الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض اللاوعي الجمعي لدى كارل يونغ

هيبت بافي حلبجة

2023 / 6 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ربما ، كان من الأجدر ، أن نقدم إعتراضاتنا على مفهوم اللاشعور واللاوعي لدى سيغموند فرويد ، إستاذ كارل يونغ ، لكن حين التمعن في أصول وأسس هذه المدرسة الفرويدية من خلال هؤلاء الأربعة الكبار ، سيغموند فرويد ، كارل يونغ ، آلفرد آدلر ، ليوبولد سزوندي ، ندرك ، من حيث الأصل ، إن اللاوعي الجمعي لدى كارل يونغ يجسد أهم مفصل ديناميكي في تداعيات هذه المدرسة ، بل أكاد وأوشك على القول إن كارل يونغ تخطى أستاذه سيغموند فرويد في نوعية إدراك هذه المفاهيم جمعاء ، ولذلك أنتقده في مؤلفين أساسيين ، سيكولوجية اللاوعي ، تحولات ورموز الليبيدو . ومن هذا ، إلى المقدمات :
المقدمة الأولى : بعد أن أستقل عن إستاذه سيغموند فرويد ، إنطلق كارل يونغ من فكرة أساسية مميزة وخاصة وهي ، إن الصراع التقليدي مابين الخير والشر وهم لا أسس له ، إنه صراع مزيف لاتاريخية له ، أي رفض الصراع الأبدي مابين الخير المطلق والشر المطلق ، ورفض فكرة الخير كخير كلي ، كما رفض فكرة الشر كشر كلي . أي :
من زاوية ، أنكر يونغ وجود الخير بشكل مستقل ومنفصل عن وجود الشر ، كما أنكر بنفس الضرورة وجود الشر بشكل مستقل ومنفصل عن الخير ، فلاخير بمعزل عن الشر ، ولاشر بمعزل عن الخير ، والأثنان يؤلفان وحدانية في القطب ، فلايوجد قطبان أحدهما الخير والثاني هو الشر ، إنما هما معاٌ في القطب الواحد ، إنما هما كما هما في هما .
ومن زاوية ، يؤكد يونغ إن الشخصية المتكاملة ، التكامل في الشخصية ، يتأسس على مبدأ إئتلاف الخير والشر معاٌ في النفس ، فلايوجد ، من هذه الزاوية ، من هو خير تام وكلي ، بل لابد من أن يحتوي على شر بالضرورة ، ويؤكد يونغ إن هذا ليس مذمة أو نقيصة إنما هذه هي طبيعة البشر النفسية ، وهي الطبيعة الفعلية التي لايجوز إنكارها ، فمن ينكر وجود جانب الشر ، هو شخص غير متكامل ، شخص يشكو مما يشكو .
ومن زاوية ، لكي تكتمل الدائرة لديه ، دائرة منظومته الفكرية النفسية ، يؤكد إن وضعية الخير والشر بتلك الصورة السابقة هي من الإرادة الإلهية الحقيقية ، فهذه الإرادة هي التي جعلت الأثنين على شكل ناموس تام فعلي ، لايشوبه أي شائب ، ولايمكن أن يخرقه أي خارق .
المقدمة الثانية : من خلال الدراسات الميدانية ، في خصوص النفس والسلوك البشري على مجموعات بشرية في المكسيك وغينيا وغيرها ، أستخلص يونغ إن مضمون اللاوعي يتخطى محتوى اللاوعي الفردي لدى أستاذه فرويد ، ليتمركز حول اللاوعي الجمعي ، الذي هو نتيجة وخلاصة ومنتوج بشري على صعيد التجربة البشرية برمتها ، بكل أبعادها ، بكل مقدماتها ومقوماتها :
فمن زاوية ، يؤكد يونغ إن اللاوعي الجمعي يتموضع تحت اللاوعي الفردي ، وهو أكثر عمقاٌ في النفس البشرية ، وأكثر تأثيراٌ في السلوك البشري ، لكنه لايوضح ، ولايستطيع أن يوضح ، تلك العلاقة الأصلية ، إن وجدت ، مابين الأثنين ، خاصة وإن كليهما ينتميان إلى الجذر المشترك فيما بينهما ، وهو اللاوعي . وكذلك هو لايوضح ، ولايمكنه ذلك ، المفارقة مابين تأثير هذا وتأثير ذاك ، والمجال الفعلي لكل منهما ، وكيف يتبادلان محتوى التأثير .
ومن زاوية ، إن اللاوعي الجمعي ، بعكس اللاوعي الفردي ، هو أرث مشترك للبشرية جمعاء ، يخص كافة التجمعات بنفس المعنى وذات المفهوم ، وهو أصيل هنا وأصيل هناك بنفس التداعيات والحيثيات ، ولافرق ولا مفارقة في تأصيله مابين هذه المجموعة أو تلك .
ومن زاوية ، إن اللاوعي الجمعي هو نفس اللاوعي الجمعي في هذه المجموعة وفي تلك المجموعة ، ينبع من ذات المصدر لدى هذه ولدى تلك ، ويتمتع بعين الخصائص في هذا التجمع وفي ذاك ، ويفضي إلى تلك النتائج الواحدة في كل التجمعات ، وقد نبع ، في الأصل ، بنفس الأسلوب من ذات الإفهوم .
المقدمة الثالثة : يقدم كارل يونغ نموذجاٌ تصورياٌ للاوعي الجمعي من خلال الشرط التاريخي عبر نماذج أولية ، نماذج أصلية ، آركيوتايب ، وفقاٌ للإشارات والرموز والدلالات ، التي أتت من أساس القاعدة الجوهرية لمفهوم ومحتوى الإسطورة ، وتماثلت في أصلها مع مستويين ، مستوى التجمعات البشرية كافة ، ومستوى ماهو مشترك حقيقي وفعلي مابين هذه التجمعات ، بحيث إن هذا المشترك هو الجذر التكعيبي لتلك الإسطورة ولتلك النماذج البدائية . لكن :
من زاوية ، يقسم يونغ الوعي إلى ثلاثة ، الوعي الفردي ، اللاوعي الفردي ، اللاوعي الجمعي ، ودون أن يوضح حقيقة العلاقة مابين هذه الثلاثة ، وهو لايستطيع فعل ذلك ، يؤكد إن الآنا التي تتمركز في وسط هذه الثلاثة ، تحدد أساس مايسميه بالتفرد ، والتفرد هو ما نحن عليه في حقيقتنا ، حقيقة الذات ، حقيقة الآنا ، حقيقة التمايز مابين مابين ، مابين هو وهي ، ومابين هو وهو ، ومابين الأس الأصيل لكل واحد منا .
ومن زاوية ، ويقسم يونع هذه الآنا إلى أربعة ، إلى البيرسونا ، إلى الظل ، إلى الأنيما والأنيموس ، إلى الذات ، ولإنها في حقيقتها سخيفة ، ومحدودة المعنى ، وهامشية العلاقة في أساس جوهر اللاوعي الجمعي ، فلن نتطرق إلى خواصها ، ونكتفي بالإشارة إلى إنها تجسد فاعلية طموحاتنا ورغباتنا وحتى نزواتنا ، مع الإشارة ، ويونغ يجهل محتوى هذه الدلالة ، إلى إن الآنا في علاقتها باللاوعي الجمعي هي أوسع وأعمق من هذه المجالات الأربعة مشتركة .
ومن زاوية ، ويؤكد إن الآنا في علاقتها الفعلية مع اللاوعي الجمعي هي لاشيء في حد ذاتها ، وهي كل شيء فيما يخص الحياة ، وهي تخضع في صميم خاصيتها لمفهوم التطور حيث تنمو بأخذ حيثيات جديدة ، وتنموكذلك بحذف حيثيات قديمة ، أي إن الآنا تبدأ من شخصية متواضعة بدائية جداٌ ثم تنمو بالأخذ وبالحذف ، وكذلك بالأخذ وبالحذف ، حتى تصبح ما تصبح عليه ، وكلما أخذت وكلما حذفت أصبحت قريبة من التماهي الأصيل مابين الآنا ومابين اللاوعي الجمعي ، ودنت من جوهر التلاقي الفعلي مابين الذات والآنا واللاوعي الجمعي .
المقدمة الرابعة : يعتقد يونغ إن اللاوعي ، وهو يقصد اللاوعي الجمعي ، هو الأساس والأصل للمساحة الكلية للنفس ، هو المجهول الغيبي المتسلط على تلك المساحة ، هو جوهر الخفي الذي لايعكر صفوه سوى ما سوف يتأتى من الوعي ، والوعي ، القادم من الخبرات والتجارب والتصورات الشخصية والدوافع والنزعات والنزوات الذاتية ،هو الذي يكشف ، أو يستطيع أن يكشف ، أو وظيفته هي الكشف ، عن تلك تلك الظلمات ، حسب تغبيرات يونغ ، الدامسة التي تلبد سماء حياتنا ، والتي تقيد حسابنا الخاص في السلوك والتصرف ، وتوسم مشاعرنا وشعورنا بخصائص لايمكن لنا ، من حيث المبدأ والأساس ، أن ندرك كنهها . لكن :
من زاوية ، إن الآنا التي تتوسط الوعي واللاوعي ، حسب تعبيره ، هي في حقيقتها هنا تمثل الجانب الفعلي للوعي وهي التي تكشف حقيقة اللاوعي الجمعي كلما نمت وتطورت ، وكلما أشتدت ساعديها في الأخذ وفي الحذف ، كلما قلنا سابقاٌ ، أي كلما إزدادت قدرتها على الأخذ وعلى الحذف ، وكلما إزدادت تلك القدرة كلما تكونت شخصية جديدة خاصة بها على حساب تلك المساحة الشاسعة المستبدة من اللاوعي الجمعي .
ومن زاوية ، إن الإدراك لايمكن أن يحصل إلا من خلال الآنا ، والآنا هي جوهر ومركز الذات ومتوسطة الوعي واللاوعي ، والذات هي ذاتنا من الداخل وهي ذاتنا في علاقتها مع الآخروي . وحسب يونغ فإن ذاتنا رهينة بالأصل بعلاقتها بالآخروي وكإن هذا الآخروي هو في جوهره اللاوعي الجمعي ، وهذه حماقة فكرية من جانبين :
الأول إن علاقتنا مع الآخروي هي نفسها من حيث المبدأ مثل علاقته معنا ، واللاوعي الجمعي مستقل بالضرورة وحسب يونغ عنا معاٌ ، عنا وعنه ، وكما نخضع لهذا اللاوعي الجمعي يخضع له هذا الآخروي بنفس القياس وبنفس الدفق .
والثاني إن الآخروي هو في حقيقته مرهون بالآن الراهنة ، باللحظة الآنية ، في حين إن اللاوعي الجمعي هو التاريخ البشري برمته ، هو جوهر كل ما إختزنته ذاكرة الكرة الأرضية ، ومن هنا فإن علاقتنا مع الآخروي هي علاقة تماثلية ، في حين إن اللاوعي الجمعي يمارس علينا جميعاٌ ، نحن والآخروي ، إستبداده ومفاهيمه .
المقدمة الخامسة : إذا كانت الليبيدو ، حسب فرويد ، هي الطاقة الجنسية الناتجة عن الكبت الجنسي الكامنة في غياهب النفس البشرية ، فإنها لدى يونغ تلك الطاقة الحيوية الكلية التي تشمل كل ما يعتمل في النفس البشرية ، وكل ما إعتمل في النفس البشرية منذ التاريخ المنذ ، وهكذا هي تتماهى مع اللاوعي الجمعي من خلال تلك الرموز والإشارات والدلالات المشتركة مابين الأثنين . وإلى ذلك :
من زاوية ، لايوجد أحدهما مستقلاٌ عن الآخر ، فلا يمكن أن يوجد اللاوعي الجمعي بدون الليبيدو ، كما لايمكن أن يوجد الليبيدو بدون الوعي الجمعي .
ومن زاوية ، إذا كانت الليبيدو لدى فرويد تمثل الجانب المرضي في النفس البشرية ، حيث إن الإنسان يتكون وهو مريض بالضرورة ، وإذا تحرر الإنسان من الليبيدو ، أي من المرض ، فإنه قد تحرر من الحياة نفسها ، في حين إن الليبيدو ، لدى يونغ ، لايمكن أن يتحرر اللاوعي الجمعي ، ويمثل بنفس الدرجة الإئتلاف المتماهي مابين الخير والشر .
المقدمة الأخيرة : حينما نتحدث عن اللاوعي الجمعي لدى يونغ ، من الضرورة المطلقة ، ضرورة الحديث عن مؤلفه ، الكتاب الأحمر ، الكتاب الذي أوصى بنشره بعد خمسين سنة من وفاته ، وهذا ماحصل ، الكتاب الذي يلخص كافة الأسرار الدفينة الباطنية التي كانت تعصر خوالجه إلى درجة الجنون ، حيث صب وسكب يونغ كل ما كان يعتمل ويجيش بدفق متوحش في شراينه ، كل ما كان هو يستبد بنفس يونغ إستبداداٌ قاهراٌ طافحاٌ ، فهذا الكتاب ، الكتاب الأحمر ، هو يونغ ، هو توحشه ، هو فيضانه في حيث كل شيء ، وحيث لاشيء ، هو يونغ المخدر الراحل إلى الضياع الأبدي ، إلى تلك المساحات الشاسعة الشائكة الدامية .
لكن إذا ما أستثنينا هذه النفحة الإستيهامية ، هذه الخلجات الدفينة والأعاصير الباطنية ، يبرز السؤال المميت ، لأي سبب ، لأي قضية ، لأي محنة ، أوصى يونغ ألا ينشر هذا المؤلف ، الكتاب الأحمر ، إلا بعد مرور خمسين عاماٌ ؟ ألهذه العواصف الهائجة التي ذكرناها للتو ، أم لأمر آخر حرمه متعة رؤية مؤلفه في المكتبات ، في الفعل إن هذا الكتاب لايتساوق مطلقاٌ ، من حيث الأصل والتأصيل ، مع إطروحاته التي أبدع فيها في مؤلفاته السابقة . لذلك وإلى ذلك ، يهمنا أن نذكر أربعة نقاط تخص موضوع هذه الحلقة :
النقطة الأولى : منذ اللحظات الأولى ، حيث نسى يونغ إنه يونغاٌ ، وإستسلم حيث إستسلم ، ذاب الوعي وتلاشى الحضور ، ذاب وعيه الفردي وإضمحل ، وذاب لاوعيه الفردي وذوي ، ليجمح اللاوعي الجمعي ، ويرتقي سلم المسافات والأبعاد ، ويقضي على الوعي الفردي وعلى اللاوعي الفردي ، وكإن هذا الكون قد خلق لإرضاء هذا اللاوعي الجمعي ، هذا اللاوعي الجمعي المشترك مابين البشرية جمعاء ، إنه تاريخ البشرية قاطبة .
النقطة الثانية : وماكاد اللاوعي الجمعي يستتب ويستبد حتى يتحرر يونغ من أفكاره ومشاعره ، ليخلق مساحات جديدة ومسافات خيالية بعيدة الافاق ، لما يمكن أن أسميه مابعد اللاوعي الجمعي ، ماوراء اللاوعي الجمعي ، حيث ينتهي يونغ وينتهي معه اللاوعي الجمعي ليبدأ ماهو ليس ماهو ، حيث الأحلام منفلشة مفلطحة تهرع ، تتسارع ، تتصارع ، تمور وتخور ، حيث إن الإله يعانق ذاته ، يجامع جسده ، حيث إن الآلهة تتلمظ إجترارات لحظات فض بكارتها ، حيث إن الإنثى تتمتع بإله ذكر ويتمتع الذكر بآلهة إنثى ، حيث إن الذكر هو الأنثى ، والأنثى هي الذكر .
النقطة الثالثة : وهنا يبطل يونغ فعل المنطق ، أساس التحليل والتأليف ، علاقة النتيجة بالسبب ، موضوع الإئتلاف ، موضوع التفسخ ، موضوع لماذا ، موضوع ماهو ، وماهي الغاية وماهو الهدف ، وماهي طبيعة الأشياء ، وكيف تتصرف الكائنات ، وماهي النفس البشرية التي تغدو ، في هذا الكتاب ، الكتاب الأحمر ، لانفس لها ، نفس بدون نفس ، وماهو السلوك البشري ، سلوك بدون سلوك ، وماهو هذا اللاوعي الجمعي ، لاوعي جمعي بدون لاوعي جمعي ، ومن هو يونغ ، يونع بدون يونغ .
النقطة الرابعة : يبقى الأساس المشترك لكل هذا ، هو الإئتلاف الأصيل ، هو التماهي الفعلي ، هو التماثل المطابق ، مابين الخير والشر ، فكل تلك المساحات الشاسعة والمسافات الدرمدية هي الأس الضروري ، ضرورة الضرورة لذاتها ، لتعانق الخير مع الشر ، وتعانق الشر مع الخير ، فهذا هو هو وهي ولايمكن الفصل والتفريق مابين هو وهو .
وهكذا تتلاشى الحدود لدى يونغ مابين الأشياء وفي الأشياء ، ويبرز نوع خاص ، نوع مميز من اللاوعي ، هو اللاوعي اللاوعي ، هو اللاوعي الجمعي اللاوعي الجمعي .
نكتفي بهذا القدر ، ونعترض كالتالي :
أولاٌ : في علاقة اللاوعي الجمعي بالنفس البشرية ، من المؤكد إن النفس هي إما أن تكون صفيحة بيضاء كما يعتقد جون لوك ، وإما أن تكون ممتلئة بالرموز والدلالات والإشارات المتأصلة في اللاوعي الجمعي كما يعتقد كارل يونغ . لكن :
من الجانب الأول ، إن اللاوعي الجمعي لدى يونغ هو حصيلة التجربة البشرية منذ المنذ إلى حتى إلى ، أي منذ ذاك إلى ماقبل هذا ، ولو صدقت هذه الفرضية فإنها تؤكد على أمرين اثنين :
الأول إن اللاوعي الجمعي ماكان ممكناٌ لدى البشر الأوائل لعدم وجوده وإنتفاء حصوله ، ولعدم تحقق تلك الرموز والإشارات والدلالات بعد ، والثاني إن النفس وسلوك البشر الأوائل هي التي كونت رموز وأبعاد اللاوعي الجمعي ، الأمر الذي يؤكد إن اللاوعي الجمعي ليس أصيلاٌ في النفس البشرية إنما قد تأصل في أحسن الأحوال حينما تفاعل وتناظر الوعي البشري مع الطبيعة بكل خصائصها وحيثياتها ، وطالما هو كذلك فثم شيء آخر أحدثه وأنتجه ، وهذا الشيء مهما كان أسمه هو الأصيل في النفس البشرية وهو على الأقل أكثر أصالة من اللاوعي الجمعي . وهذا يحطم القاعدة الأساسية لدى يونغ ، إن اللاوعي الجمعي هو الأصل والأساس في النفس البشرية .
ومن الجانب الثاني ، إن اللاوعي الجمعي ، سواءاٌ تعريفاٌ أم من الناحية السوسيولوجية ، لايورث وراثة بالمعنى الأصيل للوراثة ، إنما يكتسب إكتساباٌ ، لإن مفردة الجمعي ترفض خاصية الإنتقال الوراثي ، وتتقبل في أمثل الحالات خاصية الإنتقال الإكتسابي ، ومابين الإنتقالين مفارقات قاتلة لا تعد ولاتحصى ، سيما ونحن نتحدث عن إفهوم اللاوعي ، أي كل تلك الإشكاليات والأحاسيس الخاصة والحالات العمياء للتجلي التي جسدها كارل يونغ نفسه في مؤلفه ، الكتاب الأحمر .
ومن الجانب الثالث ، كي يحصل اللاوعي الجمعي على رموزه وتصوراته ينبغي بالضرورة أن يدرك الإنسان حقيقة تلك الرموز وتلك التصورات أولاٌ وقبل ذلك ، وإلا كيف يمكن أن تنتقل تلك الرموز دون أن تدرك ، أي كيف يمكن للاوعي الجمعي أن تنقل تصورات من جيل إلى آخر دون أن تكون تلك التصورات مدركة على حقيقتها الأصلية ، والإدراك لايمكن أن يحصل إلا عن طريق الوعي ، ومهما كانت طبيعة هذا الوعي ، وعي بدائي ، وعي أولي ، وعي حيواني بسيط ، فإنه لايسبق اللاوعي الجمعي فقط إنما يعارض أسه وأساسه .
ثانياٌ : في موضوع اللاوعي الجمعي المشترك ، حتى لو صدقت كافة الإطروحات التي تقدم يونغ بها ، فإن خاصية المشترك مابين كافة أطراف التجربة البشرية لايمكن أن تصدق ، فهذه الخاصية تؤكد إن اللاوعي الجمعي في رموزه ودلالاته هو واحد مابين الحضارات القديمة وتلك الشعوب البدائية ، مابين حضارة السومريين ، مابين الحضارة الفرعونية ، ومابين حضارة المايا ، ومابين حضارة الهند القديمة ، ومابين حضارة وادي الرافدين ، ومابين حضارة الصين القديمة ، ومابين سكان أمريكا البدائيين ، وهو واحد لدى تلك الشعوب التي تعيش في الصحراء ، ولدى تلك الشعوب على غرار إسكيمو ، ولدى تلك الشعوب التي تعيش في الغابات وعلى ضفاف الأنهار الكبيرة مثل نهر أمازون ، ولدى الهنود الحمر . وإلى ذلك :
من الجانب الأول ، من المؤكد ، حتى لو صدقت فرضية توارث اللاوعي الجمعي ، فإن من المستحيل أن تنقل حضارة السومريين إلى أحفادها تلك الرموز والدلالات التي تعود إلى حضارة مايا لإنها لاتعرفها أصالة ، وكذلك فإن حضارة مايا لاتستطيع أن تنقل إلى أحفادها رموز وإشارات الحضارة الهندية أو الفرعونية لإنها لاتعرفها ، وهذا ما أسميه بشرط المنطقة الجغرافية ، الذي حسبه تختص كل منطقة جغرافية برموزها وإشاراتها ، وتنقلها إلى أحفادها ولايمكن أن تنقل رموز منطقة أخرى لإنها لاتمارسها .
ومن الجانب الثاني ، ومن المؤكد أيضاٌ ، إن بعض الإشارات والرموز لاتتمتع بنفس الدلالات في مناطق جغرافية متعددة ، وهذا هو الأصل الفعلي للتمايز مابين الللغات على كافة الصعد ، على صعيد منطق الللغات ، على صعيد قواعدها ، على صعيد إشتقاق المفردات ، على صعيد صياغة الجمل والعلاقة الأصلية مابين مفرداتها وكيفية تركيبها . أضف إلى ذلك ، حتى مفهوم الرب ، فثمت إله ، وآلهة ، وعبادة الأصنام ، وعبادة الأشكال ، عبادة الطوطم .
ثالثاٌ : ثمة مغالطة جسيمة وقع فيها يونغ إنه لم يميز مابين المرحلة الحيوانية البشرية الأولى ومابين مرحلة اللاوعي الجمعي إن كانت هناك مرحلة بهذا الأسم ، في المرحلة الأولى لم تتميز ولم تنفصل المادة المدركة الواعية عن الإحساس الحيواني بعد ، أي إن الإنسان يعيش حياته الحيوانية حيث ينتفي بالضرورة وجود اللاوعي الجمعي ، الذي يقتضي شرط وجوده الخاص وهو كونه قد أدرك قبل الآن ، فلولا هذا المدرك ماكان اللاوعي الجمعي . وهنا نكون إزاء قضيتين :
القضية الأولى ، إن مفهوم الجمعي المقترن بموضوع اللاوعي يتطلب حتماٌ ، شرط الفكرة ، شرط الممارسة ، شرط العلاقة ، وبدون هذه الشروط لايمكن أن يقترن الجمعي باللاوعي .
القضية الثانية ، إذا إرتبط الجمعي باللاوعي لابد من شرطه الخاص ، وهو شرطه التاريخي ، وحينما يتحقق هذا الشرط فإنه يمارس ذاته كما قلنا في القضية الأولى ، وحينما يمارس ذاته على النفس والسلوك البشري ، فإنه يمارسها بدرجات ومسوغات وأساليب وصيغ متعددة متباينة ، أي في الأصل إنه يمارسها تارة ضمن موضوع الوعي ، الفردي والجمعي ، وتارة ضمن موضوع اللاوعي الفردي ، وتارة ضمن اللاوعي الجمعي ، وتارة يدمج مابين هذه المجالات الأربعة .
رابعاٌ : وفيما يخص موضوع مؤلفه ، الكتاب الأحمر ، الكتاب الذي أوصى أن ينشر بعد خمسين عاماٌ من وفاته ، فلا مندوحة من ذكر هذه النقاط :
النقطة الأولى ، إن اللاوعي الجمعي هنا غول يستبد بكل النفس ، يستبد بكل سلوك بشري ، لايتورع أن يكون ، بل لامحيض من أن يكون ، هو الأنسان الآخر الكامن فيك ، وفينا ، وفي الطبيعة ، وفي الأرض وفي السماء ، ونحن لاندرك منه إلا لاشيء .
النقطة الثانية ، إن اللاوعي الجمعي هنا هو الإله ، هو الآلهة ، هو يتخطى حدود الرموز والإشارات التي دلت عليه في البداية ، والتي كونته من حيث هي المحتوى والمسوغ ، من حيث هي ، من المفروض ، أن تواكب حياتنا ، نفسنا ، سلوكنا .
النقطة الثالثة ، إن اللاوعي الجمعي هنا يخالف طبيعته ، حيث إن شرط تحققه هو بنيانه على شيء من الوعي ، على شيء تلهف الإنسان على محتواه ، فكيف نسعى إلى شيء يقودنا بمثل هذا الغباء ، بمثل هذا الإستبداد ، بمثل هذه السطوة .
النقطة الرابعة ، إن اللاوعي الجمعي هنا يخالف مضمون التجربة البشرية ، مضمون التاريخ ، مضمون تحقق الذات ، مضمون تحقق الآنا ، بل حتى مضمون تلك المجالات الأربعة ، البرسونا ، والظل ، والأنيما والأنيموس ، والذات .
النقطة الخامسة ، إن اللاوعي الجمعي يقتل المحتوى الحقيقي لليبيدو ، طاقة الحياة ، أساس منبع التماهي الفعلي مابين النفس والحياة ، مابين الإنسان والإنسان ، مابين البشر والطبيعة .
النقطة السادسة ، إن اللاوعي يلغي الأساس التأصيلي لما ذهب إليه يونغ نفسه من إفهوم الوعي الفردي ، الوعي الجوهري لجوهر العلاقة مابين الإنسان والحركة الخارجية ، مابين الشخص والتفاعل الأولي البدائي الأساسي لسيرورة منطق الأشياء .
النقطة السابعة ، إن اللاوعي الجمعي هنا يكتم حقيقة اللاوعي الفردي ، ويجعله لاشيء في مجال الذات ، في مجال الآنا ، وفي حتى مجال خواصه .
النقطة الأخيرة ، إن اللاوعي الجمعي هنا يجعل من كارل غوستاف يونغ غير الذي نعرفه ، غير الذي قدم نفسه بنفسه في إطروحاته السابقة ، الجوهرية التنظيرية والعيادية . وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والأربعين بعد المائة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لهذه الأسباب نجحت اندماجات شركات التأمين


.. هل تجني الرياض ثمار -صفقة سرية- لتعاون نووي مع واشنطن؟| المس




.. فرنسا.. افتتاح معرض -يوروساتوري- للأسلحة وإلغاء مشاركة الشرك


.. مسلسل -الاغتيالات - إلى الواجهة من جديد.. غارة من مسيرة إسرا




.. طيار إسرائيلي يتحدث عن -لحظة خاصة- أثناء عملية إنقاذ 4 رهائن