الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل برهن القرآن بطلان العصمة؟

باسم عبدالله
كاتب، صحفي ومترجم

(Basim Abdulla)

2023 / 6 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الباحث في تاريخ العقائد، يتحلى دائما بالواقعية والحيادية محاولا جمع الأدلة التي تفتح الطريق للحقائق ليقدم الوعي المستنير للعقول التي تبحث عن الحقيقة، نتوخى من كل ذلك ان يتأمل القارئ فحص القرائن التي ساقها هذا البحث المضني. ان اخطر ما يمكن الوقوع فيه تصادم المفاهيم والمعتقدات في عقيدة العصمة في فكر التشيع وهي العقيدة الأكثر خلافاً في الفكر الايمان الإسلامي بين السنة والشيعة، ذلك الصراع الذي قاد للطائفية واخذ معه ضحايا المعتقد الى يومنا هذا، تزداد فيه وتائر الصراع بين القتل والكراهية ونبذ الآخر. العصمة مثلت طبيعة الصفات الإلهية ومقارنتها القريبة لصفات الأئمة الذين اختاروا طريق الإتحاد في الكيان الإلهي وفي صفاته، العصمة تعني الحفظ والوقاية والمنع، الصفات التي يتميز بها الإمام المعصوم تمنع عنه الوقوع في المعصية، وتصونه في عدم ترك الطاعة مع قدرته على تركها. اي بمعنى ان المعصوم خلقه الله كي لا يقع في الذنوب صغيرها وكبيرها. لقد تم الإيمان بهم على انهم نموذج إلهي بطبيعة بشرية. في البدء سنقع في اشكالية هذا المفهوم العقائدي. قبل الغوص فيه يتوجب علينا ادراك معنى ” يمنع الله المعصوم من الوقوع في الخطيئة مع قدرة المعصوم الوقوع فيها ” الامر يبدو متناقضاً منذ الوهلة الأولى، فالله اما سلب ارادة المعصوم فلا قدرة عنده على عمل المعصية او اعطاه الله القدرة على عمل المعصية وفي هذا يعني ان الله لم يعصمه. اما كون اجتماع صفتين متناقضتين في ذات المعصوم فهذا نوع من تضليل العقل واتيان تحليلاته ورميها في الاوهام. العصمة بمعنى وجوب الطاعة لله ” واعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا ” فهذه عصمة المؤمن ان يتحد بحبل الله بلا تفرقة وان يكونا معاً. كذلك تعني العصمة الإمتناع من عمل المحارم، فالمعصوم بحسب العقيدة الدينية من اعتصم بحبل الله فهذا هو شرط العصمة. ان الله يمنع عنه الزلل ما دام المؤمن متمسكاً بحبل الله. فهي عصمة مشروطة في نوع علاقة المؤمن بربه، مفتاح هداية المؤمن والإمام كغيره مؤمن صالح في ايمانه صادق في افعاله تحت مضلة هذا النص القرآني. فلا يستلهم العصمة إلا من خلال الإنقياد للقرآن. من هنا ورد تقييد المعصوم في مفهوم الطاعة ومنعه عن الخطيئة ان يتبع القرآن. إن النص القرآني واضح في توجيه ايمان الإنسان ” إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ” فهدف الله اختيار الأنبياء للهداية، جعلهم مصابيح نور في طرق الظلام. يستطيع المتتبع لألفاظ الآية القرآنية تأمل كلمة اصطفى أن يستنتج من خلالها عصمة الأنبياء ونفي كلّ لون من ألوان العتب واللوم عنهم او التقصير في اتمام رسائلهم الدينية. لنناقش عقلياً وايمانياً عقيدة العصمة بعيدا عن الميول العاطفية ونجعل العقل ميزان التفكر والإيمان لنفتح الطريق لأفكارنا طريق الواقعية والتأمل في شخصية المعصوم علنا نجد مخرجاً من العاطفة الى الواقع والمنطق ونكون منصفين لأنفسنا، نحلل ونفكر ونرى برهان اليقين ليس بعيداً عنا بمجرد ازالة الغبار عن تصوراتنا السابقة كي نكون اقرب الى فهم هذه العقيدة. اذا كانت العصمة تستلزم سلب المعصوم ارادته، لا سلب القدرة معه، فهذا يناقض المعتقد الإلهي في مفهوم القدر، ذلك ان القدر يستوجب قيام الإرادة على عمل الفعل، فكيف يلغي المعصوم قدر الله في ارادته؟ بل ان عدم سلب القدرة على قيام الفعل اساس خلق الله لعباده، اذ كيف يقيس الله افعال عباده في الاعمال الدنيوية بين الخير والشر؟ فاذا جرد الله احد عباده من افعاله لا يكون على المعصوم حكم المؤمن الصالح لان لم تجر عليه مصالح الله في قياس افعاله كي ينال رضاه، فهو مسلوب الإرادة لا يعرف منه عمله الصالح وغير الصالح. الإرادة هي فعل الله في حياة الإنسان بدونها تسلب اختيارات الإنسان في ميزان افعاله، وبهذا تسقط الأحكام الإلهية عنه، لهذا حتى الأنبياء لم يتم تجريد قدرة الإرادة عنهم فكيف سيجرّد المعصوم من سلب قدرة ارادته؟ يتمثل ميزان العدل الإلهي من خلال تجسيد الفعل الإنساني في اختيارات ارادته بين الخير والشر، فاذا تم سلب القدرة على فعل الإرادة زال عنه الحكم الإلهي وهذا مخالف للشرع الإلهي في خلقه. فالثواب والعقاب خلقهما الله للعبد هما صادران بفعل اختيار الإرادة من العبد، يتحققان في ميزان قدر الله فهو الذي قدّر على العباد افعالهم، فلا يكون تحقيق هذا القدر بلا القدرة على تحقيق الإرادة. في حديث نبوي بسند صحيح ” إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: ربِّ؛ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ” فكيف ستقوم الساعة بلا مقادير كل شي في افعال العباد في غياب القدرة على تحقيق اراداتهم؟ ورد في صحيح البخاري كتاب احاديث الانبياء باب وفاة موسى ” احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قُدِّرَ عليَّ قبل أن أُخلق ” اذا كان هذا حال انبياء الله قد قدّر عليهم افعالهم قبل خلقهم، فكيف سينفذ الله قدره في المعصومين الذين سلبهم افعال ارادتهم؟ ابتدأت الإمامة بعلي بن ابي طالب، وقد اقر نهج البلاغة كلام علي فيما قال” لا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس اعظام النفس ... فاني لست في نفسي بفوق ان اخطأ ولا آمن ذلك من فعلي ” لقد طلب من اصحابه الا يترددوا في ابداء النصيحة والمشورة. (1)
قال علي ايظا في نهج البلاغة ” اللهم اغفر لي ما انت اعلم به مني فان عدت فعد علي بالمغفرة اللهم اغفر لي ما وأيت من نفسي ولم تجد له وفاء عندي، اللهم اغفر لي ما تقرب به اليك بلساني ثم خالفه قلبي اللهم اغفر لي رمزات الالحاظ وسقطات الالفاظ وشهوات الجنان وهفوات اللسان ” (2) هذا الاقرار بالذنب ومخالفة القلب للسان ...كل هذا ينفي عصمة علي ويجعله كباقي الصحابة لا يختلف عنهم في التوسل والتقرب الى الله والتمني بنيل رضاه. قال ابو الحسن موسى الكاظم ” رب عصيتك بلساني ولو شأت وعزتك لاخرستني وعصيتك ببصري ولو شئت لاكمهتني وعصيتك بسمعي ولو شئت وعزتك لأصممتني ... وعصيتك بجميع جوارحي التي انعمت علي بها ولم يكن هذا جزاك مني ” (3) فلم يكن هذا الإقرار في سجود موسى الكاظم وتوسلاته لله كان على علم بعصمته، كان خوفه واضحاً من جنوح افعاله للذنب إلا لكونه عبد من عباد الله قد يصيب ويخطأ.
لقد نمّ الإقرار عند مؤمن يخاف الله وهذا هو ايمان العبد الصالح، هكذا تكون صفات المؤمن، فلو وجد نفسه معصوماً من الزلل والنسيان ونيل رضى الله وضمان جنته، لا يكون لهذا الإقرار معنى، لكن كان يقصده بكل جوارح قلبه وصدق ايمانه بالله. اننا نرى وقائع التاريخ عبرة لنا في فهم التدين الصافي والصادق لله، نراه من خلال علاقتنا المباشرة وان نجعل التاريخ مصدر ايماننا في اخذ التجارب، نستنتج منه دنيانا ونتفهم ديننا، فهذا الحسن بن علي كان يرى تنازله عن الخلافة لمعاوية حقا واجبا وصوابا وقد رأى مصرع والده بسبب الخلافة امرأ سيجعل الإسلام يتهاوى امام مطامع الدنيا، تنازل رغم كثرة عدد مناصريه، ان كان هذا حقاً يجسد كمال العصمة فكيف يناقض الحسين بن علي في محاربة يزيد مع قلة انصاره وضعفهم وكثرة اصحاب يزيد حتى قتل ومن معه فهذا باطل وغير واجب ناقض فعل اخيه والاثنان امام معصوم. او كان فعل الحسين بن علي حقا واجبا ان حارب يزيد حتى قتل فتراجع الحسن عن حرب معاوية ومعه العدد الكبير من شيعته يكون باطل؟ فهذا امر لا يقره غير اصحاب العقول التي التمست الاعذار في فعل الحسن والحسين لا يمكن ان يكونا معا في ميزان الصواب، الا ان يكون احدهما قد اصاب والآخر اخطأ فأين العصمة؟ ثم اين الولاية التكوينية في هذا النزاع والتراجع للحسن وقد سلم لبني امية امر المسلمين وهي خلافة لا يحيد عنها الله نفسه وقد قدرها للحسن؟ اننا امام كم وافر من التناقضات في حياة الأئمة، فعند البحث في اقوالهم نجده بابا واسعا يتصل بشكل مباشر في بشرية هؤلاء الرجال وكانوا سببا في انصراف بعض الشيعة عنهم وعدم الايمان بعصمتهم حتى ان الشيخ الطوسي قد اقر بأخبارهم المتناقضة فلقد تناقضت رواياتهم وضعف استدلالهم فهذا الامر يقدح في مبدأ عصمة الأئمة ويجد العقل مصدر النتاقض سببا في رفض العصمة. حاول الشيخ الطوسي درء الاختلاف في الكتابين التهذيب والاستبصار وهما من اهم مصادر الشيعة فحمل دفاعه عنهما على مبدأ التقيه مما جعل الأمر يزداد اكثر تعقيدا. ان استنباط عقيدة التقية والبداء لدرء التناقض في روايات واخبار الائمة حتى ان العديد من الشيعة اكتشف هذه المحاولة فترك عقيدة العصمة. ” إن مبدأ التشيع قد يكون ورثته الشيعة من المذهب المجوسي ذلك انهم ان لهم من ينتظرونه مع اصحابه انهم لا يكذبون ولا يعصون الله ولا يقع منهم خطيئة صغيرة ولا كبيرة ” (4) رغم ان غياب تأثير الأئمة اليوم لم يعد مهما اذ بقي في دساتير الكتب كتراث فكري تحفه الكثير من الاخبار المتناقضة التي ترفضها في عصرنا الحاضر اغلب العقول فلقد انتهى وجودهم الفعلي من العام 260 هجرية فلم يبق غير موعد انتظار الغائب الموعود. فوصفهم بصفات الألوهية تحول الى حالات تعبدية في قبورهم فيطاف بها ويستعان ويستنجد بها رغم ان الاستعانة بغير الله من المحرمات في الإسلام.
ان امر الولاية التكوينية يكمن في مصداقية علي بن ابي طالب وصفاء ايمانه مع نفسه وخوفه من الله، فهذا الإيمان الصافي في قلبه قد الغى ولايته الدنيوية، على الأقل في كيانه وعقله، فلم يكن يوماً على تصور ان كلامه وقربه من النبي سيجعله متميزا، لا يأتيه الذنب ويعلم من اسرار الكون ما كان وما سيكون ما لا يعلمها غيره، من موفور تلك العقيدة التي غيرت تاريخه الروحاني الى تاريخ خرافي، لقد رفض الولاية الدنيوية، ان الامر ليزداد وضوحا في رفضه للولاية ” أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ خرجَ من عندِ رسولِ اللهِ في وجَعِه الَّذي تُوفِّيَ بهِ ، فقال النَّاسُ : يا أبا الحسَنِ ، كيف أصبحَ رسولُ اللهِ؟ قال : أصبحَ بحمدِ اللهِ بارئًا . قال : فأخذَ عبَّاسُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ بيدِه فقال ... إنِّي أعرفُ وُجوه بَني عبدَ المطَّلِبِ عندَ الموتِ ، فاذهبْ بنا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فلْنَسألْهُ فيمَن هذا الأمرُ؟ فإن كان فينا علِمْنا ذلكَ، وإن كان في غيرِنا كلَّمْناه فأوصَى بنا ، فقال عليٌّ : إنَّا واللهِ ، إنْ سألناه فَمنَعَناها ، لا يُعطيناها النَّاسُ بعدَه أبدًا ، وإنِّي والله لا أسألُها رَسولَ اللهِ أبدًا” (5) فإذا كان علي على علم بأحقيته للخلافة التكوينية لكان قد اعلن لهم ذلك وهي فرصة يؤكد بانهم بايعوه في غدير خم في اختياره اماماً للمسلمين. بحسب نهج البلاغة ان عليا” لم تكن ضمن اهدافه الفوز بالخلافة ” والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية اربة ولكنكم دعوتموني اليها وحملتموني عليها ” (6) فهل هذا كلام يوجب من كانت له ولاية تكوينية او خلافة بنص؟ ان امر تخلي علي او تنكره للخلافة وعدم رغبته فيها لا يجب ان يؤخذ وفق العاطفة الدينية والتماس الإعذار لان ذلك سيقلب حقائق التاريخ ولا نرى وفق القياس والمنطق، فعلي بشر قبل ان تتغلغل في حياته الدينية تطرف المعتقدات التي اخذت تاريخه الشريف الى التخيلات اللاهوتية عبر مزالق العصمة.
تورد سورة النساء بما يعني عموم الطاعة بشكلها التفصيلي عند الله ورسوله واولي الامر فهذه هي الطاعة، فكل ولي امر يجب طاعته بما يلائم رضى الله، فالطاعة هنا واجبة، وقد اقتصرت دينيا على طاعة الله ورسوله واولي الامر، لكن عند التنازع، اقتصر الامر العودة للمصدر الإلهي ولرسوله لان الرسول ارتبط بصلة الوحي الإلهي، فلو كانت الأمامة واجبة وانها تعني بمنزلة النبوة لذكرها القرآن، فهذا استدلال يقيني ان امر الإمامة لم يستقم في تقييمها الديني كمنزلة النبي وبالتالي لم تصلح في الحكم عند النزاع ” يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ، فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... ” فهذا دليل التميز بما يجعل صلاحية النبوة في اصلاح امر الرعية محصورا في واجب النبوة، ولم يورد ما يخالف ذلك شرعا ولا نصاً.
الامر لم يقتصر في التجاوز على مكانة النبوة بل بات الأمر في اشراك علي بن ابي طالب في اصل النبوة والوحي ” ونزل جبريل على النبي صلي الله عليه وسلم وقال : يا محمد الله العلي الاعلى يقرأ عليك السلام وقال يا محمد نبي رحمتي وعلي مقيم حجتي، لا اعذب من والاه وان عصاني ولا ارحم من عاداه وان اطاعني ” (7) لهذا نجد دوافع العصمة وتأسيس عقيدتها راسخة في تاريخ البدع الإسلامية، فالنبي في هذا النص اقل شأنا من علي ذلك ان محمدا نبي الرحمة، بينما علي هو الذي يثبت الحجة على الناس، ويقيم حجج الله في امر الرعية. سيكون والامر كذلك تفرده بالحجة لله ان ينال العصمة التي ترقى الى صفات الله في ملكوته.
ان محاولة تأسيس دين تتغلغل فيه عقيدة العصمة وتكون جوهر العقيدة الإسلامية لم يشتمل فقط في قدسية علي بن ابي طالب وتـأسيس خلافته التكوينية على الارض ولا في ذكر اسمه عند نزول الوحي على محمد كمصدر الحجة عند الله ولا في موالاة علي التي تقدمت على طاعة الله، فمن عصى الله لا ينال عذابه ان والى علياً بل في جعل كتاب الله خاضعا للتحريف والنقص رغم ورود الآية ” انَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ” . بحسب الحاج ميرزا حسين بن محمد الطبرسي الذي دفنوه في باب المشهد المرتضوي بالنجف الّف كتابا سماه ” فصل الخطاب في اثبات تحريف كتاب رب الالباب ” جمع فيه مئات النصوص من علماء الشيعة في مختلف العصور بأن القرآن قد زيد فيه ونقص منه وقد طبع كتاب الطبرسي في ايران عام 1289 هجرية (8) اقرت عقيدة الأئمة اتيان النصوص التي تجل شأن علي بن ابي طالب وترفعه لمقام زاد على مكانة النبوة، فمن الطبيعي ان يأتي الدليل على بطلانها وعلى براءة علي بن بن ابي طالب من تلك الأحاديث التي لم تكن في زمنه ولم تصدر عنه ولا عن النبي محمد. فلم يصدر عن علي بن ابي طالب مصحف سمي بمصحف علي. لقد اشاع الكليني في كتاب الكافي مدعيا ان الأئمة وحدهم من جمع القرآن وفيه روايات ست وبما رواه عن جابر الجعفي قوله ” ما ادعى احد من الناس انه جمع القرآن كله كما انزل الا كذاب وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى الا علي بن ابي طالب والأئمة من بعده ” (9) اذا كان علي قد جمع القرآن فأين ما جمعه؟ واذا جمعه فعلا فما هي الحاجة لجمع الائمة من بعده؟ واذا كان القصد قد شاركوا عليا في جمعه فهذا يعني كانوا معه ونحن نعلم لم يوجدوا . ثم اين الكتاب، فاذا كان رسول الله لم يحفظ القرآن فهذا تقصير الرسالة النبوية وتقصير الله.
تقدم لنا سورة الفتح ” إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا” النموذج البشري لصاحب الدعوة الإسلامية، على خلو عصمته من الذنب، فالله غفر له ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر، فهذا دليل بشرية محمد في ان الكمال المطلق لا يشمل إلا الذات الإلهية، اما البشر فمهما بلغ علو قدرهم وتعاظمت سلوكياتهم خوفا من الله وايمانا بتقوى الله فلا يمنعهم من عمل المعصية ادركوا هذا الأمر ام لم يدركوه. وهذا ما اقره علي بن ابي طالب تأييدا للسورة القرآنية كما ورد في نهج البلاغة ” ... لا تخالطوني بالمصانعة، وتظنوا بي إستثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استتقل الحق أن يقال له أو العدل أن يُعرض عليه ، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أومشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هوأملك به مني فإنما انا وانتم عبيد مملوكين لرب لا رب غيره ” لقد طلب من اصحابه الا يترددوا في ابداء النصيحة والمشورة، فلم يأمن الخطأ في افعاله من الوقوع في الخطيئة. بينما تخالف عقيدة العصمة النص القرآني في ان الإمام معصوم بشكل مطلق ولا يجوز عليه الخطأ، الزلل، لا يسهو ولا تجوز عليه الغفلة، هذا الأمر لم يعرف في عصر الصحابة ولا التابعين، انما عرف لأول مرة في زمن هشام بن الحكم “ (10) بحسب دوايت مارتن دونالدسون Dwight Martin Donaldson 1884 – 1976 الباحث والمستشرق الإسلامي، امريكي الأصل ولد في واشنطن، عاش لمدة 16 عامًا في مشهد بإيران ، حيث كان يبحث ويكتب عن الشيعة في بلاد فارس ثم انتقل إلى الهند وأصبح مديرًا لمدرسة هنري مارتن للدراسات الإسلامية، ان فكرة العصمة بدأت عند الشيعة في عصر جعفر الصادق، “ (11) عن تميم القرشي عن أبيه عن أحمد بن علي الأنصاري عن الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله إن في الكوفة قوم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وآله لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: كذبوا لعنهم الله إن الذي لا يسهو هو الله لا إله إلا هو ” (12)
يناقض هذا الاعتراف ما ورد في بحار الانوار، ان اصحابنا الامامية اجمعوا على عصمة الانبياء والأئمة صلوات الله عليهم من الذنوب الصغيرة والكبيرة عمدا وخطأ ونسيانا قبل النبوة والامامة وبعدهما بل من وقت ولادتهم الى ان يلقوا الله تعالى ثم يعود ويناقض نفسه في ذات الصفحة ” المسألة في غاية الاشكال لدلالة كثير من الاخبار والآيات على صدور السهو عنهم عليهم السلام، وإطباق الأصحاب إلا من شذ منهم على عدم الجواز مع شهادة بعض الآيات والاخبار و الدلائل الكلامية عليه ” (13) فلم يستبعد السيد المجلسي في كتابه تناقض الروايات والاخبار التي تؤيد والتي تناقض عقيدة العصمة ورودها معا، في ان السهو عنهم قد ذكرته بعض الروايات. ان الامر ليزداد غلوا في صياغته الدينية مما يجعل الإمامة خطرا على الإسلام ولم تكن في عهد محمد ولا في حياة اصحابه والتابعين، العصمة تجعل كلام الإمام وحيا يوحى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وترفع به عن العوارض البشرية لتخرج به الى مصاف الملائكة، من طور الخلائق الى صفات خالق البشر. إن امتناع الامام عن المعصية ولزومه للطاعه يدلل بلا ادنى شك ان الإمام مجبر من الله، فالجبرية هنا تعارض عقيدة القدر، في ان البشر جميعهم معرضون لقدر الله، فلا حرية للأئمة في الاختيار، فجميع البشر تخضع لله في تبعات افعالها فهذا المفهوم عن عقيدة العصمة سبق ايمانهم بالقدر، فلقد تأثروا بالفكر المعتزلي في القرن الثالث الهجري، اذ تطور مفهوم العصمة من خلال صياغة الافكار الاعتزالية في التصور اللاهوتي لله. ” اللطف الإلهي يفعله الله بالمكلف فيمنع عنه الوقوع بالمعصية مع قدرته على فعلها. لا يجبر الله من اختاره للإمامة في عدم فعل المعصية بل يفعل به الطافا يترك معها المعصية مختارا ” (14)
فهذه لغة المعتزلة استعان بها الشيعة لتحديد مفهوم العصمة، فلقد اسس من خلالها الشيخ المفيد ارضية الاستعارة العقلية والمنطقية بهدف تضليل العقول تأسيس مبدا عقائدي لم يكن له وجود عقائدي في التاريخ الإسلامي عند مؤسس الإسلام شخصيا ولا عند اصحابه بل انطلقت ولادة هذا الفكر بداية الدولة العباسية حيث ازدهر الفكر الإعتزالي وقتئذٍ. عقيدة العصمة تمثل مذهب الشيوخ لا مذهب الأئمة حتى ان المجلسي اقر بهذا التناقض فقال ” المسألة في غاية الإشكال للدلالة في كثير من الاخبار على صدور السهو عنهم ... ” (15) فهذا اعتراف صريح من المجلسي ان اجماع الشيعة على عصمة الأئمة يخالف رواياتهم. إن الاستدلال على عصمة الأئمة يتناقض بشدة في مختلف المحطات الفكرية والعقائدية للمبادئ الإسلامية، لكن تجد لها وجود اساسي في عقائد الشيعة، ليس فقط من خلال المجهودات الفلسفية التي فاضها عليهم الفكر المعتزلي، بل من خلال زج تلك التصورات الذهنية التي فاض بها القرآن باعتباره حمّال اوجه مما جعل التخبط العقائدي يفسر النص الديني في نقيضه. رغم غياب النص القرآني لهذه العقيدة إلا انها باتت من اساسيات عقائد التشيع، ليس هناك نص يخص الإثني عشرية ولا اي فرد من أئمتهم لكن تفسيراتهم وتصوراتهم الذهنية تقتحم جوهر النصوص القرآنية لتثبيت وبناء عقائدي راسخ ودائم فيها. لقد فسّر شيوخهم الاستدلال بالنص القرآني في سورة البقرة الفقرة 124 ” واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال اني جاعلك للناس اماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ” هذه الآية اصل استدلالهم في تثبيت العصمة وقد ثبتها المجلسي في بحاره ” باب لزوم عصمة الإمام ” لقد ذهب اكثر شيوخهم الى اصل استدلال عقيدة العصمة انها تتركز في هذه الآية. لقد استدل مراجع الشيعة بهذه الآية.
ان تفسير المفردات القرآنية في نص الآية قد فسرت على غير محمل المعنى الإلهي كما في كلمات ” الظالم ” ” العهد ” فالظالم ان تاب تكون الآية قد قصدته في حال كان ظالما، فأن انتفى عنه الظلم لا ينال حكم الظالم، بدليل ما ورد في سورة العنكبوت الفقرة 27 ” وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب” اي انه سيكون في ذريتك ظالمون، وعن ابن عباس ” لا ينال عهدي الظالمين ” قال يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه ان تطيعه فيه وقال ليس للظالمين عهد. نفهم من هذا النص القرآني ان الله ابتلى ابراهيم وامتحنه بكلمات اي بأوامر ونواهي فأتم ما ابتلاه الله به فشكره الله وقال له ” اني جاعلك للناس اماما ” اي يقتدون بك في الهدى ويمشون خلفك الى سعادتهم الأبدية وهذا تفسير الشيخ السعدي، فالامام هنا تعني يكون القدوة في هداية الناس، اي ليس مفهوم الإمامة كما ذهبت اليه تفاسير شيوخ الشيعة. واضح من التفسير القرآني ان لا ينال عهد الله من كان ظالماً، كذلك بحسب تفسير القرطبي ” اني جاعلك للناس اماما ” اي القدوة، جعلناك للناس اماما يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون. فما علاقة اختبار الله لإبراهيم وجعله قدوة للناس في ان يكون ابراهيم اماما على طريقة الأئمة الاثني عشرية؟ ذلك ان مفهوم الأمامة والعصمة غير ما قصده الله في هذا النص القرآني، بدليل اننا امام نص واضح في سورة البقرة ” فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ” فالتوبة تستوجب لزوم الذنب، فلا توبة لآدم بلا وجود ذنب، فهذا نص يكسر مفهوم العصمة. ان مجمل تفاسير ” لا ينال عهدي الظالمين ” لقد فسر النص جمهور المفسرين ، ابن عباس، قتادة، ابراهيم النخعي، قولهم لا يجعل الله اماما ظالما يقتدى به، فالإمامة هنا تعني القدوة والاقتداء على غير تفاسير التشيع، على ان هذه الآية لو كانت في الإمامة فهي لم تدل على العصمة فلا يقال لغير الظالم معصوم لا يخطأ لا ينسى ويعلم الغيب بما قدره الله عليه، فبين اثبات العصمة ونفي الظلم فرق كبير فنفي الظلم اثبات للعدل وليس للعصمة. الأمر لم يقف عند هذا الحد في مخالفتهم لكل التفاسير الإسلامية، يتمسكون بروايات اهل السنة للاحتجاج بها واقناع الأمة الإسلامية ان تفسيراتهم محل اجماع خاصة تلك التي تتعلق بأهل بيت النبي محمد، تلك الروايات لا علاقة لها بأهل النبي الا تلك المصادر التاريخية التي ربطت الصحابي الجليل علي بن ابي طالب بأولاده الحسن والحسين، وقد انقطع نسل تلك الذرية عند وفاة الحسن العسكري عقيماً بحسب المصادر التاريخية، فامتداد النقباء او النيابة عن غائب لا وجود تاريخي له وهم الذين انهوا دور الأئمة بغياب شخصية لم يثبتها التاريخ قطعاً.
ان الروايات التي رواها الكافي، ابراهيم القمي، المجلسي، لا متن لها في المراجع التاريخية ولا اسناد، للاستدلال بها على عقيدة عصمتهم، حتى ان المجلسي برواياته العديدة والتي استلهمها من القمي والمفيد، استدلها من سورة البقرة فهذا الاستدلال باطل، اذا دخل الاحتمال سقط الاستدلال. ان الغلو في الولاء والايمان بما يراه المرء مقدساً لبعض التقاة يدفع الكثير الى الانغماس في الكفر وتمكن الجهل من عقولهم، عند اشراك فئة متدينة مع الله في صفاته، فيغيروا حقائق التاريخ ويضيفوا للمعتقدات المزيد من الجهل والتعسف. قال الفاضل المقداد: ” وأصحابنا حكموا بعصمتهم مطلقاً قبل النبوة وبعدها عن الصغائر والكبائر عمداً وسهواً؛ بل وعن السهو مطلقاً، ولو في القسم الرابع، ونقصد به الأفعال المتعلّقة بأحوال معاشهم في الدنيا مما ليس دينياً ” (16) ان عدم اعمال العقل يدفع في تحليل النقد الكتابي الى تهميش محتوياته المعنوية وعدم جدواه في مأثور القيم الدينية، فهل كان هناك معصومون قبل البعثة النبوية وهل لو لم يكن محمد نبياً قد وجد فيها ما يعرف بعلي وفاطمة واحفادهم في تاريخ الأئمة؟ فما هي هذه العصمة التي حكم فيها المعصومون قبل دخول النبوة للتاريخ الإسلامي؟ فلم يحكموا بعصمتهم اذ لم يكن لهم وجود. لعل اقوى ما بلغ اليه سوء التفسير عند شيوخ الشيعة بسبب جهلهم لقواعد اللغة في خلل الإستدلال آية مقتطعة من سورة الاحزاب، خصت النبي ونسائه وادرجت كعقيدة دينية تخص اهل بيته من الأئمة الذين فرض الله عصمتهم في تطهيرهم من الرجس ” وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ” فلقد اسقط عن هذه الآية استدلال الآية القرآنية في سورة هود، الفقرة 72 – 73 ” قالت يا ويلتي أألد وانا عجوز وهذا بعلي شيخاً ان هذا لشئ عجيب ، قالوا اتعجبين من امر الله رحمت الله وبركته عليكم اهل البيت انه حميد مجيد ” فأهل بيته في النص القرآني زوجة ابراهيم، فهذا التفسير قد ورد في كامل النصوص القرآنية كسورة القصص 12 ” وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل ادلكم على اهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ” اشارت السورة الى بيت فرعون، اذ عاش موسى عند زوجته آسية التي أحبته حبًّا شديداً فوجدت له من ترضعه، كذلك خصت سورة الاحزاب نساء النبي، بدليل تكرار نون النسوة، على ان موضع الجدل استلزم سوء فهم النص في كلمة ” عنكم ” لم تتضمن الإشارة الى نون النسوة بسبب ان النص عند جمع الذكور والإناث يدرج بصيغة المذكر. فاستدلال الآية لم تنص ادخال اشخاص خارج بيت النبي من الذكور والإناث بل اختصت نسائه، لهذا سقط الاستدلال عن الإمامة بهذا النص. فأهل البيت قصد بها في كامل السور القرآنية الزوجة، فهذا استدلال قرآني واضح، اما كون اهل بيت النبي بخلوهم من الرجس اثبات لقدر النبي ولمكانته عند الخالق، فغياب الرجس ثابت عنه وعن اهل بيته لا علاقة له باستغلال النص ورده الى عصمة اهل بيته.
اوجب الشيخ الكليني في كتاب الكافي، باب ” ان الأئمة هم اركان الأرض” طاعة علي بعد النبي وكذلك الأئمة حتى انه ما لبث ان رفع شأنهم الى مقام الله، حيث ذكر ان عليا قال ” أُعطيت خصالاً لم يعطهنّ أحد قبلي : علّمت علم المنايا والبلايا.. فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عنّي ما غاب عنّي” (17) فعلم المنايا والبلايا ، صفة إلهية لا يجوز لنبي او غيره من البشر الإتيان بها. فلقد ذكر في محكم النص القرآني ” وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ” . ان قياس العصمة في المعتقد الشيعي يتركز اصلا على تمييز الإمام بكيانه وولادته وعلمه وتفرده في نسبه عن الأمة التي تفتقد تلك المزايا، فهم يروا ان الأمة كلها معرضة للخطأ و الضلال، فقيادة الأمة لا تكون إلا بمعصوم يمنع عنها عيوبها واخطائها، فلو جاز للإمام الوقوع في الخطأ لزم عليه من يسدد اخطائه، فهذا لن يجعل منه قائداً يهدي الأمة للرشاد، لهذا لا ثقة لهم بالأمة، فلا يستقيم امرها إلا الإمام الحافظ للشرع، ولا اعتماد على الكتاب والسنة بدونه (18) يبدو للوهلة الاولى قبول منطق الإيمان عقلياً بالعصمة، فيكون بحسب هذه التفاسير فرضية الإيمان بالإمام المعصوم من لوازم التشريع، لكن الحقيقة لا تنال بهذا المنطق ذلك ان الأمة معصومة بكتاب الله وسنة نبيها، فلا تجمع الأمة على ضلالة بغياب عصمة الإمام. لقد كان محمد اماماً لكل الأمة، وقد خاطب القرآن بالدليل والبرهان عقل الأمة بنص واضح لا لبس فيه ” مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ “ يقتضي عدم التفريط في شيئ بمعنى اتمام الرسالة وقبول العقل فيها، واتخاذ كتاب الله مصدرا للهداية فلا يعينهم على دعم ايمانهم وتقوية بصيرتهم غير التفكر والتأمل بكتاب الله، ذلك ان الله ارسل انبيائه للأرض ولا بديل عنهم غير سنة وتعاليم انبيائه. فالأمم التي انحرفت وسادها الفساد بعث الله لهم انبياءً بينوا الحق والرشاد، فلا تبديل لهذه الأمة بدينها فلقد اعلن الله ” لا اكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي ” لقد اتضح امام الأمة التمييز بين طريق الرشد والضلال ” إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ” فاذا لم تكن الهداية من كتاب الله كيف سيجعل الإمام المعصوم طريق الرشاد فيها؟ ذلك سيكون نقصاً في كتاب الله لطريق لا يسده إلا الإمام المعصوم وهذا مخالف لكتاب الله والسنة.
اشار الله الى عصمة الأمة في كتبه ورسالات انبيائه فهذا يختلف تماما عن عصمة واحد من المسلمين يقود الأمة للهدى، ذلك ان هذه الأمة قادها كتاب الله للهدى وتبين لهم من خلاله الرشد من الغي فلم يورد نص قرآني اوجب اتباع طريق عصمة الإمام بديلا عن عصمة انبيائه. لقد حسم القرآن عقيدة الاقتداء بالنبي بشكل واضح لا يقبل الجدل ولا في استنباط التفسيرات على محمل الاحتمالات العقائدية او الظنية اذ قال ” اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول ” اي يردوه الى كتاب الله ورسوله ولم يقل ” فردوه إلى الله والرسول والأئمة ” فهذه الأمة لا تجتمع على ضلالة بهدي من الكتاب والسنة، لقد قامت الحجة على الأمة بالرسل ” لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل ” فهذا النص في سورة النساء ابطل حاجة العباد الى غير الرسل. لقد حسم امر العصمة بالغاء دورها الديني، الغى منطق الادلة العقلية في تثبيث دور الأئمة هم شيوخ الشيعة انفسهم، التراث العقائدي عندهم ابطل عصمة الأئمة عند انتهاء ظهور الامام، فهذا جعفر بن علي الهادي ادعى بعد وفاة اخيه الحسن العسكري، انه الوريث الشرعي له حيث ان اخاه لم يخلف ولداً.
لا مجال لبحث عقيدة العصمة دون ان نمر بجعفر بن علي الهادي اخو الحسن العسكري فلقد كان المؤهل لنيل الإمامة بعد وفاة أخيه الحسن العسكري، ” اذ قسّمَ ما خلّفه الحسن العسكري مدعياً أنه الوريث الشرعي له، حيث أن الحسن العسكري لم يُخلف ولداً. اكدت بعض الفرق الشيعية واكده علماء النسب والتاريخ ان الحسن لم يخلف ولداً، ان صحت هذه الرواية ام لم تصح فهذا الإمام الموعود لم ينتفع منه الدين خلال كل عصور غيبته المزعومة ”. فلم يتول منهم الحكم غير علي وابنه الحسن قبل تنازله عن الخلافة. توفي جعفر سنة 271 هجرية ودفن في سامراء بالعراق (19) أن امر الإمامة واجه الكثير من التناقضات في طريقة من سيتولى امر الإمامة بعد وفاة أئمة السلف الصالح فبعد وفاة جعفر الصادق التف الشيعة حول ولده موسى الكاظم لكن الشيعة الموالون للإمام اسماعيل بن جعفر الصادق اختاروه اماماً وان مات في حياة ابيه ورفضوا إمامة موسى الكاظم. فلو كان التنصيب الإلهي للأئمة قد ادرج بحسب المشيئة الإلهية لماذا اختلفوا في تنصيب الإمام؟ ان الخلاف العقائدي بين السنة والشيعة يتمثل في الجوهر الذي يربط عقيدة العصمة بعلمهم للغيب، وهذا ما جعل الباب مغلقاً لم يمكن التوصل فيه لخط عقائدي مشترك، ذلك ان العصمة في كمال سلوكيات المعصوم لا يمكن الركون لها بوصفها فاقت الحدود البشرية، كيف اذا كان المعصوم يتسلم علمه الغيبي من الخالق؟ لقد تم تفسير الكثير من الكلمات التي ذكرت فيها كلمة ” امام ” على محمل العصمة وعلى قدرات الأئمة في علم الغيب، لقد ورد النص القرآني ” وكل شئ احصيناه في امام مبين ” بحسب تفسير ابن كثير ، أي جميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ ، والإمام المبين هاهنا هو أم الكتاب. فما علاقة الآية بعلم غيب الأئمة؟ ” ... يفترق علم الإمام عن علم الله، بأنّ علمه سبحانه قديم وسابق على المعلومات، وهو عين ذاته. أمّا العلم الحضوريّ للإمام، فلا يشارك علمَ الله في شيء من هذه الأُمور؛ لأنّ علم الإمام حادث ومسبوق بالمعلومات، وهو غير الذات فيه وإنّما حضوره عند الإمام بمعنى انكشاف المعلومات فعلاً لديه، فلا يشارك اللهَ في علمه. وخلاصة القول، إنّ علمه سبحانه ذاتيّ، وعلم الإمام عَرَضيّ موهوب وممنوح منه جلّ شأنه (20) ان مقارنة علم الإمام بعلم الله، علم الله قديم وعلم الإمام حضوري، رغم انهما افترقا بفعل الزمن، إلا ان صاحب المقال التف حول علم الإمام ” المسبوق بالمعلومات ” كي يبرهن ان الزمن خاضع لعلمه اي اراد تبيان تميز الائمة كلما استحكم الإعتقاد في ذهن المؤمن بعقيدة الغيب والعصمة للإمام.
تضمن الغلو في عصمة الأئمة اشراك الله في امر اختيار ولايتهم ” يا محمد لو ان عبدا عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي ثم اتاني جاحدا لولايتهم ما اسكنته جنتي ولا اظللته تحت عرشي ... ” (21) لم نعلم اين ومتى دار هذا الحديث بين الله ومحمد في مكان ما في هذا الكون، او ربما تم في رحلة المعراج، مما جعل كتابات شيوخ التشيع تجد صعوبة اكثر في تقبل المفاهيم الروحانية للخالق عندما يزج نفسه في امور شخصية تتصل بولاية الحكم في الإسلام. عن الشيخ المفيد حديث الى محمد بن الحنفية قال امير المؤمنين ” سمعت رسول الله يقول لولانا لم يخلق الله الجنة ولا النار ولا الانبياء ولا الملائكة . قلت يا رسو ل الله فنحن افضل ام الملائكة؟ فقال يا علي ... نحن خير خليقة الله وخير من ملائكة الله المقربين ... ” (22) ان عقيدة العصمة لم تقف عند امتناع الذنب عن المعصوم بل تتعداه الى كيانه الروحاني السابق لبشريته في الملأ الاعلى، فعن المفضل بن عمر قال قلت لمولانا الصادق ما كنتم قبل ان يخلق الله السموات والارض؟ قال كنا انوارا نسبح لله تعالى ونقدسه حتى خلق الله الملائكة ... خلقنا انوارا وخلقت شيعتنا من شعاع ذلك النور فلذلك سميت شيعة ” (23) ذكر محمد بن يعقوب الكليني ان علي بن ابي طالب قال: ” انا قسيم الله بين الجنة والنار لا يدخلها داخل إلا على احد قسمي انا الفاروق الاكبر انا الامام لمن بعدي والمؤدي عمن كان قبلي ... اعطيت علم البلايا والمنايا والوصايا ... ” (24) لقد منحت العصمة لعلي تقاسمه مع الله مسؤولية ادخال العباد للجنة والنار، فهو المتسلط الاعظم ” الفاروق الأكبر ” السابق والقادم للأئمة ويعلم الغيب في عوارض الزمن متى تقع البلايا على العباد، فهذه العصمة مشاركة الله في الغيب والتصرف معه في قضاء مصير عباده. ” فهذا آدم تحت لواء امير المؤمنين يدخل الجنة قبل النبي لانه حامل لوائه ” (25) كان لابد من ردم الهوة التي توسعت في كل حديث بشئ من الواقعية واعطاء العقل نوعاً من الإحترام لجعل الخوارق البشرية في تاريخ الأئمة تصل لمدى اوسع في تاريخ المعتقدات بدل الإستهانة بعقول المؤمنين برسالة الأئمة فهم بلا شك اطهار ونالوا الاعتزاز لوجودهم اكثر لولا زج تاريخهم الرسالي بخرافات لا وجود لها في عقيدة العصمة التي غلفت تاريخهم الديني بالغموض والخيال الهادم للعقل. كيف يجوز ان يكون للحسن بن علي ولد مع اسناده وصيته في مرضه الذي توفى فيه الى والدته المسماة بحديث المكناة بام الحسن بوقوفه وصدقاته واسند اليها النظر في ذلك ولو كان له ولد لذكره في الوصية ” (26) اننا امام قرائن تاريخية طرحت وتبقى تطرح نفسها، ان ولادة المهدي المنتظر في الاعراف الدينية لا وجود لها بحسب التاريخ العملي للاديان لقد عانى الانبياء ونشروا رسالاتهم في تحدي الظروف لكن حققوا الهدف، فما هو عمل المهدي المنتظر؟ وقد اشار القرآن الى اتمام الدين وانجاز رسالته ” اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ” فما معنى ان اكمل لهم الدين ورضى الله عنه واتم على المؤمنين نعمته، عليهم ثم يعود هذا الدين للفسق والفجور تارة اخرى؟ عودة الأمة للكفر والظلم بمعنى ان رسالة محمد لم تتحقق لأن النهاية حكمت بفشل هذا الدين وليس امامه إلا طفل صغير اختفى يعيد للأمة ايمانها بالله، اذا كان حقاً هذا المهدي قد قام، واعاد استقامة الدين كما كان، فما اهمية الجنة والنار في ظل الإمام العادل الذي قاد الأمة لطريق الرشاد؟ بهذا الاعتبار ستسقط الكثير من السور القرآنية وتصبح بلا معنى ذلك ان فلاح الأمر تم على يد هذا المنتظر، ازال عنا عذاب النار والغى ثنائية الله في جنته وناره. انها حقاً مهزلة عقلية تدور حول هدف درامي اسقط من حساباته كل جهاد الأنبياء، وجعلها في مرمى الخيال المعتم فلا عقيدة راسخة يقينية ولا ادلة تاريخية قدمت لنا برهان الوجود وقد زاد من مأساة تلك المحنة اننا امام بشر تقلبت فيهم معتقدات العصمة هم احوج العباد الى خوف الله. فاذا كانت رسالة محمد قد فشلت وقد ملأت الدنيا ظلماً وجوراً فلمن سيكون دور الإمام اذا كان نظام الكون في اخر الزمان قد استعد للقيامة؟
وكما استفاضت كتب التشيع في ترسيخ عقيدة العصمة، استفاضت كذلك في عقيدة الغيبة للمهدي المنتظر، اذا لم تكن هناك ادلة وجوده طفلا ، كيف كان وكيف ترعرع في كنف اهله ، كيف غاب او اختفى، ستكون هناك ملايين الكتب تطبع وتنفق ثم ترسل عبر القارات، او عبر مواقع الانترنت لترسيخ هذا الوهم في العقول اطول مدى ممكن فما قيمة ما نعتقد؟ هذه تجارة الإيمان ان تصدق فيما لا يصدّق وان تؤمن من حيث لا يوجد متسع للعقل غير اقناع الذات ان الوهم حقيقة وليس خيال. دار التقسيم الغريب لعوالم المعتقدات في غيبة الإمام الطفل الصغير والإمام الذي سيبدل اقدار الكون، فلا مرجع قرآني ولا تراث ديني غير احاديث منثورة ضعيفة، مهزوزة السند يعيش من خلالها اصحاب العقول المتعطشة للوهم. لقد تبرع آلاف الكتاب من اصحاب الفكر المتدين عن قصد او دون قصد في ترسيخ تجارة الوهم ان يبدعوا في تصنيف واختراع المصطلحات الدينية كي تجد لها قبولاً. كان لابد من مراجع التشيع ان يبدعوا في كتاباتهم بأقناع العقول ان لم يكن المهدي وحيدا من غاب في تاريخ العقائد اذ ” قد كان من غيبة موسى بن عمران من وطنه وهروبه من فرعون ورهطه ما نطق به القرآن، ولم يظفر به احد مدة من الزمان ولا عرفه بعينه حتى بعثه الله نبيا ودعا اليه فعرفه الولي والعدو ” (27) تاريخياً ثبت ان موسى اشتبك في معركة مع مصري دفاعاً عن يهودي، فلقي المصري مصرعه فدفن موسى الرجل المصري في الرمال، ادرك موسى خطورة فعلته فلابد ان فرعون سيعلم بما كان فأسرع بالفرار منتقلا الى تخوم مصر الشرقية، لقد عرف ان هناك شعب مدياني يقيم في صحراء سيناء، عاش هناك في مديان مع احد ابناء ابراهيم لصلة قرابته، سار اليهم، وخلال فترة اقامته دافع عن سبع بنات اتين ليستقين من ماء البئر لرعاة حاولوا طردهن، ثم عدن الى بيوتهن وقصصن لأبيهن ما كان. دعا كاهن مديان موسى وعرض عليه الإقامة عنده يعينه في القطيع فقبل موسى ثم تزوج من ابنته صفورة. حالة هروب موسى تختلف عن حالة اختفاء المهدي، كيف يمكن مقارنة هروب موسى باختفاء المهدي؟ فموسى عرفته مديان وعرف التاريخ موسى من خلال حياته وزواجه واستقراره خوفا من افتضاح امر قتله للمصري، وقد دون التاريخ افعاله، وعاش متزوجا وراعي اغنام، فما هي صلة الغيبة المشتركة بينهما؟ لقد اختفى المهدي طفلا وليس امامنا غير روايات تطلب منا الايمان بطفل لا وجود تاريخي له، ليس له سند ولا قرائن تثبت ادعاء وجوده الشخصي، ولم يشهد لوجوده احد، فكيف يمكن مقارنة هارب تزوج وأسس اسرة بمختف لم يدعم التاريخ وجوده؟
الأمر لم يكن في طبيعة الإيمان بالنصوص القرآنية التي لو تم الاقتداء بها لم تظهر لنا عقيدة الأئمة والعصمة، ولم تكن عقيدة اختفاء المهدي ان تستقر في العقول كل هذا الزمن ولكان توجه الإيمان بالكتاب والسنة ادعى لتوخي الحكمة في مسالك الإيمان السليم. فعلم الغيب على سبيل المثال لا مجال دينياً اعمال الفعل الخرافي مغطى بدوافع فلسفية، ذلك ان المعتقد الديني قد حدده ضمن ملكات الله الشخصية وصفاته التي لا يخترقها احد، فعلم الغيب إلهي فحسب، اما كون الحدس والرؤيا والتوقع فهي قنوات شخصية لا دخل للإله شريكا فيها بما يوحي لطبيعته البشرية. امامنا كم هائل من النصوص المتعارضة، بين النص الديني وتراث الفكر الشيعي للغيب وتفسيراته التي تتوسع في كل زمان تبعاً لخيال العقل في تفسير الإيمان. جاء في حديث الحسين بن علي بن ابي طالب عندما سؤل عن الغيب قال : ” ان الامام اذا شاء ان يعلم علم ” (28) ان مجمل النصوص القرآنية قدمت حقيقة الفكرة الإلهية هي ان الله لوحده عالم الغيب وان الانبياء لا يملكون من امرهم شيئاً وقد يقع لهم الخير والشر بلا علم مسبق لهم اي انهم كباقي العباد قد يتعرضون للمخاطر، والنسيان والخطأ، للسهو والزلل ” قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ” ان القرآن لا يؤيد عقيدة العصمة وليس هناك في كتب التراث الإسلامي ولا تاريخ الخلفاء الى بداية القرن الثالث للعصر العباسي عندما حلّ الفكر المعتزلي كعقيدة وفلسفة دينية، وقد تأثر بالفكر اليوناني الفلسفي في تجريد الفكرة الإلهية وتحويل كيانها بين الذات والجوهر، اي بين العالم المادي والروحاني، فهذا محمد في صريح نص الوحي الإلهي لم يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وإلا لكان قد ابتعد عن مصادر الخطر في حروبه اذ كاد ان يقتل في معركة احد.
ان التشريع الإسلامي صريح وحاسم في تفرد الله بعلمه الغيبي ” وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ” لا يوجد خط وسط في التشريع الإسلامي اما علم او دون علم، والعقيدة الإسلامية قد حسمت هذا الموقف، تلك المفاتيح ويقصد بها الاسرار الكونية تتركز بذاته العلية ” لا يعلمها إلا هو ” ان الأمر اقتبس حالة النفي القطعي في العديد من السور القرآنية ” فقل انما الغيب لله ” اي منع من ثبوت الغيب لأي احد. لكن الأنبياء والصالحين قربهم الله اليه بالحدس الروحاني والتنبؤ وبصدق الرؤيا، إلا ان هذه المزايا لا علاقة لها بعلم الغيب انما لطف إلهي يعيشه الزاهد في شفافية احساسه وتقربه الى الله ” لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ..” فهذه الرؤيا لا علاقة لها بالغيب. فلو كان الائمة يعلمون الغيب لعلموا علم الساعة ” ان الله عنده علم الساعة ” ان التجاوز على الذات الإلهية ليس من دلائل الإيمان المستقيم ولا علاقة لها بتقوى الله، ذلك ان حديث كقول جعفر الصادق في مناقب ابن شهر آشوب عن صفوان بن يحي ” والله لقد أعطينا علم الأولين والآخرين، فقال له رجل من أصحابه: جعلت فداك أعندكم علم الغيب؟ فقال له: إني لأعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ويحكم وسعوا صدوركم ولتبصر أعينكم ولتع قلوبكم فنحن حجة الله تعالى في خلقه، ولن يسع ذلك إلا صدر كل مؤمن قوي قوته كقوة جبال تهامة بإذن الله، والله لو أردت أن أحصي لكم كل حصاة عليها لأخبرتكم، وما من يوم ولا ليلة إلا والحصى يلد إيلاداً كما يلد هذا الخلق، ووالله لتباغضون بعدي حتى يأكل بعضكم بعضاً. (29) فكيف كان يعلم الغيب وما في اصلاب الرجال وارحام النساء وهذا الله قد تفرد في علمه ما في الأرحام كما ورد في سورة لقمان؟ ” ويعلم ما في الارحام ” .
انّ الأئمة تعرضوا للقتل وشرب السم مع علم ويقين منهم على ذلك، عانوا ظلمات الاعتقال. بل ان التراث الشيعي قد اشار ان كل الأئمة تعرضوا للمحن، هي انهم لم يعلموا ما جرى عليهم ولو علموا لم يقدموا انفسهم طوعا إلى التهلكة، ان التراث الشيعي نفسه ينفي صحيح الأخبار عندهم، فهذا جعفر الصادق يقول ” أيّ إمام لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير، فليس ذلك بحجّة الله على خلقه ” ان واقع التاريخ ينفي تعمد الإمام التقول فيما لا يقره التشريع، ولا يستطيع التنكر للنصوص القرآنية في ان عقيدة الغيب تخص الله لوحده دون سواه. وهذا الإمام الرضا كيف اجاب السائل الذي تملكته الاوهام والشكوك في حادثة الامام علي وقد عرف قاتله والليلة التي سيقتله فيها وان ابن ملجم قاتله بالسيف والموضع الذي سيقتل فيه وقوله لما سمع صياح الاوز في الدار : صوائح تتبعها نوائح ” (30) اي تنبأ انه ملاق ربه حين استقبلته الاوز بالصيحات فعلم ان النائحة عليه.
فهذه الاوصاف في سرد قتل الأئمة تركزت كلها في كتابات شيوخ الشيعة الذين ركزوا على اهمية الإمام وتميزه عن بقية العباد. كيف يقدم المعصوم على الموت وهو يعلم ذلك كما شرب الامام الرضا السم وذهب علي بن ابي طالب الى المسجد مع علمه انه سيقتل؟ وقتل الامام الحسن بالسم فلقد كان معاوية يضع السم في العسل فيقول : ” ان لله جنودا من عسل” وقد قيل ان زوجة الحسن جعدة بنت الاشعث قد دست له السم، فلو كان يعلم الغيب في موته لما جهز جيشا في مقاتلة معاوية ثم انكفأ على نفسه وتراجع وتنازل عن الخلافة؟ كان الاحرى به ان لا يتسلم الخلافة بعد مقتل والده وهو يعلم سيتنازل عن الخلافة وبموته القريب. ولو كان الرضا يعلم ما كان وما يكون الى يوم القيامة لماذا لم يخبرنا بموعد موته وكيف سيموت؟ ولو علم الحسين بن علي بمقتله في العراق في ارض كربلاء لما اصطحب معه اهله وترك مكة والمدينة وهو يعلم سيتم قتل اغلبهم معه، كان سبباً في تعرض اهله للقتل على يد طغاة بني امية. هذا الامر اعلى مراحل الكفر ان يتسبب في قتل الأبرياء وهو يعلم بمقتلهم قبل قتلهم فلو كان يعلم كان ذلك من القاء النفس في المهالك وهو امر محرم. لماذا صح القتل في كل اهل بيت النبي في مصادر الشيعة؟ فلو ابطلناه في احدهم لبطل في الجميع، اذ من الغرائب ان يقتل جميعهم ولهم من علم الغيب في اقدارهم ما لله في علمه وهذا كفر بعينه. هل المعصوم ناقل للاحاديث والتشريع عن النبي؟ نعم بحسب التاريخ الإسلامي، هكذا فعل الصحابة في نقل الاحاديث والتشريع، وكانوا في كل مكان مفسرين وعلماء وفقهاء مرسلون من النبي والخليفة، فما الذي سيميز المعصوم عن الصحابي؟ اذا كان علي بن ابي طالب معصوما في مكة يستفتوه في امر الدين والدنيا فمن سيكون معصوما في مصر والعراق والشام وغيرها من المدن الإسلامية عندما يحتاجوا التفاسير والفتاوي؟ فلا يمكن ان يكون موجودا في مكانين او اكثر في نفس الوقت، لهذا لابد من ينوب عنه وهذا الذي ينوب عنه غير معصوم، بما يعني ان دور المعصوم قد حل محله غير المعصوم. هل علي مشرّع ام ناقل عن النبي؟ كان علي ناقل عن النبي، يستشهد بأحاديث النبي مرجعا له، اي كان ناقلا للأحاديث والتشريع عن النبي. تبين في صريح النص القرآني ” ... فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ” اي ليتعلموا ما انزل الله على نبيهم كان يبعث السرايا ليتفقهوا في الدين، فلم يذكر يبعث اماما معصوما ليتفقهوا في الدين.
ان الله لم يلغ الطبيعة البشرية في علاقتها به، تعامل بما يكون في وجودها البشري وفي طاقاتها، يبقى النبي ومن ينوب عنه من الصالحين بشر تعامل الله معهم على اساس بشريتهم فعندما قال ” ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ” بحسب ابن عباس في تفسير القرطبي ” نسي بمعنى النسيان والسهو ” وبحسب تفسير الطبري ” ولقد عهدنا الى ” اي وصينا آدم وقلنا له ... وخالف امري فحل به من عقوبتي ” ان مجرد التأمل في النص يكشف لنا ان علاقة الله بالبشر وحتى في الملأ الأعلى في الحيز الروحاني بقي آدم على طبيعته البشرية معرضاً للنسيان والزلل وفقدان القدرة على كمال الطاعة وهذي كلها صفات بشرية ليس بمقدور الإنسان التجرد عنها وقد ”عصى آدم ربه فغوى ” والغواية تعني في قاموس اللغة العربية ضال منقاد للهوى، عرفته رجلا غوياً بمعنى عرفته رجلاً ظالما وممعناً في الضلال ” غواه الشيطان اي اضله واغراه ” فهذه كلها صفات تنم عن ضعف الطبيعة البشرية لهذا ميز الله آدم عن محمد ” ما ضل صاحبكم وما غوى ” اي ان محمدا لم يكن ضالاً ولا انقاد لهواه ” من هنا نفهم ان النص القرآني عاقب آدم على ضعف طبيعته البشرية حتى ان آدم اعترف بذنبه اذ قال : ” رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ” فلو كان آدم معصوماً وبلا ذنب لماذا اقر بذنبه؟ وهذا النبي موسى ” قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي” لقد اعترف بذنبه، وطلب المغفرة اذ بدونها لا ينال رضى الله عنه، فعفا الله عنه. لماذا قدم الله هذه الأمثلة لأنبيائه، فلو كان يرى فيهم العصمة وكمال الاوصاف بلا ذنوب لم يسرد لنا نقص طبيعتهم البشرية لكنهم بشر وهذه طبيعة البشر. كذلك النبي سليمان ” فاستغفر ربه وخرّ راكعا واناب ” اي سجد لله وعاد الى رضى ربه وتاب عن خطيئته، اذا كان سليمان يرى نفسه معصوماً لا يخر ساجدا ولا ينال الرضى ذلك ان عصمته تغنيه الخوف من عدم نيل رضى الله، لكنه سجد وطلب الرضى فقد اخطأ اذ لم يكن معصوماً. امر الله نبيه موسى ان يطلب الغفران لذنبه ” واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك ” بحسب تفسير الطبري ” اسأله غفران ذنوبك وعفوه لك عنه ” فهذه العلاقة بين الله وانبيائه قد كشفها القرآن لم تظهر عصمة انبيائه بقدر ما كشف عن سيئات افعالهم وجنوحهم للخطأ وتقبل الله غفران ذنوبهم. لم يخف الله تاريخ انبيائه حتى قبل تسلم رسالاتهم السماوية، فهذا محمد ” الم يجدك ضالا فهدى ” بحسب تفسير القرطبي ” اي غافلا عما يراد بك لم تكن تدري القرآن الشرائع ... فهداك الله الى القرآن ” فهذا الضلال وفيه طريق الهدي من الله كشف عدم كمال النبي ونقص عصمته فهو بشر معرض للتوجيه والتنبيه والنقد كي يكون اقرب كمالا الى الله، لم يكن محمد قبل البعثة مهتدياً معصوماً بينما العصمة تبدأ عند المعصوم من الولادة.
تكشف سورة التوبة نقص خبرة محمد في اخلاقيات من سمح لهم التخلف عنه : ”عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ “ عاتب الله محمدا بتسرعه في عدم التأكد من صدق او عدم صدق الآخرين، فقد توجه في حربه بغزوة تبوك، لم يكن تصرفا حكيما، جهل محمد ونقص معرفته بأحوال الناس تعني نقص عصمته بأحوال افعاله في معرفة حقائق الناس، عكست هذه الطبيعة البشرية عدم كمالها وحاجتها للتوجيه الإلهي، فلو كان محمد معصوما هل يحتاج الله الى ارشاده؟ لماذا لم يستثن الله اهله المعصومين كطبقة متميزة ماداموا يحملون صفاته التي فاقت قدرات البشر العادي؟ لما نصّ في آياته كل البشر وحتى انبيائه ” وما اصابك من حسنة فمن الله وما اصابك من سيئة فمن نفسك ” لماذا خصّ بها كل البشر، هذا النص قرأه كل العابدين لله من آدم الى الحسن العسكري والى اختفاء المهدي الموعود ولم يحتجوا عليها في انها لا تخصهم، لكنهم صلوا وصاموا وحجوا البيت وخشعوا وبكوا خوفاً من الله، حتى ان محمداً قرأ ما نطق عنه الوحي ” وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحي ” لماذا لم يحتج محمد على كلام الله ويدافع عن عصمته في ان كلامه مطلق الكمال والعصمة بوحي او دون وحي؟ لماذا خص الله محمدا ان كلامه الموحى فقط فيه العصمة من الله؟ ذلك لأن محمدا بشر قد يصيبه النسيان والسهو فيتملكه الهوى في الكلام غير الموحي اليه.
هل النبي محمد معصوم حقاً؟ ليس بحسب سورة الحج. ” وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ” يقول ابن عباس في تفسير ابن كثير، ”اذا تمنى” بمعنى اذا قال. ” القى الشيطان في امنيته ” اي اذا حدّث القى الشيطان في حديثه. اي ان الشيطان يلقي على لسانه ما لم يقله الوحي. الشيطان يتغلغل لحظة تلقي النبي لكلام الوحي. اين العصمة في ذلك اذا كان النبي لم يعرف التفريق بين كلام الوحي وكلام الشيطان، فاختلط سجع الشيطان بكلام الوحي. اذا كان النبي غير معصوم من تسلط الشيطان عليه متى سيكون في مقدوره ان يعصم نفسه؟ بينما العصمة حماية الإمام لنفسه من كل سلطان غير الله. فأين عصمة الله المضمونه لرسوله؟ اذا كان هذا حال انبيائه فكيف سيكون حال الذين سجدوا وصاروا مسلمين من خلال دعوة ونبوة محمد؟ هل وقف الأمر عند هذا الحد؟ ليس بحسب سورة يوسف ” فأنساه الشيطان ذكر ربه ” اين عصمة النبي يوسف فقد قاده الشيطان الى قطع صلته الروحانية بخالقه فنسي ذكر الله، فهل بعد نسيان ذكره لله نؤمن بعصمة النبي يوسف؟ فالعصمة في العقيدة الشيعية لا تجيز للإمام النسيان والسهو. وهذا النبي ايوب هو الأخر انتقصته العصمة ” واذكر عبدنا ايوب اذ نادى ربه اني مسني الشيطان بنصب وعذاب ” بحسب تفسير القرطبي، النصب الشر، البلاء، التعب والإعياء، قيل إن النصب ما أصابه في بدنه، والعذاب ما أصابه في ماله. ان سبب شكوى النبي ايوب قوة تأثير الشيطان عليه والتحكم بحياته الشخصية، فهذا النبي المعصوم في العقيدة الشيعية ذكره الله في محكم كتابه ووصفه بالخاضع لشرور الشيطان وابتلائه، بعذابه ومعاناته، فلو كان معصوماً حقاً كيف تمكن الشيطان منه وقد طالب العون من الله ان ينقذه منه؟ الأمر لا يخص ابتلاء الله لأيوب لفقدان عصمته، انما هي مشيئة الله التي يتعرض لها الخلق في نظام حياتهم، مشيئة لا تفرق بين نبي وإمام، بين صالح وكافر، فكل العباد غير معصومين امام المشيئة الإلهية. في اية حالة يضع الايمان بالعصمة اولئك الذين يتمسكون بها؟ انها تضعهم في حالة لا علاقة لها بالإيمان الصحيح لفهم الطبيعة الإلهية عندما يضعوا البشر في موضع مقارنة مع الله، هي عقيدة لا تنسجم مع مصالح الله في خلقه، انها تسئ على نحو شديد تمثيل الإله الحقيقي ولا مع الحق المكتوب في كلمة الله، فاي ايمان ينسجم ذلك الذي يشرك عباد الله في قدراته وصفاته، ام ذلك الذي يؤمن ان الله لوحده القادر على كل شي والعالم بكل شئ، ازلي الوجود، فرد لا يماثله شئ في صفاته وافعاله؟ ان من يريد الحق يبحث عن كلمة الحق في كتاب الله، فالشرائع في التنزيه لا في التشبيه. نستنتج من كل ذلك ان القرائن القرآنية قاطعة الدلالة تقطع في نفي عقيدة العصمة.
كتب علي بن ابي طالب رسالته الى اهل الكوفه: ” أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي خَرَجْتُ مِنْ حَيِّيٍ هذَا : إِمَّا ظَالِماً، وَإِمَّا مَظْلُوماً، وَإِمِّا بَاغِياً، وَإِمَّا مَبْغِيّاً عَلَيْهِ. وَأني أُذَكِّرُ اللهِ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هذَا لَمَّا نَفَرَ إِلَىَّ، فَإِنْ كُنْتُ مُحْسِناً أعَانَنِي، وَإِنْ كُنْتُ مُسْيئاً استَعْتَبَنِي.” (31) اقرّ قضاء الله وقدره عليه، في نفي علمه بالغيب ولا باقدار خروجه من الكوفة في طريقه للبصرة، فلم يعرف ما سيواجهه في الطريق وما قذّر الله عليه، لم يعلم ان كان سينال نصيب الظالم او المظلوم، نصيب الباغي او المبغي عليه، فلو كان يعلم الغيب لعرف ان كان ظالما او مظلوماً، ولكان قد اقرّ بعلمه ما يصبو اليه وكيف ستكون رحلته للبصرة، لكنه كعبد متواضع خاف الله لا علم له بعوالم الغيب ومسالك الاقدار ، فهل من يعلم الغيب يدعي الجهل بما اعطاه الله من النعم؟ فأية قرينة تنسجم مع رسالة علي لأهل الكوفة تلك الرحلة التي لا يعلم مصيره فيها ولا كيف سيقدر الله امره فيه ام تلك التي ترى علياً يعلم ما كان وما يكون؟ اسند الكليني عن سيف التمار عن ابي عبدالله الحسين ” ... لو كنت بين موسى والخضر عليهما السلام لأخبرتهما اني اعلم منهما ولأنبئتهما بما ليس في ايديهما لأن موسى والخضر اعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة ” (32) فلو كان الحسين بن علي يعلم الغيب لماذا صدّق رسائل اهل العراق وارسل ابن عمه مسلم بن عقيل حتى يستطلع الامر ويتعرف على حقيقة الواقع؟ فصدّق امرهم وسلك الطريق اليهم وعندما وصل الكوفة عرف يزيد بن معاوية بأمره فأمر بقتله ومن معه من اطفال ونساء، فهل دلّ ذلك على علمه بالغيب؟
تاريخياً عند استقراء عقيدة العصمة ينبغي ان نستنتج ان القرآن وتاريخ الانبياء لم تؤيدان عقيدة الغيب فلم يكن لها وجود في القرون الثلاثة الأولى للإسلام، ولم تنل اجماع المسلمين وقتئذٍ. ولم يعرفها الصحابة الاولون ولا التابعون. لماذا لم تنسجم هذه العقيدة مع : ” السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ” لماذا لم يؤسس الله عقيدة العصمة في الذين رضى عنهم ورضوا عنه وهم من اسس الإسلام، ان من يبحث عن كلمة الله لا يحاول ان يجد في النص الديني فقرة تتناسب بما يؤمن به آملاً ان يجد آية يمكنه تأويلها بما يلائم ما يؤمن به، فلو كانت عقيدة العصمة من اصول الدين لكانت قد برهنت على وجودها العقائدي في الكتاب والسنة، ولكان قد نادى بها ودونت في احاديثهم وتراثهم الإسلامي.
فتلك النصوص في مصادر كتاب الكافي للكليني، بحار الأنوار للمجلسي، مستدرك الوسائل للطبرسي، الوسائل للحر العاملي، وغيرها فجميعها متأخرة تناولت الاحاديث عن طريق السند والروايات التي افتقدت الى توثيق السجل التاريخي فترة زادت عن احد عشر قرناً، حتى الكتب التي تم فيها تدوين تلك الروايات والأحاديث لم توجد إلا في القرون المتأخرة فلو صحت تلك الكتب لتم ربطها بتاريخ السند في عهد النبي محمد واصحابه والتابعين. هل نريد حقاً علاقة مقبولة مع الله؟ ان اول علاقة طبيعية بين الخالق والمخلوق ان نرفع شأن الله ونصون صفاته التي لا يدانيها احد من عباده. هل كان الأيمان بعصمة الأئمة في القرون الثلاثة الاولى شائعا ومعروفا عند العامة وهل الشيعة كانوا يعتقدون ان الأئمة معصومين؟ اي من 11 للهجرة الى 328 هجرية اي الى الغيبة الصغرى للامام المهدي، هل كان الإيمان بالعصمة عقيدة لها وجودها في شيعة الأئمة؟ ليس بحسب الشهيد الثاني احد اكبر فقهاء الشيعة ” على ما يظهر من حال رواتهم ومعاصريهم من شيعتهم في أحاديثهم عليهم السلام، فإن كثيرا منهم ما كانوا يعتقدون عصمتهم لخفائها عليهم، بل كانوا يعتقدون أنهم علماء أبرار ، يعرف ذلك من تتبع سيرهم وأحاديثهم ... ” (33) بدى الحديث عنها انها تطورت تاريخيا ووصلت اوجها العقائدي في الدولة الصفوية، التي اتخذت من نهج السلالة النبوية مصدرا مقدسا للتطهر ووصلت بها الى درجة الكمال والفيض الإلهي. لقد ساد التقليد الديني في عصر صدر الإسلام اخذ الدين من العلماء، فكما اخذ المسلمون من ابو حنيفة اخذوا من جعفر الصادق وكلاهما عالم.
لقد بات واضحا ان الإيمان لم يشترط عصمة الأئمة بدليل ان كل هؤلاء لم يعتقدوا بعصمتهم لهذا كان الرأي بالأئمة ” لم يمنع ان يكون كذلك في العصر المتقدم وقد حكى جدي العلامة – قدس سره – في كتاب الايمان والكفر – طاب ثراه – انه احتمل في الايمان بالتصديق بإمامة الأئمة – عليهم السلام - والاعتقاد بفرض طاعتهم، وان خلا عن التصديق بالعصمة عن الخطأ وادعى ان ذلك هو الذي يظهر من جل رواياتهم وشيعتهم فانهم كانوا يعتقدون انهم ... علماء ابرار ، افترض الله طاعتهم مع عدم اعتقادهم العصمة فيهم ” (34)
اشار مرتضى الانصاري، رجل دين، فقيه ومرجع ديني اثني عشري اصولي، من كبار علماء الشيعة في القرن الثالث عشر، حتى لقب بخاتم الفقهاء والمجتهدين، ان شرط الإيمان ” ... يكفي في معرفة النبي ... معرفة شخصه بالنسب المعروف المختصّ به، والتصديق بنبوّته وصدقه ، فلا يعتبر في ذلك الاعتقاد بعصمته، أعني كونه معصوما بالملكة من أوّل عمره إلى آخره” (35) فما الذي يكفي معرفته عن الأئمة؟ لقد ذهب جلّ علماء الإسلام ومن بينهم الشيخ مرتضى الأنصاري ان الايمان بالأئمة يتركز في ” ... معرفتهم بنسبهم المعروف والتصديق بأنهم يهدون بالحق، ويجب الأنقياد اليهم والأخذ منهم وفي وجوب الزائد على ما ذكر من عصمتهم الوجهان ” (36)
ان حق الإمام تمثل بمعرفة كونه اماماً مفترض الطاعة. اي ان الشيخ الأنصاري لم يقر العصمة عن الإمام اذ لم تكن من فرائض الأيمان، ذلك ان عدم قيام الدليل على عصمة الأئمة لم يخرج المسلم من الإيمان فلم يشترط تحقق الإيمان بالعصمة. ان انكار العصمة لا يخرج المسلم من التشيع. لقد تم تهويل امر انكار العصمة بخروج المسلم عن الإيمان وبتكفيره. اننا بحاجة ماسة الى فهم الإسلام بشكله الحقيقي الذي وصلنا عن طريق السلف الصالح فهم قدوتنا في الإيمان السليم، لقد اثبت كل علماء الإسلام ان العصمة فقدت دليل وجودها في الكتاب والسنة، فلا يجوز الركون لها كعقيدة دينية تفرق المسلمين شيعة وسنة، لابد ان تتوحد عقيدة الإيمان وتجمع شمل المذاهب الإسلامية لعقيدة واحدة لانها ستكون مصدر قوتهم لا تفرقهم، ان الله يريد للأمة ان لا يتفرق شملها، جمعاً للكلمة ورأباً للصدع. ان الفكرة الإجمالية السائدة لدى علماء وفقهاء الإسلام، ان التشيع كذلك بحسب الشهيد الثاني، بحر العلوم، مرتضى الانصاري، ليس شرطاً للعصمة. سألت عائشة محمدا في حديث نقرأه في مصادر الشيعة ” لماذا تقوم الليل وتصوم النهار فكان رده ” افلا اكون عبدا شكورا ” لماذا لم يعلن عصمته وانه يصلي طوعا وليس خوفا؟ فالمعصوم ناج بذاته من العبودية فلا حساب عليه ولا رقيب، لكن محمدا اعلن عبوديته لله. العبودية نقص الذات والعصمة كمال الذات، لهذا لم تقدم لنا تعاليم الشرع كمال الذات ازاء الذات الإلهية بل ساوى بين عباده بلا تمييز. العبادة والخوف من الله قياس العبد في نيل رضى ربه، هكذا فعل الأئمة بخوفهم من الله، بصلاتهم، وبعرفانهم، لان المعصوم الوحيد في الكون هو الله فقط. معصوم في كمال ذاته وفي اتساع ملكوته وقدراته هو الباقي رغم زوال نظام الكون.

مصادر البحث :

1 - نهج البلاغة ص 335 .
2 - نهج اليلاغة ص 104
3 - بحار الانوار 203/25
4 - تثبيت دلائل النبوة 179/1
5 - صحيح الادب المفرد، صفحة او رقم 860 ، اخرجه البخاري في الادب المفرد بحديث 1130 واصله في صحيح البخاري 4447 .
6 – نهج البلاغة، ج 2 ص 184 ، طبعة دار بيروت.
7 – بحار الانوار – العلامة المجلسي – ج 39 ص 259
8 - كتاب الخطوط العريضة ص 12 . السيد محب الدين الخطيب، مختصر التحفة ص 31، مجلة الفتح العدد 842 ص 9 .
9 - اصول الكافي 228/1
10 - نهج البلاغة – ص 335 مصدر سابق.
11 - دونلدسن/ عقيدة الشيعة: (ص329)، محمود صبحي/ نظرية الإمامة: (ص134(
12 - بحار الانوار ج 25 ص 350 - باب نفي السهو عنهم عليهم السلام.
13 - بحار الانوار للمجلسي ج 25 ص 350 - 351
14 - المفيد/ النكت الاعتقادية: (ص33-34)، تصحيح الاعتقاد: (ص106)، الجيلاني/ توفيق التطبيق: (ص16 (
15 - بحار الأنوار: 25/351
16- إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، الفاضل السيّوري، ص: 304.
17 - اصول الكافي 197/1 .
18 - انظر: ابن المطهر/ كشف المراد: (ص390-391)، انظر: نهج المسترشدين: (ص63)، انظر: الألفين: (ص56) وما بعدها، القزويني/ الشيعة في عقائدهم: (ص368-369)، الزنجاني/ عقائد الإمامية: (ص77)، هاشم معروف الحسيني/ أصول التشيع: (ص131-132 (
19 - ” الإرشاد" ص345 "إعلام الورى" ص380.
20 - عن مقال ”علم الائمة عليهم السلام بالغيب ”
21 – بحار الانوار – العلامة المجلسي – ج 29 مقدمة المحقق 27 .
22 – تفضيل الأئمة على الانبياء والملائكة – الشيخ عزالديزائي محمد الحسن بن سليمان الحلي- ص 286 مكتبة العلامة المجلسي – قم ، شارع فاطمي ، طبعة اولى.
23 - نفس المصدر السابق - ص 287
24 – كتاب الكافي – محمد بن يعقوب الكليني – ص 288 .
25 – تفضيل الأئمة على الانبياء والملائكة – ص 415 .
26 - كتاب الغيبة - ص 75 - ابو جعفر محمد الطوسي – مكتبة نينوى الحديثة – طهران .
27 – كتاب الغيبة - ص 77 - ابو جعفر محمد الطوسي – مكتبة نينوى الحديثة – طهران.
28 – الكافي للكليني - الجزء 1 ص 258 .
29 – بحار الانوار للعلامة المجلسي – ج 26 ص 27
30 – بحار الانوار للعلامة المجلسي - ج 42 ص 246
31 – تهج البلاغة – الرسالة 57 الى اهل الكوفة. ج 3 ص 114 .
32 - أصول الكافي 1 / 261
33- حقائق الايمان – الشهيد الثاني – ص 150 – 151 . الشيخ الشهيد زين الدين بن الشيخ نور الدين. مطبعة سيد الشهداء – قم المقدسة.
34 - رجال السيد بحر العلوم - محمد مهدي بحر العلوم – ج 3 ص 219 ، طبعة اولى عام 1966 – مطبعة الآداب، النجف الاشرف.
35 - فرائد الاصول – الشيخ مرتضى الانصاري – الجزء الاول ص 565 .
36 - فرائد الاصول – الشيخ مرتضى الانصاري – الجزء الاول ص 567








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحليل شافي وكافي لتبيان الحقيقة!!!
سمير أل طوق البحراني ( 2023 / 6 / 9 - 06:31 )
اشكرك جزيل الشكر على هذا الجهد الذي بدلته في تعريف الحقيقة حول التبوة والامامة والعصمة التي حشوا ادمغتنا بها لاغراض سياسية لا غير واليك في حكم ايران اكبر دليل بالادعاء ان ولاية الفقيه كولاية الامام وانه ينوب عنه مع الاعتراف بان الامام معصوم (كما يدعون ) والفقيه لا يختلف عن غير ه في شيء الا في الطقوس العبادية التي لا حاجة لفقيه لها لان الرسالات العملية موجودة فبل مئات السنين والعلوم الحديثة بكل فروعها كفيلة لتيسير شئون الحياة لان كل ما ينفع البشر فهو حلال وكل ما يضرهم فهو حرام سوى كان تشريعا دستوريا حديثا او تكنلوجيا.وبهذه المناسبة اقدم جزيل الشكر والامتنان للاخ احمد الكاتب على كتابه الموسوم بـ(ا لإمام المهدي حقيقة تاريخية؟... أم فرضية فلسفية؟ ) الذي اثبت فيه خرافة المهدي الموجود بيننا بالدليل والبرهان كما اشكره على البيان الشبعي الني نفى فيه العصمة والامامة الالاهية للائمة الاحدا عش على الرابط الآتي:ايها المسلمون اتحدوا....
http://hr2believe.blogspot.com/
شكر لك.

اخر الافلام

.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah


.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في




.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج