الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مُدَرسونَ نحنُ لسنا مطافئ

عبد الله خطوري

2023 / 6 / 11
التربية والتعليم والبحث العلمي


ما يفعله مُسَيرو الشأن التربوي في مجال الآداب وآلعلوم الإنسانية في مرحلة التقييم النهائي بالتعليم الثانوي التأهيلي (على سبيل المثال فقط) يمكن آعتباره في بعض مَناحيه مهزلة مقصودة بإصرار مُلِح، الغاية منها _في نظري_ تسفيه مجهود مواسم كلها تحت شعار "تبسيط" معطيات اللغة واللسان والفهم والتحليل والتركيب وجعلها بطرق فجة في متناول الممتحنين المزعومين، الشيء الذي يضرب المنظومة البيداغوجية في مقتل، مما شجع ويشجع تزايد طفيليات بعيدة عن المجال تتحين مثل هذه الفرص لتدلي بدلوها هي الأخرى في الواقعيْن المادي والافتراضي، إلى درجة تحولت هذه الآفات أصولا تُتَبَّعُ ومقطورة لَهْط جشع تقود تابعيها كما تقود البهائم باقي القطعان .. فتُخْتَزَل (بصيغة مجهول) مادة البلاغة بجلال قدرها في مطالب مشتتة مبتورة الأوصال بلا جذور يُقَدَّم سؤال الصورة الشعرية والأساليب بنقطة واحدة يتيمة، ويُقتصر في العروض القديم والحديث على ما درجوا على تسميته إيقاعا "خارجيا" (زعما جاي من الخارج)، يخلطونه بمسمى آخر (الإيقاع الداخلي) بنُقَيْطة شاردة، أما النحو العتيد ومتعلقاته فلا تحضر أصوله ولا فروعه البتة، بل يكتفي المكتفون بمرور غير كريم بمقاربة عناوين النصوص مقاربة عابرة لغوية شكلية مجتزأة لا آمتداد لها في النص ولا في وسيلة مقاربته .. الأمر غدا _للأسف_ أشبه بحَرْق عمل المُدرسين المياومين المرابطين بمعاقل مجاهدة الجهل ومقارعة التجهيل وتعميق قيمة الحرف بين مُريديه بشغف ومحبة أمسَتْ طرفة نكتة تلوكها أشداق الفضوليين ليتحول الأصل هامشا ويعلو شأن مَن هب ودب من العرام يتجرؤون يفتون "يساعدون" يقدمون الجاهز من الإجابات في النيت وفي ضيق الجدران المغلقة ومقاهي "المراجعات" بأبسط جهد يختزل الطفيليون العملية التعليمية التعلمية في مجرد شطارة آقتناص أكبر عدد ممكن من النقط ولو على حساب حرق العقول والقلوب والمراحل والمهارات والكفايات والقدرات ومكابدة الحروف والنصوص والكتب والمؤلفات ...
ظهر فيلم 451 درجة فهرناتية عام 1966 لمخرجه الفرنسي فرنسوا تريفو عن رواية خيال علمي تحمل العنوان نفسه ل (راي برادبوري) 1953 يصور في مَشاهدها مستقبلا آت تعدم سلطتُه الحاكمة القراءة والقراء والكُتب والكَتبة..
الشريط، كما الرواية، قائم على توقعات تشاؤمية سوداوية على طريقة مقاربة "الديستوبيا" لمستقبل مرير حالك تسيطر عليه مصالح جبروت تسلطية تحارب الحروف تحرقها بنيران تصل إلى تلك الدرجة المشار إليها في العنوان، ولن يجد المسؤولون مَنْ يقوم بهذه المهمة أحسن قيام من سلاح خراطيم نيران رجال مطافئ شديدي البأس أوفياء مُجدين مجندين منضبطين (الشخصية الرئيسة رجل يعمل بآلمطافئ) سيأخذون على عواتقهم مهمة إخماد جذوة الحَرْف المَرْقُون المطبوع بواسطة قوة لهيب الغاز ترسله أنابيب النار ترشق أشداقُها الشرر كما تفعل تنينات العجائب في الحكايات القديمة التي تحاربها هذه السلط المتجبرة؛ وهكذا تم فرض تقنين هذا التحريق المتعمد، لأن آخر الدواء الكي نارا، ولأن لا دواء آستطاع أنْ يكون ناجعا ضد قدرة الحرف على التأثير، فإن "العاقلين" العارفين القابضين على زمام أمور الرعايا رأوا أن لا مهرب من هذا الدواء الناجع من أجل إنقاذ المجتمع المعتقل من الخطر المحدق به إنْ هو تُرِكَ لحاله يستسلم لسطوة جاذبية لذة القراءة والمقروءات .. الحرق، هنا، تصفية إعدام جذرية للحَرْف للقراءة للكتابة لشخصية الإنسان في ماهيته وجوهره، لكن هذه التصفية ليست بالضرورة قاطعة قطعية، فما العمل في حال سُوِّدَتِ الحروف وعلقت في عقول شغوفة حفظتْها تحفظها من آلضياع وآلزوال .. آآآه.. هذا الحفظ الآدمي، تُرى كيف يمكن مجابهته ..؟؟..
لعل هذا السؤال الإشكال نفسه حاولت مناهج الثقافة والتربية والتعليم في المدرسة العمومية ببلادنا مواجهته طيلة سنوات خلت من ممارسة المحو والحرق والإحراق والإعدام والتصفية لكل ما له صلة بالحرف بالكلمة بالكتاب بالقراءة بالوعي، بطريقة تختزل أحشاؤها مفارقة مقصودة بين ما هو واقع حاصل فعلا، وبين آدعاءات معلنة في صورة توجيهات رسمية تتشدق بما نبُل من مقاربات وغايات ومرام وأهداف يروم زعمُها آستهداف مكتسبات ومهارات فعلية فعالة .. واضعوها يعلمون جيدا أن لا طائل من وراء جلبة لغو الصخب وثرثرة الضوضاء المُحَبرة في التعليمات المباشرة والمذكرات والتوجيهات والتكوينات والمسابقات والمناسبات والتوصيات، الموصى بها في الندوات والمؤتمرات ولقاءات التشاور والتكوين وإعادة التكوين، في غياب إرادة جدية واضحة ذات مصداقية ونية صافية تروم تطويرا نوعيا للفرد والجماعة إلى أحسن حال في دولة مؤسسات مستقلة لا دولة أفراد ولوبيات وجيتوهات، يعيش في كنفها الكائن عيشة مواطن كامل المواطنة .. هم يدركون ذلك، ويبذلون جهدهم لجعل المتعلم العمومي، في أحسن الحالات، قطع غيار بييس دوغوشانج لا غير، في دواليب رساميل شركات لا وطنية تمتص العرق تنفث السم في العروق بزنْد مزيد من لهيب حروق تنهك تفتك تمسخ خريجي المدارس ذات الاستقطاب المحدود وغير المحدود والمعاهد والكليات والجامعات .. يا حسراااه .. تحولهم الى كينونات قاصرة خائبة مفرغة بلا هوية بلا بصمة إنسانية ذاتية، هشة سهلة الانصياع، تُقاد عن بعد بأكثر من زمام، على شاكلة عوالم الأخ الأكبر "بيك بروذر" في مسرح عبث مماثل 1984
لكاتب آخر من طينة أخرى إيرلاندي يطلقون عليه جورج أورويل .. مع مثل هذه المقاربات، يغدو العمل الفني روائيا كان أو سينيمائيا آستعارة لما يحدث في منظومتنا التربوية .. فرواية 451 درجة فهرناتية ورواية أورويل رسَمَتا معًا معالم مجتمع راكد، سِجْن زريبةٍ يُحشر داخل أتونها أدمغة آنديجين معفنة بهياكل متخشبة، خاوية بلا أرواح، فارغةٌ وجوهُها أقحافها أياديها، واللسان في أبدانها صامت لا لسان له، بلا شهامة يتململون بلا كرامة أميين أقنان مُصفدين في أوهام الأغلال، أرقام آفتراضية في صورة متعلمين يمثلون أدوار الحَضَر من الهوام بربطات عنق كالمشانق وألبسة صَرعات مودات آخر صيحة، نسخ مشوهة ل"تيقنوقراط" ربوهات مفبركة مبتسمة ضاحكة مستهلكة هالكة لا فكر لها، أو "مثقفي" من تشدقات بْلَابْلَا لغو سفاسف لدائن الميكا، بالكاد تتشدق بتهجي فك بعض شُفيرات خفايا مظاهر الحروف .. كفى .. ستووب .. لا .. يا مَنْ بيده زمام أمور الناشئة .. نحن مدرسون .. لسنا مطافئ .. وأبدا لن نكون ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أعمدة الدخان تتصاعد من موقع الغارة الإسرائيلية على الضاحية ا


.. تعرف على إبراهيم عقيل قائد منظومة العمليات الخاصة في حزب الل




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات على الجبهة قبالة الحدود الجنوبية


.. الجيش الإسرائيلي: عقيل وقادة قوات الرضوان كانوا مختبئين تحت




.. هل كان حزب الله يخطط لتكرار -السابع من أكتوبر- على الحدود ال