الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دردشة فكرية مع الفيلسوف إدريس هاني: عن بعض شواغل الفكر ومَطَبات الواقع

فؤاد بلحسن الخميسي
كاتب وباحث

(Belahcen Fouad)

2023 / 6 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


على هامش زيارتي للمعرض الدولي للكتاب في دورته 28 بالعاصمة الرباط في الرابع من يونيو ‏الجاري، كان لي، بشارع محمد الخامس، موعد مع الفيلسوف إدريس هاني. الفيلسوف ‏المغربي الذي يَشُق طريقه، في الفكر والنقد الأيديولوجي والفلسفة، بإرادة نيتشوية صلبة، ‏عابِرا آفاقَ ثقافية واسعة برُغم الحصار غير المرئي الذي يُحيطُ به على امتداد خريطة ‏سياسية عريضة ما تزال تتَغذى على منطق الغُلب ورُهاب الصوت المختلف حتى وإن كان ‏صوتا عاقلا ومعتدلا ومُبدعا.‏

من الكِتاب إلى الشعر إلى سورية
كانت بداية حديثنا عن دُور النشر والتوزيع وسقوطِها الدراماتيكي في أخلاقيات المهنة. فكان ‏التساؤل عن مدى جِدِّية خِدمة الكِتاب والثقافة من دون خِدمة الكاتب نفسه، وكيف أنَّ ‏بعض دور النشر والموزِّعين أمسوا "لصوصا" محترفين يتصيدون الكُتَّاب في كل زاوية. وعرَّجنا ‏على الشعر وصدور مجموعته الشعرية الأولى «أنين الحروف» ( دار الوطن، 2023) وتاريخ ‏مُعاقَرَته الشعر والشعراء ثم عَبرنا من الشعر إلى سورية.. ولم أتفاجأ بهذه النقلة. فالشعر ‏سورياً بالولادة والتبني، وبالشِّعر تزَيَّنت (ألم تكن سورية حُضنا دافئا وراعيا لكبار القوم: ‏الماغوط؛ النواب؛ درويش؛ القاسم؛ سعدي، قباني؛ الفرا؛ وغيرهم؟. وعلى حد قول هاني: ‏‏«كانت دمشق حافلة بِقَرابِين الشِّعر ونجومه».)، وعَبْرَه أيضا –أي عبر الشعر- عبَّرَت سورية ‏عن حُلمها وثَورتها، مِنَ العيش على شواغِل العُروبَة إلى العَمل من أَجل التحرُّر القَومِي، إلى ‏رَفدِ مشروع المقاومة ضد الكَيَان الغاصِب. لم يبتعد الشعر يوما عن سورية، ولا تخلت هي ‏عنْ جمالياته.‏
أطَـلْنا الحديث بشأن سورية؛ لأنها، ولابد، مُبتدأُ الكلام وختامَه في جغرافيا سياسية ‏تتشقلب بين إراداتٍ تتقاطع وتتصارع: إرادات تحريك خلايا الإرهاب وخطط تمزيق الخرائط ‏والنسيج الأهلي وبرامج تكريس السلطوية، مقابل إرادات صناعة الحرية والتحرر على أرضية ‏مشروع المقاومة والخروج من العَصر الأمريكي. وكان حديثه عن سورية حديثَ عاشقٍ عاقلٍ، ‏يستوعب شبكة المصالح والسياسة والثقافة في هذه البلاد. وإذا كان هاني ابن المغرب، فهو ‏أيضا ابن سورية عَيْشاً وعِشقاً. فلاَ عَجَب إذا وجدنا مجموعته الشعرية آنفة الذكر، تَرصدُ ‏مساحات لذاكرة المكان السوري. وهكذا، نَجد قصيدةَ «صباحُكم دمشق»، وكذا قصيدة ‏‏«خواطر دمشقية»، التي جاء مَطلَعها البهي: ‏
‏"يَنَام الليلُ ولا أنامْ
في زُقاق الذِكرى
تَوَرَّمَت قَدمَايْ
يَشرَبُنِي الحنينْ..."‏
وهنا أقول: لن يدافع عن سورية، الدولة والشعب، بصدقٍ إلا من أحبها بحق.‏

مخاطر على العقل الإنساني
أعادني حديثه بشأن متابعة الإعلام لماجَرَيات الملف السوري إلى لعبة تفخيخ العقول ‏وحَشْوِها بالأخبار الزائفة. فعلى امتداد عشر سنوات الأخيرة، عشنا على إيقاع صناعة الخبر ‏وتقديمه في لَبُوس الحقيقة لـمُستهلِك يَزدَرد "الحلوى" تِباعا لـمُجرد كون طُعمِها حلوٌ دون ‏التفات إلى قيمتها الغذائية! وسَخِرْنا وضحكنا من ألاعيب الميديالوجيا زمن التفاهة. وافق ‏شنٌّ طَبقه!: إعلام يليق بعقول تَـلْهَث خَلف الإثارة، يُضْنِيـهَا التأمل والبحث الشاق عن ‏الحقيقة والحكمة. أحداث وتفاصيل كثيرة في جُعبته بخصوص محنة سورية خلال عشرية ‏النار والمؤامرة. فمنذ اللحظات الأولى كان هنالك.. رَصدَتْ عينه، على المباشِر، ما لم ترصده ‏أكبر قنوات الإعلام التي تَوسَّلت بمُراسلين هُواة في نَقْل تفاصيل أحد أعْقَد الأزمات الدولية ‏خلال القرن 21. هنالك، احتَكَّ هو بالناس والضحايا والجرحى وعوائل القتلى والشوارع ‏والحارات أكثر مما فعل مراسلو الصُّدفة لدى الإعلام المُـــدَجج بالخديعة وإرادة الزيف ‏وصناعة القصة الـمُتَوَرِّمة. وفي كلامه، كان حب سورية هو القصة الحقيقية وسط كل ‏حطام القصص المتراكم على قارعة الضجيج، خليجيا مُتآمرا كان أم غَرْبيا مُصابا بإسهال ‏الدفاع البهلواني عن حقوق الإنسان. هل سيدافع المؤرخون باسْتِماتة عن حقيقةِ عشريةٍ ‏كانت فيها أكثر الأنظمة احتكارا للمال والسلطة والإعلام تُدافع عن الديمقراطية، بالموازاة مع ‏دفاع الدول الإمبريالية عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها!!!، أم أنهم سيُعيدون كتابة ‏سردية الإعلام المأجور؟‎!!!‎‏ ‏
قلت له: «لن يسبقوك ما دمت ابن الميدان؛ ولهذا ستبقى دائما تَتَقدمُهم بخطوات». ‏ألـمَحتُ هنا إلى أنه كان دائما حاضرا في زمنية «الربيع العربي» وقبله، في ساحات ومنصات ‏مصر والبحرين ولبنان والجزائر والعراق وسورية والجزائر وتركيا... ولي هنا أن أتساءل: كيف ‏يرى من دَأْبُه تحرير قصاصات إعلامية عن الحرب والسلم والنزاعات وهو لم يتحرك من ‏مكتبِه، ما لْم يشاهده من اختبر الساحات بالعين المجردة في خطوط النار والدم والعَرَق ‏والألم!؟. يومها، التقط إشارتي، فتَبسَّم مستَخِفا بهذا العصر الوضيع. ‏
‏*‏
رثاءُ جيلِ الكبار...‏
وفي ثنايا الحديث، وقف هاني على حَجْم الخسارة في وداع جيل الكبار، حاملي مشاريع الفكر ‏والنهضة والإصلاح والحداثة (الجابري، حنفي، أركون، أمين، مروة، تيزيني، وغيرهم من ‏الأحياء– أولئك الذين خصهم بأحد كُتبِه الملحمية «خرائط أيديولوجية ممزقة» [دار الانتشار ‏العربي، 2006/ 368 صفحة])، وفي مقابل هذه الخسارة، تأتي انطلاقة زمنية جيل المثقفين ‏مُحْترفِي التطاول على البلاتوهات الموجَّهة قبل أن يسْتَوفوا مُقومات ومواصفات الـمُفكِّر. ثم ‏أضحكني وهو يحكي لي كيف فَرَّ أحد "المثقفين" في مجلس من مجالس النخبة بعد أن طوَّقه ‏بأسئلةٍ جادة لا تسمح بـ"التقزقيز" أو التَّعالم...‏
لكنه إدريس هاني، مع ذلك، يَظل قَلقا بشأن المعارك الفكرية والسياسية التي يفتحها ‏المثقفون الزائفون، تلك المنظومة النخبوية التي تجمع الحَرافيش والصراصير، مِمَّن ترَبُّوا في ‏كنف الأضواء المغشوشة وتثقفوا على أخلاق العبيد. ففي زمن التفاهة -على حد قوله ‏- ‏أمسى مُتاحا للزامبي أن يحتل مكانة سقراط الحكيم. ‏
كيف لهؤلاء أن يعوا أخلاقيات الفرسان؟! ولكَم صَدمني حين حدَّثني عن أخلاق بعض ‏المثقفين، وبعثني إلى أن أتساءل: كيف يسمو في الفكر من تدانى في الإنسانية؟ إلهي.. إن ‏العيش في عالم بلا نُبل جحيم حقيقي؟!! دُلنا على ذاك الطريق الذي يُنقذنا من هذا الواقع ‏الذي ما فَتِـئ يزْوَرُ عن الذوق الرفيع؟!!‏

عن الإعلام
وعرَّجْنا إلى الإعلام وتوَسَّعنا. كيف لا نفعلُ والسياسة أمست في عُمقها مسألة إدارة ‏للمعلومة، خَلقاً وتخزينا وتدبيراً وتسويقاَ. بل قد أقول -ولو على سبيل السخرية- أنه في ‏العشر سنوات الأخيرة، خَلَق الإعلام من "الحقائق" أكثر مما فعل التاريخ!. وفي هذا الشأن، ‏سجَّل إدريس هاني امتعاضه من أغلب التجارب الإعلامية الرائدة على امتداد خريطة ‏المنطقة، عربيا ومغاربيا. خيبة أمل كبرى يحملها في خاطره اتجاه مشاريع إعلامية تَدَحرجت ‏في منحدر السفاسف والتسطيح والدعاية. نعى هاني الِمهنية في عالم الإعلام، ونبَّه، في أكثر ‏من المناسبة، إلى خطورة الأمر على العقل والحقيقة والمعرفة. فليس بثقافة "الـ ‏Buzz‏" تنهض ‏الأمم أو تتراكم المعارف. ‏
‏*‏
على خط المقاومة...‏
وفيلسوف المقاومة لابد من أن يستحضر مشروع المقاومة. وهنا يبتعد هاني ليس فقط عن ‏المتداول من الحديث، بل يبتعد أيضا عن خطاب المقاومة المكرور. ليست المقاومة عنده ‏‏"فَرعَنات" و"وَلْدَنات"، بل هي استراتيجية طويلة النفس وفكر متجدد ووعي بالوجود ‏واستحضار لدروس التاريخ وإتقان للَّعب في جغراسياسية مفتوحة ومتحركة (أفتح قوسا ‏لأقول إن كتابه «روح المقاومة وفلسفة الزمان» (دار الولاء، 2015) يعد كتابا غير مسبوق). ‏والمقاومة عنده التزام شامل على خط التحرير: لا يمكنك أن تكون تحرُّريا في هذا الركن من ‏العالم الثالث وأنت تدعم المشاريع الإمبريالية أو مشاريع التقسيم في ركن ثالثي آخر!‏
‏*‏
التسامي على الحرافيش ‏
على امتداد وقت الدَّردشة، سجَّلتُ كيف أنه لم ينطق بأي كلمة أو عبارة أو حتى إيحاء ذي ‏نفَس طائفي أو مذهبي أو قومي أو عنصري. ظلَّ كل تركيزه وانحصر قلقه على مصير الأمة ‏وانحراف نخبها بخاصة، ومصير الرشد البشري بعامة. حتى أنك تستطيع أن تقول أن الرجل ‏سما بنفسه عن الأحقاد الصغرى ليجعل من الزيف عدوه الأوحد والأهم. ‏
وقد بَلغ تساميه وتسامُحه مع أعطاب مشهدنا الثقافي والمركبات النفسية لنُخبه، أنْ كَتَب، ‏بمناسبة المعرض الدولي للكتاب، خاطرةً له، جاء فيها: "كُـتُبِـي ممنوعة بنيويا من معرض ‏يعرض كلّ شيء، ومع ذلك لن أقاطع، بل تصالحْت مع أنطولوجيا المنع...". أقول: إدريس هاني ‏مدرسة كبيرة في النُّبل والفكر والذوق.. لو أنهم يعقلون! ‏
تالله، إن هذا الزمان يليق بالرعاديد وأنصاف الرجال.. أما الفرسان فزمانهم ليس هاهنا.. ‏ليس هاهنا‎!!!‎








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استمرار مساعي التوصل لاتفاق دفاعي بين السعودية والولايات الم


.. الصين تغزو الجانب البعيد من القمر.. ما القصة؟




.. فرار مستوطنين من حافلة بعد دوي صفارات الإنذار


.. أردوغان: حماس استجابت بإيجابية لعرض الرئيس الأمريكي عكس نتني




.. روبرت مردوخ يتزوج للمرة الـ