الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من نحن؟

ثائر أبوصالح

2023 / 6 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عندما نحاول أن نفهم كل ما تراه عيوننا، نسأل السؤال البديهي الأول، هل تمتلك هذه العيون القدرة على رؤية الأشياء بحقيقتها، أم أنها تعطينا صورة مشوهة وغير دقيقة عن الواقع؟ عندما نحاول أن نعي كل ما تسمعه أذاننا، نسأل هل تمتلك هذه الأذان القدرة أن تُسمعنا كل ما يدور حولنا؟ وعندما نتذوق الأطعمة التي تجود بها هذه الطبيعة، نسأل هل خلايا التذوق قادرة على أن تقدم لنا نكهة هذه الأطعمة الحقيقية؟ وعنما نتحسس الأشياء من حولنا، نسأل هل بالفعل خلايانا الحسية قادرة أن تنقل لنا بدقة حقيقية الأشياء التي نلمسها؟ وهل أنوفنا قادرة على نقل حقيقة الروائح المنشرة في فضائنا؟ ولما نظلم الحواس؟ فالذي يرى ويسمع ويتذوق ويحس ويشم هو الدماغ، فهل الدماغ قادر على تجسيد الصورة الحقيقية للواقع المادي الذي نعيشه ونعاينه من حولنا؟

الجواب واضح لكل من يتعمق في حقيقة الأشياء، فلو كان نظرنا دقيقاً وحاداً لرأى كل شيء من حوله حياً ومهتزاً، ولو كان سمعنا دقيقاً لاستطاع أن يسمع حركات جوف الأرض والكواكب والنجوم والمجرات من حولنا، ولو كان ذوقنا وحسنا وشمنا دقيقاً لاستطعنا أن نتذوق ونشم ونحس بأصغر مكونات وجود هذا الكون. فنحن مخلوقات محدودة الإدراك الحسي، وعقولنا جزئية لا تستطيع أن تفهم المطلقات والكليات، فهي تحلل الأشياء وتجزأها عن طريق الحواس، ثم تجمعها ادمغتنا وتجسدها حتى نعي ما نرى ونسمع ونشم ونلمس ونتذوق، ولكن السؤال الكبير من ذا الذي يعي هذه الأشياء؟

الجواب هو الوعي، ولكن ما هو الوعي؟ هل ادمغتنا قادرة على انتاج الوعي؟ أم أن الوعي شيء خارج عن الدماغ يستعمل الدماغ كآلة حسية ليتعرف من خلاله على البيئة المادية؟ وإذا كان الوعي خارج أجسامنا فأين هو ومن أين يأتي؟ هذا يقودنا فوراً الى حقيقة أننا لسنا هذا الجسد المادي ولسنا تلك الأفكار التي ينتجها الدماغ، لأنها انعكاس عن الواقع المادي، اذن الوعي شيء أعمق مما نظن، هو ذاك الشيء الذي يعطينا القدرة على فهم ماهيات الأشياء ا ويعطيها معنى بعد أن يجسدها الدماغ من خلال الحواس.

لقد جرت العديد من الأبحاث والدراسات حول الوعي وماهيته ومصدره حيث يعرّف قاموس كامبريدج الوعي بأنه "حالة فهم وإدراك شيء ما" ويعرّف قاموس أكسفورد الوعي بأنه "حالة دراية المرء بمحيطه والاستجابة له" "وعي الشخص أو إدراكه الحسي لشيء ما» و«حقيقة دراية العقل بنفسه وبالعالم". فهل يستطيع بالفعل أن يعي العقل نفسه؟ عند النوم يبقى الدماغ يعمل ولكن الوعي لا يعمل أي أن الوعي منفصل عن آلته أي الدماغ ولكنه مشرق عليه.

يقول روبرت سبيرا أن الوعي هو الشيء الحقيقي الوحيد الذي يربط كل الوجود الإنساني، وبما أنه كامل فإنه لا يستطيع أن يرى الجزئيات، والسبب أنه يراها من عدد لا نهائي من الزوايا فتختفي هذه الأشياء عن الوجود، ولذلك يقلص نفسه من خلال الدماغ القادر على جمع الجزئيات عن طريق الحواس وتجسيدها فينير الوعي عليه كما ينير المصباح في الظلمة على الأشياء ليرى حقيقتها، ولذلك عندما نريد أن نفهم أي شيء نلتفت اليه لنجسده من خلال حواسنا فيضيئ الوعي عليه فنفهمه، ولكن الوعي لا يستطيع أن ينير على نفسه ليفهم نفسه، كما أن المصباح لا يستطيع أن ينير على نفسه ليجسدها ولذلك يصبح الوعي خارج قدرتنا على ادراك ماهيته.

إن توصيف روبرت سبيرا للوعي يشبه ما نسميه الروح أو العقل الأرفع، ويجب أن لا نخلط بين مفهوم الروح وبين مفهوم النفس، فالروح كلية وواحدة في الجميع وهي فوق الزمان والمكان اما النفس فهي الروح عندما تدخل الجسد المادي الفاني فهي روحانية شفافة لأنها تنتمي لعالم العقل وعندما تشرق على العالم المادي تصبح قابلة للصور فتنتقل من عالم الأحدية المطلقة الى عالم الثنائية المحكومة بثنائيات الوجود المتناقضة أي الخير والشر، وعندما تغادر النفس الجسد يموت الإنسان فتعود النفس الى ربها أي الى عالم العقل من جديد، ولذلك الإنسان مركب من ثلاثة مستويات وجود: الأول يفعل ولا ينفعل وهو الروح أي الوعي والثاني يفعل وينفعل أي النفس فهي تنفعل بالروح وتفعل بالجسد، والمستوى الثالث ينفعل ولا يفعل وهو الجسد المادي المحكوم بالنفس.

العقل الكلي أو الأرفع هو الروح التي تجمع كل البشر ، فكلنا نعود الى روح واحدة أي وفقا لروبرت سبيرا وعياً واحداً، والعقل الكلي أو الذكاء الكوني الذي يسّير الكون اشبه بشبكة الإنترنيت الموجودة في عالمنا، حيث تزود هذه الشبكة كل حاسوب بالمعلومات التي يطلبها وفقاً لإمكانياته وقدراته على الاستيعاب، فالحاسوب الذي يمتلك ذاكرة كبيرة ومعالج متطور يستطيع أن يأخذ ويستوعب برامج اكثر تعقيداً وحجماً من حاسوب غير متطور، أي ان الشبكة تمد الحاسوب وفقاً للمواصفات التي يملكها، كذلك البشر يستطيعون أن يتزودوا من الروح او الوعي أو العقل الكلي وفقاً لمستويات تطورهم الروحي.

إن من يريد أن يفهم الكون وقوانينه لا يمكنه فعل ذلك من خلال عقله الجزئي، فهذا العقل غير قادر على فهم الكليات والمطلقات، بل عليه أن يتصل بشبكة الإنترنت أي عليه أن يتصل بالروح أو الوعي، وليتم له ذلك يجب أن تُصقل نفسه لتصبح قادرة على التناغم مع الموجة الأحدية للروح، ولكي ترشدنا الروح لهذه الإمكانية وضعت بداخلنا " سفارة" تسمى "الحدس" أو المعرفة عن طريق الإلهام، فالشعراء والأدباء والموسيقيين يبدعون نتيجة القدرة الإلهامية ففي مجال الشعر مثلاً يقال نزل عليه أي على الشاعر " شيطان الشعر".

بالمقابل، يجب علينا كبشر أن نتواضع ونعرف أننا كقطرة ماء في هذا المحيط، عندما تنظر هذه القطرة لنفسها على أنها كيان مستقل عن المحيط تصنع لنفسها ما نسميه "الأنا أو الأيغو"، وعندما تعود الى المحيط تختفي ولا يبقى لها وجود، أو كفقاعات الصابون التي تظن كل فقاعة أنها كيان مستقل فتصنع أناها وتعتد بجمالها، ولكنها عندما تنفجر تصبح واحداً مع الهواء وتختفي. فالوجود الحقيقي هو للمحيط أو الهواء وقطرة الماء والفقاعة هما وجود وهمي سينتهي بأي لحظة، وتعود القطرة والفقاعة الى حقيقتها أي الى المحيط أو الى الهواء. كذلك الإنسان ستعود نفسه يوماً الى عالمها الحقيقي عالم العقل، رغم ظنه أنه كائن مستقل، ورغم أن وجوده مشروط بالعديد من أساسيات الحياة مثل التنفس والمأكل والمشرب، ورغم وعيه أنه ميت لا محالة، ورغم ذلك يتضخم "الايغو" وقد يصل الى مرحلة تدمير نفسه ومن حوله.

لو وعى البشر حقيقتهم ما اختلفوا على شيء، ولا اقتتلوا على شيء، ولكنهم بجهلهم يختلفون ويقتتلون. لو عرف البشر جوهرهم الحقيقي ما كانوا ليكرهوا أو يحقدوا أو يسيئوا أو يطمعوا ولنفوا أناتهم الوهمية القاتلة والتي تعد الد اعدائهم. ان ما يدفع البشر للفعل المسيء هو سيطرة ما نسميه الأبلسة والشيطنة، والأبلسة تعني سيطرة العالم الخارجي على العالم الداخلي أي العالم المادي على العالم الروحاني، والشيطنة تعني أن يشيط الإنسان بأفكاره عن طريق الخير، أما السلوك السوي المطلوب هو التوازن بين العالمين الداخلي والخارجي فلا نهمل عالمنا المادي ومهماتنا الحياتية ونتقشف في الكهوف، وبالمقابل لا نهمل نفوسنا ونعدمها غذاءها، وتأخذنا الحياة بتفاصيلها فننسى أنفسنا ومن نكون، بل علينا جمع الداخلي بالخارجي لنصعد من خلال انضباطنا في المسلك في سلم العرفان لتتوسع طاقة الإلهام التي تمد نفوسنا بالنور، فنصبح كالحاسوب المتطور الذي يستطيع أن يأخذ من الشبكة كل ما يريد.ان أجمل تعبير عن الوصول الى المراتب العالية هي مناجاة الحلاج لربه قبل مقتله وتقطيعه:

هَؤَلاءَ عِبَادُكَ
قَدْ اجْتَمَعُوا لِقَتْلِى تَعَصُّباً لدِينكَ
وتَقَرُّباً إليْكَ
فاغْفرْ لَهُمْ!
فإنكَ لَوْ كَشَفْتَ لَهُمْ مَا كَشَفْتَ لِي
لما فَعَلُوا ما فَعلُوا
ولَوْ سَتَرْتَ عَنِّى مَا سَترْتَ عَنْهُمْ
لما لَقِيتُ مَا لَقِيتُ
فَلَكَ التَّقْديرُ فِيما تَفْعَلُ
ولَكَ التَّقْدِيرُ فيِما تُرِيدُ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور أعين العناكب؟ | المستقبل الآن


.. تحدي الثقة بين محمود ماهر وجلال عمارة ?? | Trust Me




.. اليوم العالمي لحرية الصحافة: الصحافيون في غزة على خط النار


.. التقرير السنوي لحرية الصحافة: منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريق




.. بانتظار رد حماس.. تصريحات إسرائيلية عن الهدنة في غزة