الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القطط واللحمة، ومأزق ممفتي المسلمين بأستراليا!

عبد الخالق السر

2006 / 10 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


"عندما تضع لحمة في اناء مكشوف ، فهذا أمري مغري بالنسبة للقطط. واذا حدث أن قامت أخدى القطط بأكل اللحمة ، فليس الملام هنا سوى الشخص الذي أهمل غطاء اللحمة ، وليس القطة بأي حال. والفتاة التي تتعرى بحيث تكون هدفا للاغتصاب يجب معاقبتها وسجنها مدى الحياة"!!.

هذا التعبير "الصادم" هو ما أتحف به مفتي استراليا الشيخ جلال الدين الهلالي جموع المصلين في آخر خطبة لشهر رمضان الكريم بأكبر مساجد مدينة سيدني. وكان ذلك في سياق تعرضه لشأن عام يخص كافة الاستراليون وهو حادثة اغتصاب تعرضت له فتاة من بعض الفتية المراهقين. واسترسل "شيخنا" دون وجل من مغبة "خلط الكيمان" الثقافية والفروقات الاجتماعية ليلقن الجميع درسا في قيمة الحجاب الرادع لمثل هذه السلوكيات ، وذلك لو علم الغافلون!!!.

اقامت هذه الخطبة الدنيا ولم تقعدها حتى راهن اللحظة، بل وباتت المادة المفضلة لأجهزة الاعلام الاسترالية، فضلا عن الشارع العام. وبات التعبير "الفج" للشيخ في وصف المرأة باللحمة مصدرا لشجب وادانات من المؤسسات الرسمية بدءاً من رئيس الوزراء وانتهاءا بمنظمات المجتمع المدني خصوصا النسائية منها. وحتى النساء المسلمات "المحجبات" لم يسلم من نقدهن المفتي المسكين. لا شك أن المشهد يعبر عن حرج بالغ لجموع المسلمين باستراليا خصوصا النساء منهم، وربما هذا يفسر ردة الفعل العنيفة التي قوبل بها من بعض المنظمات الاسلامية والتي وصلت حد المطالبة بتنحيه!!، ولكن ان نظرنا للأمر من زاوية أكثر عمقا، سنجد أنه لا غرابة في الأمر بقدر ما أنه امتداد طبيعي وايقاع متسق مع تنامي سيطرة الايدولوجيا السلفية على مجمل المشهد الدعوي والوعظي للمؤسسات الاسلامية داخل استراليا.

لم يملك المفتي أمام هذه العاصفة العارمة التي زلزلت وقاره المعنوي والوظيفي سوى الاذعان للاعتذار وبنبرة دفاعية- تبريرية لم تخرج – كالعادة- عن أن ما قاله "قد أسيء فهمه"، ولكن ، ولأنه اعتذار هروبي والتفافي أكثر منه قناعة بالوقوع في الخطأ،ما لبث الشيخ أن أخرج شخصية المكابر- الجاهل، عندما أحس بأن الأمر سوف يطال كرسي "البابوية" الذي يجلس عليه بكل امتيازاته المادية والمعنوية ،وذلك حين صرح للصحف في اليوم التالي لاندلاع الأزمة بأنه لن يستقيل من منصبه حتى يذهب بوش والبيت الأبيض من الوجود!!!. ولنا نحن المساكين وحدنا أن نجهد أنفسنا لايجاد العلاقة بين البيت الابيض والكدايس واللحمة المكشوفة حتى لا نسيء فهم قداسته الذي لا ينطق عن الهوى!!.

الحقيقة ان مثل هذا النوع من الخطاب لا جديد فيه أو غرابة متى ما التزم السياق الاجتماعي- الثقافي الذي ينبع منه، حتى وان كان "دوغمائيا" فجا لا يمتحن مقولاته على أرض الواقع ، ولكن ذلك شأن آخر. فما يهمنا هنا، تلك الاطلاقية واليقينية التي لا تراعي فروق الزمان والمكان، أو تباين المفاهيم والرؤى الثقافية أو نسبية معايير القيم الاخلاقية، حتى لا يحدث مثل هذا الخلط المريع الناسف لقيم التسامح والباعث على القلق وايغاظ الأحن في مجتمع يمثل فيه المسلمون أقلية مستضعفة تبحث عن الأمان لا المواجهات العنترية الصبيانية. ثم أن تناول موضوع خطير يتعلق بمفاهيم حقوق الانسان أو معنى العدالة القانونية بمثل هذه العنجهية "الذكورية" لا شك أنها تضع قائلها في امتحان عسير، كما لا ينجو من أثارها أولئك الذين ينوب عنهم رسميا في تأصيل مثل هذه الترهات من زاوية دينية.

لا شك أن الأمر اكثر ايلاماً للمرأة المسلمة التي يجب عليها في هذه الحالة أن ترفض امتهان انسانيتها بعد توصيفها باللحمة، وهي التي ما انفكت تعاني من ثقل وطأة الفقه الكلاسيكي الحافل بكل ما يعزز من دونيتها، وذلك حين يصر هؤلاء "الافذاذ" أن يجردوه من بعده التاريخي. فمثل هذا التوصيف هو بحكم الاسترخاص لآدميتها في المقام الأول، ناهيك عن أنه لا يعبر بأي حال من الأحوال عن حقيقية مشروعية "الحجاب". فالحجاب ، والذي هو مختلف في كيفيته ومغزاه، وليس كما يدعي محسومية أمره هؤلاء في "العباية أوالنقاب"، أو لأن المرأة تعيش في غابة ليس بها سوى الوحوش الكواسر ، ولا غنى لها اذن سوى الحجاب!!!. فمثل هذا المنطق سيسقط في أول اختبار على أرض الواقع، حين نرجع بصرنا بوعي وبصيرة نحو واقع المجتمعات المسلمة. فمجتمعات الخليج العربي مثلا، تمثل المعيار الذي ينشده فقهاء الدين لما يجب أن يكون عليه الحجاب. ومع ذلك فحالات الاغتصاب أكثر من أن تحصى أو تعد، للحد الذي جعل منظمات نسائية في بلد شديد المحافظة كالسعودية لا تتورع في تبيان هذه الظاهرة. بل أن الأمر في هذه المجتمعات يتعدى ذلك بمسافات مثيرة للحرج حين نشير للعلاقات الجنسية التي تنشأ بين المحارم !!. اذن لو أردنا أن نرد اسباب شرعية "الحجاب" الى مثل هذا السبب ، فمن المؤكد ان النتيجة لن تكون في صالح الحجاب، لأنه ببساطة لم يوفي بالغرض حسبما خصصه هؤلاء الفقهاء.

الشاهد أن الاغتصاب جريمة نكراء تمثل انعكاسا لحالات نفسية شائهة . وهي جرائم مرضية متفشية في كل المجتمعات وعبر كل الازمان، تتساوى في ذلك المجتمعات "المحجبة" أو "المتبرجة"، وتجد في كل الشرائع دينية كانت أم وضعية العقوبات العنيفة والقاسية. كما تعنى باهتمام الدراسات السيكولوجية لسبر أغوارها بغية تفاديها بقدر الامكان لعلمهم التام أنها لا يمكن أن تصدر من شخص سوى، وليس الأمر كما يظن امامنا المفوه أنه أمر "لحمة مكشوفة" و"كدايس"!!. يجب على هؤلاء "المتفيقهين" أن يعفونا من الخوض فيما لا يعلمون. فالامراض الاجتماعية النابعة من تعقيدات الحياة أو سيادة عقلية الخرافة أو تكلس المفاهيم والقيم المجتمعية لا يمكن التصدي لها بالمواعظ الانشائية المكرورة والاكليشيهات المبتورة من سياقها ، بقدر ما يلزم تدبر أمرها بالتقصي الواقعي والمنهجي لأسبابها ودوافعها. فالمجتمع الذكوري أيضا له اشكالاته المقيمة التي لا ينفع معها قراءة ما تيسر من القرآن أو حفظ بعض الاحاديث النبوية. فالتمييز الحاد بين الرجل والمرأة والانتقاص من قدراتها والحث على حصارها بغرض منع الفتنة لا يمكن أن يخلق مجتمع معافى مهما تفنن "علماء" الدين باللعب على الالفاظ والحيل البلاغية، والا كان ذلك تدشينا لمعجزات لم يعد بالامكان حدوثها. كما أن التراتب الهرمي الذي ينشأ عادة نتاج هذا الوضع لا يمكن أن ينتج الا مجتمع مكبوت ومقهور نفسيا وجنسيا كما هو حادث الآن، وتداعيات هذا الحال وخيمة ومشهودة بحيث لا يحتاج الأمر الى دلائل واستشهادات.

ان الأزمة بكل تأكيد في جزء منها هو سيطرة الخطاب الديني على كل مفاصل حياتنا، وادعائه بتقديم الحلول السحرية لكل اشكالاتنا، دون أن يواكب ذلك على أرض الواقع أي تطوير أو اختبار لما يقول به هذا الخطاب. ثم أنه خطاب مفارق للواقعية وبالتالي العقلانية ،ولذلك يستعين بحلول جاهزة لفقه لم يعد ينتمي في الكثير منه الى واقعنا المعاش. ثم أن المؤسسات الدينية التربوية والتعليمية تبدو في واقع الأمر مفلسة لا قدرة لها على التجديد والمعاصرة وذلك نابع من سيطرة الفكر السلفي على مفاصلها، خصوصا بعد تنامي قدراته الاقتصادية والتنظيمية بحيث بات الأعلى صوتا والأكثر تأثيرا، والنتيجة هذا الفقر المدقع في القدرات الذهنية والتعليمية للكوادر المسماة بـ"رجال الدين"!!.

ان خطر هذه المؤسسات ماحق على الأمة الاسلامية، فبجانب احتكارها "الكنسي" لحق اجتراح مفهوم الصاح والخطأ نيابة عن جمهرة المسلمين مع تباين ثقافتهم ورؤاهم ومرجعياتهم الفكرية والاجتماعية لما يجب أن يكون عليه الاسلام والمسلم، فهي في الغالب الأعم وعبر "فقهائها" و "علمائها" تمارس جهلا نشطا يعصف بآثاره السالبة في كل ما يمت بعلاقة المسلمين في دنياهم التي هم أدرى بشأنها كما قال الرسول (ص). ان استسهال التصدي للقضايا العامة ذات الخلفيات الثقافية والاجتماعية أو السياسية المعقدة والمتماسة في حساسية بالغة مع الثقافات والمجتمعات الأخر دون دراية أو تبصر بات مشهدا مألوفاً من "رجال الدين" الباحثون عن الاثارة الجاذبة للانظار أو البطولات الوهمية مستفيدين من جهل مزري بأمر الدين والدنيا من غالبية المسملين الباحثين بدورهم ، وبأي ثمن، عما يرتق فتق الكرامة المهدورة!!.

لم يخرج "امامنا" الشيخ الهلالي عن هذه الخراقة المعتادة من طبقة علماء الدين، ولن يكون الأخير ، خصوصا أنه لن يعدم ، مع هذه الورطة ، بمن سيخلقون منه بطلا في مقام صلاح الدين. وسيبقى هذا النمط الفج من الخطاب الديني باقيا فينا ومنا ما لم نخرج من صمتنا وضعفنا أمام ابتزاز المؤسسة الدينية الرسمية ، بكل امتيازاتها السياسية والطبقية لكي تتحدث فيما لا تعرف أو تجيد باسمنا زورا وبهتانا، دون أن يكون لنا حق الاعتراض والرفض مع تحملنا كافة ما يترتب عن هذه الترهات!!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاهن الأبرشية الكاثوليكية الوحيد في قطاع غزة يدعو إلى وقف إط


.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع




.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية


.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-




.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها