الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياسة الترويض

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2023 / 6 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الجريمة والعقال
٤ - العصا لمن عصى

بعد هذا الوصف السريع لكل هذا العنف والمجازر والدماء والرؤوس التي تتطاير والجثث المتناثرة في شوارع العالم أو المكومة في المقابر الجماعية، لابد من القول، حتى لا يسيء فهمنا بعض القراء، بأن القتل والإغتيال والعنف عموما هي ظواهر ثقافية مكتسبة من المجتمع ومن الإختيارات الشخصية لكل فرد ولكل جماعة، وليست "طبيعة" أو "فطرة" إنسانية تتوارثها الأجيال. إنها إختيارات مؤقتة تمليها الظروف والمصالح السياسية والإقتصادية لكل فرد. ولا يجب أن ننسى أن البشر الذين يلجأون إلى القتل هم قلة قليلة قد لا تتجاوز الواحد في المئة من مجموع سكان الكرة الأرضية بما في ذلك القتلة المحترفين كالجيوش والفرق العسكرية بكل أطيافها. وذلك يعني أننا نتعلم القتل والعنف ونتدرب عليه تدريجيا حتى يكاد يصبح طبيعيا. ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسية في تعود الإنسان على العنف يرجع بكل تأكيد للمجتمع ذاته والطريقة التي يمارسها في التربية وفي تشكيل سلوك المواطن. فسياسة "العصا لمن عصى" التي نمارسها في مجتمعاتنا المتخلفة، هي ذاتها سياسة التوراة والأديان السماوية " السن بالسن والعين بالعين"، بمعنى "العقاب" لمن انحرف عن الصراط المستقيم، وما أدراك ما هو الصراط المستقيم؟ إنه الصراط الذي رسمه أصحاب الجاه والسلطة وأولياء الأمور الذين يعرفون ما يصلح للآخرين أكثر من الآخرين أنفسهم .. إن معاقبة الطفل بالضرب أو بحرمانه من قطعة الحلوى هي الخطوة الأولى في رحلة العنف والإرهاب التي توصلنا في نهاية المطاف إلى مملكة الجماجم و الجزيرة المحاطة ببحار من الدماء. فالعقاب الذي يمارسه البعض كوسيلة عامة للتوجيه وفبركة الإنسان المستقيم اثر ظهور سلوك غير مرغوب لتقليل احتمال حدوث السلوك في المستقبل في المواقف المماثلة، هي سياسة تقود مباشرة إلى هاوية العنف، وتعتبر الحجر الأساسي لبناء عقلية مرتبكة قائمة على الخوف من الآخر ومن السلطة ومن الذات. بالإضافة إلى عدم فعالية هذه السياسة التقويمية حيث يؤدي العقاب عادة إلى تنمية إستراتيجيات متعددة لتجنب العقاب مثل الكذب والخداع وغيرها من حيل التجنب والهروب. ويؤدي العقاب كذلك إلى خمود وضمور عام في سلوكيات المعاقب عموما وتنمي فيه ظاهرة السلبية وعدم الإهتمام، وينتقل إنتفاء السلوك غير المرغوب وإختفاءه إلى إختفاء النشاط السلوكي عموما وغياب روح المبادرة التي هي مفتاح العلاقات الإجتماعية، بالإضافة إلى أن نتائج العقاب تكون مؤقتة ووهمية وغير مضمونة النتائج ولذلك يجب مواصلة العقاب مرة وثانية وثالثة .. إلى ما لا نهاية. ورغم تطور المجتمعات الحديثة والتقدم العلمي الهائل، إلا أن فكرة العقاب ما تزال متعمقة ومتجذرة في المجتمع "فلم تعد العقوبة لدى المدارس العقابية الحديثة مجرّد وسيلة انتقام أو تكفير، بل أصبحت أداة اجتماعية، لتحقيق أمن المجتمع واستقراره والمحافظة على نظمه السياسية، ودفاعاً عن قيمه المعنوية. بالإضافة إلى إصلاح، وتأهيل الجاني، أو المنحرف عن النظم القانونية والاجتماعية لإعادته إلى المجتمع فرداً صالحاً ومنسجماً مع متطلبات المواطنة كما يحددها القانون". ولا بد هنا من التأكيد على أن العقاب في حد ذاته هو نتيجة لفكرة أخرى أكثر خطورة وأكثر ضراوة، وهي فكرة "الإنحراف" و"الشذوذ" عن القيم والمباديء الإجتماعية المتعارف عليها. ولذلك تتكاثف جميع مؤسسات المجتمع بداية من الأسرة والمدرسة والمسجد وأجهزة الإعلام المختلفة وكل مؤسسات الدولة لتلقين المواطن هذه المباديء وحقنها في عروقه ليل نهار ليصبح فرداً صالحاً ومنسجماً مع متطلبات المواطنة كما يحددها المجتمع والقانون، و"العقاب" هو الوصفة السحرية المستوحاة من الخرافات الدينية القادرة على تقويم كل إعوجاج أو إنحراف عن الخط المستقيم. ويشترك في هذه المهزلة العديد من المؤسسات العلمية ومراكز البحوث النفسية والإجتماعية التي لا تكف عن توليد النظريات والتجارب المختلفة لإيجاد أحسن وأنسب وسيلة لخلق الإنسان المعتدل والمناسب للقالب الفكري والإجتماعي والسلوكي الجاهز منذ عدة قرون والذي لا يخالف ولا ينحرف قيد شعرة عما تعود عليه الآباء والأجداد. فهم يعتقدون بأن الإنسان مثل حيوان السيرك يمكن ترويضه وتدريبه ليقفز من خلال العجلة النارية الملتهبة متى شاء المدرب، ويقف على قدمين أو يتمرغ في تراب الحلبة متى سمع طرقعة السوط. والمقولة الأخرى التي يستند عليها مروجوا فكرة العقاب هي هذه "القيم المعنوية والنظم القانونية والاجتماعية" التي لا يجب الإنحراف عنها أو نسيانها. وهذه القيم المعنوية والأخلاقية هي منظومات فكرية وأخلاقية وقانونية، تتطور وتتغير من زمن لآخر في المجتمعات "المفتوحة" والقابلة لمثل هذه التحولات التي يمليها تطور البنية الإقتصادية والفكرية والثقافية للمجتمع. كما تم أخيرا في فرنسا وفي بعض المجتمعات الأوربية قبلها بقبول فكرة المثلية الجنسية قبولا كاملا، وأصبح للمثليين الحق في الزواج مثل غيرهم من المواطنين والمواطنات، رغم وجود شريحة واسعة من المواطنين المتديينين وذوي الأفكار الرجعية الذين وقفوا ضد هذه الحقوق، مدافعين عن قيم توراتية من زمن آخر. بينما في المجتمعات "المغلقة" أي المجتمعات الدينية، فإن عدم التغيير والدوام والإستمرار في اجترار قيم السالفين وتقليدهم حتى في اللباس وحلاقة اللحية، هو الأساس الذي قامت عليه هذه الأديان، وبالتالي استحالة تغيير قيم ومباديء هذه المجتمعات، لأنها قيم إلهيه ثابثة ومثبتة في النصوص الإلهية التي لاتتغير ولا تتبدل حتى يوم القيامة، إلا بالخروج من دائرة الله وفصل الدين فصلا نهائيا وكاملا عن الحياة الإجتماعية والسياسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله