملثمون يوقفون المحامية سونيا الدهماني من داخل دار المحامين ف


.. نبض أوروبا: هل حدثت القطيعة بين بروكسل ومالي بعد وقف مهمة ال




.. الأردن يُغلق قناة تابعة للإخوان المسلمين • فرانس 24


.. المبادرة الفرنسية و تحفظ لبناني |#غرفة_الأخبار




.. طلاب جامعة هارفارد يحيون الذكرى الثانية لاغتيال شرين على يد