الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من شيطان الرأسمالية وملائكة الشيوعية- صناعة التطرف

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 6 / 8
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها


لا عجب أن تستوطن الشيوعية في الشرق العالمي ثم تنتشر من معقليه الكبيرين، روسيا والصين، إلى مناطق متفرقة من الجنوب والغرب العالميين فيما يعرف ببلدان العالم النامي. جميع هذه الأنحاء من العالم، التي عُرفت باسم دول المعسكر الشيوعي والاشتراكي حيث انتشرت وتجسدت الأفكار والنظريات الشيوعية بدرجات وفي أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية متفاوتة، يجمع بينها قاسم مشترك: كلها بلدان زراعية تقليدية، تُعلي من أهمية صون واتباع تقاليد ومبادئ متوارثة بعينها، ولم تكن قد ولجت بعد العصر الصناعي.

الزراعة ذاتها مَثَّلت ثورة على حياة الصيد والرعي والترحال، حَتَّمت التخلي عن هذا النهج الحياتي البدائي وغير المنتج واستبداله بحياة الثبات والاستقرار في مكان محدد بغرض الإنتاج الزراعي. ومن أجل المحافظة على هذا الاستقرار الإنتاجي وتوسعته واستدامته، كان لابد من تغليفه بثُلَّة متجانسة من القيم والأعراف والتقاليد. كما تحقق الثبات والاستقرار بالجسد في المكان الفيزيائي، كان لابد أن يتحققا كذلك وبالتوازي لزاوية النظر والفكر والعقل ضمن منظومة مؤسسية من الأعراف والتقاليد الثابتة والمستقرة أيضاً. التقليد هو نوع من الثبات أو الاستقرار الذهني الإنتاجي من داخل بيئة فكرية موروثة ثابتة ومستقرة.

الشيء العجيب واللافت للنظر أن الشيوعية نشأت في الغرب، ليس في الشرق. كان هذا الغرب، الأوروبي على وجه التحديد والحصر، قد تجاوز الطور الزراعي من التطور الحضاري البشري مع أغلب تقاليده المؤصلة والحافظة، وقطع أشواطاً بعيدة داخل الطور التصنيعي. الصناعة هي ثورة أخرى ضد المجتمع الزراعي المتخلف وغير الكافي، من منظورها، بهدف الارتقاء بالإنتاجية إلى ذرى جديدة وغير مسبوقة عجزت عن تحقيقها الزراعة. وكما كان للزراعة تقاليدها الخاصة المؤصلة والمغلفة والحافظة، كذلك كان للصناعة تقاليدها المختلفة. في هذا الإطار نشأت الشيوعية، كرد (فعل) موازي ضد ما اعتبرته سلبيات التقليد (الفعل) الصناعي، مثل جشع واستغلال رأس المال الناشئ عن ترك الحرية على الغارب لعمل آليات السوق دون رابط ولا ضابط وما ترتب عليه من استغلال واستعباد بشع بحق العمال وقوى العمل. كانت الشيوعية، بهذا الشكل، جَدَل- أو "جَدَلية" وفق المصطلح الشيوعي- ضد التقليد الصناعي، من داخل بيئة صناعية.

لكن الزراعة والصناعة ما كانتا لتنشئا من دون حدث أو سلسلة من الأحداث العظيمة والضخمة بما يكفي لزلزلة، ثم تقويض وإعادة بناء، نظرة الإنسان لنفسه ولبيئته ولعالمه الذي يعيش فيه، السائدة حينئذٍ والموروثة عن أجيال سالفة. قبل الصناعة، كان الإنسان يعيش القيم والتقاليد الزراعية، يرى نفسه وبيئته وعالمه من خلالها وبعيونها. وكانت هذه القيم والتقاليد محفوظة ومتوارثة داخل مؤسسات بعينها ترعاها وتنميها. وما كان للصناعة- أو أي جديد آخر غير الزراعة- أن تنشأ في ظل هذه القيم والمؤسسات التي وجدت وتوجد أصلاً لكي تُخدِّم على الزراعة وتحابيها وتعمل لمصلحتها والدفاع عنها ضد أي جديد قد يتهددها. في الغرب، أتي هذا الحدث أو السلسلة من الأحداث العظيمة والضخمة والمزلزلة للقيم والتقاليد الزراعية السائدة هناك في صورة سلسلة طويلة امتدت لمئات السنين من الحروب الدموية والشرسة ضد أعرق مؤسسات التقليد الزراعي على الإطلاق- الدين. وبهزيمة الدين وطرده مع ما يجسده من قيم وتقاليد زراعية مؤصلة وحافظة وراعية من الفضاء العام، أصبح الطريق ممهداً لكي تتبلور بالتدريج نظرة جديدة من الإنسان لنفسه ولبيئته ولعالمه قادته بعد مشوار مرهق وطويل من الدرس والبحث والتجربة والخطأ ثم تدارك الخطأ إلى المرحلة الصناعية في رحلة التطور الحضاري البشري.

العلمانية هبطت بنظرة الإنسان لنفسه وبيئته وعالمه من سماوات عُلَا لتحط بها فوق سطح الأرض، وتالياً القمر والمريخ. وحين تحقق لها الهبوط الآمن، تحول اهتمام الإنسان من عالم السماء والميتافيزيقا وما وراء الطبيعة إلى عالم الأرض والفيزياء والطبيعة، لكي يتأمل ويدرس ويعلم نفسه وبيئته وعالمه عن قُرب وعن كَثَب، وتنشأ بدورها قافلة جرارة من العلوم التجريبية كانت هي ذاتها القاطرة إلى العصر الصناعي. العلمانية طَهَّرت نظرة الإنسان من مثاليات وتقاليد وقيم طريقة الحياة الزراعية الهائمة بمبادئها ومثالياتها فيما وراء الطبيعة والضعيفة الأثر والإنتاجية في الأرض واستبدلها بمبادئ وقواعد وقوانين علمية لم تترك شيئاً في الوجود، من البشر إلى الحجر، إلا درسته وفحصته ونظَّمته في علوم متخصصة وفتشت عن أوجه الاستفادة والإنتاجية فيه، لتقلب الحضارة البشرية رأساً على عقب، وتحقق لها من التقدم والرخاء والازدهار خلال بضع مئات السنين أضعاف مضاعفة من كل ما قد حققته خلال ملايين السنين السابقة من عمرها المديد.

هكذا، بينما نشأت الشيوعية الغربية ولا تزال مستمرة إلى اليوم في جدلية مثمرة بين يسار ويمين فوق أرضية من القيم والتقاليد العلمانية والعلمية والصناعية، نشأت الشيوعية الشرقية فوق أرضية من القيم والتقاليد المختلفة جوهرياً- ذات القيم والتقاليد والمؤسسات التي قوضتها العلمانية خلال حربها الضروس ضد الدين في الغرب؛ وبينما كانت الشيوعية الغربية تعيش في فضاء عام محايد وعلماني وعلمي يخلو من الآلهة والأبالسة والملائكة والشياطين وغيرها من مفاهيم وقيم ومعتقدات المجتمعات الزراعية التي يرون من خلالها أنفسهم وبيئتهم وعالمهم، وجدت الشيوعية الشرقية نفسها عالقة لامحالة في حرب شعواء ضد كل هؤلاء، أو في "جَدَلية" عبثية ومُضنية معهم وضدهم في آن، لأن البيئة العامة التي استُزرعت فيها ما كانت قد حُيِّدت أو عُلْمِّنَت أو قُنِّنَت علمياً أو حتى صُنِّعت بعد؛ وبينما تطورت الشيوعية في الغرب من رد فعل ثوري وعنيف ضد سلبيات التقليد الصناعي إلى قوة وجَدَلية تحفيز إيجابية مع التقليد الصناعي ليُشَّخصا وينتجا معاً الدواء الشافي لعِلاته وسلبياته، بقيت نظيراتها الشرقية كارثة بكل المقاييس على أي مجتمع استوطنت فيه.

في الغرب، لم تكن نشأة الشيوعية أكثر من صرخة اعتراض، أو جَدَلية ثورية، ضد تقليد صناعي مُنتهك لحقوق العمال. لكن في الشرق لا توجد صناعة ولا تقاليد صناعية ولا حتى عمال ككيان اجتماعي أصلاً. كان الفلاحون بقيمهم وتقاليدهم ومؤسساتهم – وعلى رأسها الدين- هم الأغلبية الساحقة والسائدة لاتزال هناك. ضد ماذا كانت الشيوعية الشرقية صرخة اعتراض، أو جَدَلية، إذن؟!

في المنطقة العربية، نسجت الشيوعية خيوطها مع هجين من الرواسب الرعوية وقيم ومؤسسات تقليد زراعي ما عاد حتى قائماً ولا منتجاً إلى حد الكفاف، لتجد نفسها مَجْدولة في مخلوق ريعي غير منتج هائماً على وجهه في قيم ومثاليات ويوتوبيا عديمة الأثر والجدوى في حياة الناس. لم تدخل الشيوعية العربية في جَدَلية مثمرة مع قوى إيجابية موازية ومضادة لكي تخلق واقعاً حيوياً وخَلاَّقاً، بل فعلتها مع آلهة وأبالسة وشياطين وملائكة لا وجود أو تأثير لهم في أحياء عالم الأرض. لم تعالج المشاكل والأمراض القائمة بقدر ما أضافت إليها، لتفاقم أكثر من واقع وشعور العجز واليأس القائم بالفعل، وتضيف رافداً جديداً إلى نهر التطرف الديني الذي ترتوي منه المنطقة بأثرها حتى الثُمالة.

وفي روسيا، موطن أهم وأبرز المنُظِّرين والتنفيذيين الشيوعيين، صنع الشيوعيون هناك من أنفسهم آلهة وأنبياء وملائكة جُدد، ومن معارضيهم أبالسة وشياطين وخَوَنة يستحقون الحرق. ولأن روسيا كانت ولا تزال مجتمع زراعي اقطاعي في كلا بنيتيه الذهنية والمؤسساتية، كان طبيعياً ولا يستدعي أي عجب أن يُجند زعيمها الحالي، فلاديمير بوتين، في حربه ضد قيم المياعة والانحلال الغربية ذات معتقدات الكنيسة والأوليغارشية (الاقطاعيين الجدد) الروسية التي تَجَادل معها أسلافه وحاربوها وشيطنوا على أساسها الرأسمالية الغربية. وتغافل الزعيم الروسي، كما تغافل أسلافه الشيوعيين، عن حقيقة أن في الغرب الحديث، منذ مئات السنين، لم يعد هناك لا شياطين ولا ملائكة. في الحقيقة، الشياطين لا تزال موجودة وتمرح وتعبث في الشرق منذ آلاف السنين حتى اليوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ‏مقالة رائعة حول خرافة الراسمالية والشيوعية الشرقي
د. لبيب سلطان ( 2023 / 6 / 8 - 19:48 )
تحية لك اخ عبد المجيد على هذه المقالة الرائعة والتحليل الرصين
ان غياب مكونات الواقع الصناعي في دولنا العربية اي كلا الراسمالية كنمط اقتصادي صناعي والعمال كطبقة ناتجة عنها جعل الشيوعية العربية شبه دينية لها علاقة بقيم السماء لا بالارض، فهي حاربت الطبقة الرأسمالية الغيرموجودة وتحدثت باسم الطبقة العاملة وهي حرفية بدائية، وتحويل وسائل الانتاج واساسا لا وسائل انتاج ولا انتاج . ومنه اكتفت بدورها بما يطرحه السوفيت من مهام ومقولات لاعلاقة بها بواقعنا على الارض ولم تفم اهمية نظم الديمقراطية البرلمانية في الحكم ونمو الطبقة الصناعية الرأسمالية في المجتمع للانتقال من الاقطاع والمحتمع الزراعي التجاري الى الانتاجي ، وتحولت مجرد الة اعلامية سوفياتية ادخلت محتمعاتنا في اتون الحرب الباردة التي لا ناقة لنا فيها ولاجمل ..ولليوم لاهم لها سوى خوضها حتى بعد نهايتها واختفاء الاتحاد السوفياتي ومنه لايجيدوا غير التحريض ضد حضارة الغرب بمقولات وادوات سوفيتية باسم مجابهة الامبريالية وفشلوا في اية سياسة داخلية طرحوها منذ منتصف القرن ولليوم فهم يخوضون معركة دولية ضد مفاهيم الحضارة الغربية لاغير
مع الشكر


2 - لذالك ادعو حشع وامثاله للتخلص من الارث السئ خصوصا
الدكتور صادق الكحلاوي- ( 2023 / 6 / 8 - 22:46 )
التسميه-اي الحزب الشيوعي-لان العراق الان وبوضوح في 1934 وماقبله لم يكن بلدا صناعيا وانما متخلثا بشول خرافي لانه -العراق-دخل القرن العشرين بشعب من مليون واحد لان ال5قرون من الحكم المتوحش العثماني الاسلامي قد قضى على اي معلم من الثقافة والتطور الثاريخي القديم لبلاد الرافدين كما انه في ال8قرون السابقه للعثمانية تميزت-حسب التاريخ الصحيح وليس افتراءات اصحاب العنعنه-كانت سنينا من تسيد الوحوش البدو الذين احرقوا حضارات المنطقه كلها -العراقيه والشامية والفارسية بل وحتى المصرية والامازيغية في شمال افريقيا-وهكذا دخلنا بعد الحرب العالمية الاولى كمجموعه بشريه اميه جاهله في بلد خرب تمامالم يدخل بعد الحضارة الجديده التي نشاءت وترعرعت في الغرب والعالم الجديد اميركا وكندا واستراليا-حضارة الصناعة والعلم والثقافة-وهكذ صار العراق-وامثاله من البلدان المسماة عربيه او اسلاميه فريسة -في البداية للاسلام ورجال دينه فوقفوا ضد فتح الابواب امام الغرب المتطور ثم تلقفت اجهزة دولة السوفيت البسطاء السذج امثال فهد وخالد بكداش لانشاء احزاب شيوعيه لمحاربة الغرب -لقد تخلى حشع عن ستالين ولنين وبقي الدخول للتنويرشكلا ومحتوى

اخر الافلام

.. تشاد: المرشحون للانتخابات الرئاسية ينشطون آخر تجمعاتهم قبيل


.. رويترز: قطر تدرس مستقبل مكتب حماس في الدوحة




.. هيئة البث الإسرائيلية: تل أبيب لن ترسل وفدها للقاهرة قبل أن


.. حرب غزة.. صفقة حركة حماس وإسرائيل تقترب




.. حرب غزة.. مزيد من الضغوط على حماس عبر قطر | #ملف_اليوم