الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة آلان باديو إلى آلان فلكنكروت الثلاثاء 19 فيفري 2019

رويدة سالم

2023 / 6 / 5
المجتمع المدني


(على إثر اعتداء متظاهري السترات الصفراء عليه)

في موفى سنة 2009، قَبِل الفيلسوف آلان باديو Alain badiou، للمرة الأولى، محاورة آلان فلكنكروت Alain finkielkraut. وقد كان ذلك الحوار، الذي نشره موقع L’obs، هو منشأ كتاب ظهر في السنة التالية تحت عنوان "التفسير: نقاش مع أُودْ لانسولين" (منشورات لينيو 2010). وقد أبرزت تلك المحاورةُ النقاطَ الرئيسةَ في السياسة والفكر الفرنسيَّيْن التي لا تُثارُ في الأوساط السياسية والإعلامية، في الأغلب الأعم، إلا من أجل مزيد تشويشها. وهو حوارٌ توضَّحت فيه، من خلال المواجهة الفكرية بين هذيْن الفيلسوفَيْن، الرؤى السياسيةُ والنظرية المختلفة كليّا والتي يستحيل التوفيق بينها، ذلك أنهما لا يتفقان على شيء سوى على عدم الرضا المطلق بحالة المجتمع الفرنسي والمنحى الذي يسعى ممثلوه السياسيون إلى دفعه إليه. وقد تناولت حواراتُهما، التي تمت بدعوة من صحيفة لونوفال أوبسارفاتور، مسألةَ "الهوية الوطنية" كموضوع للحملات الانتخابية. وبيَّن فيها آلان فلكنكروت -وهو الذي وصفه الكاتبُ توماس غينولي، المختص في العلوم السياسية، بأنه "يقوم، منذ سنوات طويلة، بنشر الكراهية في فرنسا، ضد شباب الضواحي، والمسلمين، والتعليم الوطني (...إلخ) "- أنّ فرنسا ستواجه أزمة عميقة، ستتخذ شكل "بُغضٍ لفرنسا من طرف جزء كبير من مواطنيها الفرنسيين الجدد" وأضاف استباقا أن "اعتبار هذه الكراهية النشطة لفرنسا ردّة فعل على عنصرية الدولة أو إدانة الأجانب، هو عيش في منأى عن الواقع". بينما بيَّن آلان باديو أن ما يثير قلقه هو، على النقيض من ذلك، محاولة الحكومة إلهاء مواطنيها عبر طرح نقاش حول "الهوية الوطنية". ويرى في قيامها بذلك تطبيقا لسياسة غير مبررة، وكريهة، من شأنها إثبات صحة مبدأ البيتينيّة الفائقة (نسبة إلى الماريشال فيليب بيتان)، الذي سبق لباديو أن استخدمه في وقت مبكر من عام 2007 لتوصيف سياسة نيكولا ساركوزي، ويُحيل هذا المبدأ إلى ما كان قد قام به رجال القانون في حكومة الجنرال فيليب بيتان عندما بيَّنوا، بأدلة بسيطة، أن اليهود وبقية الغرباء المقيمين في فرنسا ليسوا فرنسيين صالحين. وذلك لأن "نقاشا حول الهوية الفرنسية تديره الحكومة، لا يمكن أن يكون سوى بحثا عن معايير إدارية عمَّن هو فرنسي صالح ومن هو غير صالح" ولأنه "حالما يتم إدخال الاعتبارات الهُويّاتية في السياسة، يجد المرء نفسه محصورا ضمن ما يمكن أن نطلق عليه فاشية جديدة. فهذا التعريف الهُوِيّاتي للسكان يصطدم بواقع أنّ أي مجموعة سكانية في العالم المعاصر، هي بالضرورة متعددة العناصر والأوجه وغير متجانسة، وبالتالي فالحقيقة الوحيدة التي يقدر أن يمنحها لنا ستكون سلبية". لقد طال المدلولُ الهُويّاتي موضوعُ حوارات هذيْن الفيلسوفيْن، حتى عندما ابتعد عن مسألة "الـحوار الوطني" الظرفية، عدةَ مواضيع سياسية أخرى مثل: أحداث ماي 68، والديانة اليهودية وإسرائيل، وفكرة الشيوعية، كما كشف عن الاختلاف الجذري في الرؤية الفكرية لكليهما. ففي حين تنتظم رؤية آلان فلكنكروت حول ولائه المعلن لانتماء فريد ينتقل عبر الميراث الثقافي (وعرّفه بقوله إنّه من "ورثة الكياسة galenterie يعني أسلوب تعايش الجنسين المبني على الاختلاط. لذلك فإنّ الحجاب يجعل من المرأة موضوعا جنسيا فحسب... وهذا أمر مخلٌّ بالحياء بالنسبة لحضارتنا") أو المدرسة الجمهورية (أي هوية موحدة، تستند إلى استمرارية المراجع التقليدية والامتثال لعدد من الرموز التي يمكن أن تنتهك اليوم: كالعَلم والنشيد الوطني وما إلى ذلك). يعارض باديو هذا التصور، الذي يعتبره "ضيق الأفق"، بفكرة أن الهوية (على افتراض تقبُّلها كتصنيف) يجب أن تكون، قابلة فورا للانتقال عالميا، وناجمة عن اختيار شخصي وقابلة لأنْ تُترَك بمنأى عن الدولة، وعلى السياسة أن تكون قادرة، في جوهرها، على الاكتفاء بهويات متعددة وتنظِّم شؤونها بشكل مستقلٍّ عن الحدود القومية. وعندما يشرع آلان فلكنكروت في التأسِّي على "فقدان الأشياء" والقول "إن لا شيء يكاد يُفقَد سوى الحضارة الفرنسية" (وبالتالي يتمني العودة إلى النظام القديم) ويبدأ، أيضا، في إظهارِ ألمه بسبب "تلف الأرض، وتطوُّرِ القبح ودمار قوة الانتباه، وتلاشي الصمت، والدخول في عصر تكنولوجيا تسييل كل الأشياء"، يقدِّم آلان باديو، من ناحيته، تصوُّرًا لعالم مفتوحًا يمكن أن تكون فيه الظاهرة الوحيدة الجديدة هي "البلترة prolétarisation الشاملة للعالم والتي امتدت إلى خارج قارتنا" ويشرح ذلك بقوله "إن العالم اليوم يخضع لسيطرة أقلية، ضيِّقة الأفق، تتحكم بالاقتصاد وبالإعلام، وتفرض نموذجا صارما للتنمية وتُطبِّقه مسببة أزمات وحروبا لا تنقطع، فاعتبار ارتداء الفتيات لغطاء الرأس من عدمه مسألة مهمة يبدو لي أمرا مُتهوِّرًا تماما، ويوحي لي، بالتالي، بمدلول سيئ: إدانة مستشرية تستهدف أقلية معينة. ويُنبِّه مُحاوِرَه إلى أنه "بتعلَّة الهوية الوطنية والقيم التي يجب المحافظة عليها (...الخ)، سينتشر ذلك العداء بين السكان تحت أشكال لا يمكن السيطرة عليها. وتصويت ملايين السويسريين الأغبياء ضد بناء المآذن ليس سوى حلقة واحدة من ذلك الانحراف الذي يتحمل المثقفون مسؤوليته".
وقد رفض آلان باديو دعوات نظيره فلكنكروت لحوار تلفزيوني جديد، شارحًا أسباب ذلك في رسالة وجّهها لجمهور القراء، صدرت يوم الثلاثاء 19 فيفري 2019، بعد تعرض فلكنكروت يوم 16 فيفري إلى الشتم من قِبَلِ بعض متظاهري السترات الصفراء الذين اتهموه بأنه صهيوني ويهودي قذر وبأنه عنصري وحاقد وبغيض.
نص الرسالة:
" نبَّهتُك، خلال نقاشاتنا العامة والمنشورة، التي كنا قد أجريناها منذ زمن، إلى الانحدار التدريجي في موقفك، وخصوصا انحدار انكماشك الهُوِيَّاتي، الذي كنتُ أعرف، في ذلك الوقت، أنه بالغُ الأثر ثقافيًّا واجتماعيًّا. وكنتُ أراه يسيرُ نحو خطاب يمكن أن يصير غير قابل للتميز عن خطاب اليمين المتطرّفِ.
إنها بكل تأكيد الخطوة التي، رغم نصائحي التوجيهية، قد تخطيتَها بكتاب "الهوية التعيسة" والصيرورة الجوهرية، في أفكارك، راحت تجري صوب مفهوم نازي جديد للدولة العرقية. ولم يفاجئني ذلك كثيرا، بما أني كنتُ قد حذرتك من هذا الخطر الداخلي، لكن، صدقني، لقد أسِفْتُ لذلك لأني لم أتوقف، فعليا، عن الإيمان الدائم بأن أي شخص، وبالتالي أنت أيضًا، يمتلك القدرة على أن يتغيَّر، وأن يكون تغيّرُه ذاك نحو الجانب الخيِّر.
لكنك تحوّلتَ بشكل لا يقاوم نحو أشد شرور عصرنا ألا وهو عدم تمكن المرء، حال ادعائه امتلاك قيمة سياسية ما، من مناهضة كونية السوق الرأسمالية العالمية، العبثية والمقرفة، إلاّ بمعتقد مُمِيتٍ، وبهويات قومية، وفيما يتعلق بك، بالإيمان بهوية "عرقية"، وهو الأسوأ.
أود أن أضيف أن توثيقَك لتلك النقطة المتعلقة بـ"المسألة اليهودية" هو الشكل المعاصر لما سيقود يهود أوروبا نحو الكارثة، إذا لم ينجح في إيقاف هذه النزعة الانفعالية أولئك الذين لِحُسْن الحظ مازالوا يقاومونها بأعداد كبيرة. إنّك ترمي بتلك المسألة -بعيدا عن الدور الاستثنائي لليهود في كل أشكال الفكر الكوني (العلمي والسياسي والفنية والفلسفي...)- نحو معتقد همجي ليس له من مخرج سوى أن يكون دينًا دمويًّا لدولة استعمارية. أقول لك، موجِّهًا حديثي، أيضا، إلى كل من يشاركونك هذا الاعتقاد: أنتم اليوم، ومن خلال تَحوِيلِكم الفضّ للموضوع التأسيسي المجيد لفكرة الكونية إلى تقديس وثني للقومية، تُعدِّون لظهور كارثة هوياتية مشؤومة، عبر تناوبكم المخجل على رفع راية معاداة السامية العنصرية.
يطيب لمجموعة المثقفين، الذين يرافقونك في رفع شارة معاداة اليهود، اتِّهامي بأني معاد للسامية، في حين أني لا أقوم إلا بالمثابرة والتغيير الإيجابي لفكرة الكونية. هذه الفكرة الموروثة، لا فقط عن طائفة كبيرة من المفكرين والمبدعين اليهود، بل عن مئات الآلاف من المناضلين الشيوعيين اليهود من الطبقة الشغيلة والشعبية. وإذا كان فضح النعرة القومية واستعمار بلد ما هو "معاداة للسامية" عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فما هو الاسم الذي يمكن أن يطلق على ذلك عندما يتعلق الأمر، على سبيل المثال، بفرنسا، التي كثيرا ما انتقدتُ سياساتها الاستعمارية والرجعية بشكل راديكالي ومستمر، ومازلتُ أقوم بذلك إلى يومنا هذا، وهو أمر لم أقم به فيما يتعلق بدولة إسرائيل؟ هل ستقول إذًا، كما كان المستوطنون في الجزائر في الخمسينات يقولون، إنني "معاد لفرنسا"؟ صحيح أنك تبدو مفتونا بسحر المستوطنين، ولكن عندما يكونون فقط إسرائيليين.
لقد أقحمتَ نفسَك في شرَكٍ مظلم. هو نوع من كره الكونية محدود الأفق، والمفتقر لأي مستقبل آخر عدا الرجعية المتطرفة. وأعتقد أني أعرفُ (هل أنا مخطئ؟) أنك قد بدأتَ تفهَمُ أن المكان حيث أنتَ الآن ، تفوح منه رائحة العَفَنِ، بل ما هو أسوأ من ذلك بكثير. وأقول لنفسي إنّكَ، إذا كنتَ تهتم كثيراً بحضوري ذكرى بعث برنامجك التلفزيونيّ (الذي حضرته أربع مرات، عندما كان ممكنا لي وقتَها أن أجالِسَك وإن ببعض الاحتياط)، أو لمشاركتي، مجددا فيه، فذلك لأن حضوري يمكن أن يزحزحك، بعض الشيء، بعيدا عن بؤرةِ وعيِك الهُويّاتي. وربما أنتَ تقول الآن إنه "إذا وافق باديو، الفيلسوف الأفلاطوني والشيوعي عمليا، على المجيء لرؤيتي في برنامجي التلفزيونيّ، فإن ذلك سوف يُحسِّن صورتي في نظر أولئك، الذين يتزايد عددهم، ويتهمونني بمغازلة حزب الجبهة الوطنية".
كما ترى، لقد سبق وأن تعرضتُ للانتقاد، بسبب إفراطي في التحاور معك، من طرف من كنتَ تعتقد أنهم منتمون لمعسكري الفكري ( وهم مجموعة من "اليسار الراديكالي" لم أكن يومًا عضوًا فيه). وأُؤكِّدُ، دونما تردّد، أنّني كنت محقا في قيامي بمناقشتك. لكن يتحتم عليّ أن أوضح، بكل بساطة، أنني لم أعد أرغب في ذلك.
كما ترى، لقد طفح الكيل. أتركك في بؤرتك، أو أعهد بك، إذا صحَّ التعبير، إلى "أصدقائك" الجدد. فَلْيَعْتَنِ بك، من الآن فصاعدا، هؤلاء الذين حققوا المجد العظيم بالدموع التي يذرفونها على نهاية "الدول العرقية". وآمل، عندما تعي حقيقتَهم، وطبيعةَ المكان الذي تتواجد فيه الآن، أن يعود إليك، إذا ما ثبت صدق الفلسفة الكلاسيكية، الحسُّ السليم، وهو السمة المميزة للكائن البشري.

دمتم بخير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فيلسوف الحب: ضمير القرن الحادي والعشرين
طلال الربيعي ( 2023 / 6 / 5 - 00:44 )
سيدتي الكريمة رويدة سالم
كل الشكر على هذا المقال الرائع!
مفهوم بودو حول الكونية والهوية الثقافية يتمتع بأهمية فائقة بل وفريدة ليس بخصوص الوضع السياسي الحالي قي فرنسا فقط, بل, ان لم يخني التعبير, بأهمية كونية, وخصوصا الوضع في دول منطقتنا التي -تعشعش- فيها, عشعشة العنكبوت (السام), المحاصصات الطائفية والدينية والاثنية. وهي محاصصة معيبة ومهينة بالمطلق للبشر, وتشكل تقهقرا في الضمير البشري واخلاقيات الشعوب الى الحضيض او حتى ما هو دونه!
بيان بودو يصح, بدون اي تحفظ, ان يكون مرشدا ايضا لكل قوى الخير والتغيير في منطقتنا, وكذلك لكل القوى المناهضة للفاشية (الجديدة) بكل اشكالها في كل مكان.
لقد اُطلق على الفيلسوف سارتر ضمير القرن العشرين. واني أعتقد ان فيلسوف الحب, بودو, يستحق بنفس القدر, ان لم يكن اكثر, تسمية -ضمير القرن الحادي والعشرين-.
ارجو لك المزيد من الأبداع وان تتقبلي وافر مودتي واحترامي!


2 - دكتورنا الفاضل السيد المحترم طلال الربيعي
رويدة سالم ( 2023 / 6 / 6 - 10:20 )
الف مرحبا وشكرا لإثراءك الموضوع بما تقدمت به عن باديو فيلسوف الحب
حديقة قرنفل هدية مني لعقلك النير وللطفك الرهيف
كما تقدمت حضرتك بالقول فإن أسلوب باديو فلسفي قوي وعميق، يركزعلى القضايا الجوهرية في الحياة والسياسة والثقافة مثل الحب، والفن، والأخلاق، والتفاعل بين الفرد والمجتمع. وتتعتمد فلسفة على تصوّراته الفريدة ومفاهيمه الخاصة لفهم الواقع والتغيير الجماعي.
ولكم هي بعيدة مجتمعاتنا عن فهم هذه الفلسفة وادارك دور الحب والفن والأدب في فهم ذاتها والتصالح مع ماضيها وحاضرها وبناء مستقبل محترم للاجيال القادمة
خالص المودة سيدي

اخر الافلام

.. اعتقال أكثر من 1300 شخص في الاحتجاجات المناصرة لغزة في عموم 


.. العالم الليلة | الآلاف يتظاهرون في جورجيا ضد مشروع قانون -ال




.. اعتقال طالبة أمريكية قيدت نفسها بسلاسل دعما لغزة في جامعة ني


.. العالم الليلة | الأغذية العالمي: 5 بالمئة من السودانيين فقط




.. خالد أبو بكر يرد على مقال بـ -فورين بوليسي-يتهم مصر بالتضييق