الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (3)‏

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2023 / 6 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


نعود... وقال كعب الأحبار يوما لعبد الله بن عمرو بن العاص: أنت أفقه العرب! وأجاب ‏عبد الله بن عمرو بن العاص لسائل فقال كعب الأحبار يمتدحه: صدق الرجل عالم والله ‏‏(تاريخ الطبري ج1, ص 402) . وكذلك مدح كعب أبا هريرة قائلا: ما رأيت أحدا لم يقرأ ‏التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة (تاريخ الذهبي. تذكرة الحفاظ للذهبي ج1, ص36).. وهذا ‏ما يعني أن إطراء كعب لهؤلاء كان تمهيداً لضمهم تحت مظلته حتى يروجوا أحاديثه، وقد ‏تم له ذلك. ‏

يقول كعب الأحبار مدعياً أنه يروي على لسان النبي محمد (ص): (لا تخيروني على ‏موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون( النبي محمد) أول من يفيق، فإذا ‏موسى باطش جانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله ‏‏(صحيح البخاري ج3 ص88 ، كتاب الخصومات) .. إن كعب يرفع موسى فوق مقام النبي ‏محمد، فكعب يحدث في حلقات مسجد الرسول تحت حماية الخليفة الثاني والثالث وتحت ‏حماية الملك معاوية بن أبي سفيان في الشام. ولا ندري كيف تسنى لهذا الحبر اليهودي أن ‏يروي حديثا عن النبي(ص) وهو لم يره ولم يلتق به‎.‎‏ وبغض النظر عن صحة أو كذب هذه ‏الرواية، فكيف تحتفظ بمكان لها في كتب العرب وكتب التراث الإسلامي !!‏

‎ ‎يقول كعب كذلك متقولاً على النبي محمد (ص) فيكتب الناس ما يقول:(ما من شبر ‏في الأرض إلا وهو مكتوب في التوراة التي أنزل على نبيه موسى ما يكون عليه وما يخرج منه ‏إلى يوم القيامة) (رواه الطبري والبيهقي في الدلائل، ابن عبد البر في الاستيعاب) . ويقول ‏كذلك: ( إنّ اللّه تعالى نظر إلى الأرض فقال: إنّي واطئ على بعضك، فاستعلت إليه الجبال ‏وتضعضعت له الصخرة، فشكر لها ذلك فوضع عليها قدمه، فقال: هذا مقامي، ومحشر خلقي، ‏وهذه جنتي وهذه ناري، وهذا موضع ميزاني، وأنا ديان الدين) (حلية الأولياء للأصفهاني ج6, ‏ص20) . لقد جعل كعب من صخرة بيت المقدس محل قدم الله ومحشر خلقه وجنة الله ‏وناره ! أين علماء التوحيد من هذا الكفر وتجسيم الخالق ووصفه ؟ لا يجسر على مثل هذا ‏سوى كعب الأحبار المحمي بقوة الخلافة‎.‎

ولأن الصحابة العرب لم يكونوا أمة علم وتدوين فلم يفكروا في تدوين أحاديث النبي ‏المصطفى وسنته وتركوها للتداول الحكائي شفوياً، بينما كعب الأحبار اليهودي كان ‏رجل علم وتدوين، فقد ألّف كتاب وحيد في حياته وهو الكتاب الأوحد على الإطلاق الذي ‏تم تأليفه في هذه الحقبة من عمر الدولة الإسلامية الناشئة، فالإمام مالك - أول مدون في ‏الإسلام - جاء بعد النبي بمائة عام، وهذا ما يؤكد أنه لا توجد أي مدونات صحيحة قبل الإمام ‏مالك عدا القرآن الذي دونه النبي بمعرفته، ولأن الكعب لم يكن من عرب الحجاز الجهلاء ‏وإنما من يهود اليمن وحافظ على يهوديته وإن عاش وسط المسلمين متخفياً في عباءة نفاق، فلم ‏يذكر في آراءه وحكاياته أي حديث نبوي أو آية قرآنية واحدة بقدر ما ذكر نصوص من ‏التوراة، ولم يؤلف كتاب يضم أحاديث النبي محمد ولا تاريخه، بل ألّف كتاب عن " ‏الإسكندر الأكبر " ! لأنه كان يعشق الإسكندر ويعتبره أكثر فائدة للبشرية من النبي ‏محمد، وذلك ببساطة لأن الإسكندر الأكبر دخل القدس عام 333 ق.م دون قتال، بمساعدة ‏اليهود كالعادة، وحفظ الإسكندر لهم الجميل فسمح لهم بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، ‏وأعفاهم من الجزية مرة كل 7 سنين، وسمح لهم بسكِّ نقود نُقش عليها: «أورشليم المقدسة ‏وخلاص صهيون».‏

أي كان كعب يحلم ببناء دولة يهودية في ظل العرب كنموذج مكبر من الحياة التي ‏عاشوها في ظل الإسكندر فكان كعب يرى أو يتمنى أن يكون خليفة العرب عمر ابن ‏الخطاب إسكندر لليهود. حيث يبدأ تاريخ اليهود السكندريين مع تأسيس الإسكندر ‏الأكبر للمدينة، عام 332 قبل الميلاد. حيث شكلوا جزءاً من التركيبة السكانية ‏للمدينة في عهد خلفاء الإسكندر. وتمتع اليهود السكندريون بقدر من الاستقلال ‏السياسي عن أي مكان آخر، ويعتبر عصر البطالمة العهد الذهبى لليهود في الزمن القديم، ‏كما تؤكد "فيمونى". وفي الإسكندرية أيضاً تم وضع المخطط الأكبر لليهود في التاريخ ‏خلال عملية الترجمة السبعونية للتوراة من السريانية إلى اليونانية، والتي تم فيها استبدال ‏اسم " مصرايم " بـ " إيجبت " . وبدخول الرومان إيجبت سنة 30 قبل الميلاد، اضطهدوا اليهود، ‏وتحول الكثير منهم إلى المسيحية، وطرد الإمبراطور تراجان قرابة 10 آلاف يهودي من ‏الإسكندرية، وأحرق منازلهم ومعابدهم، ولذلك اعتبروا عصر الرومان عهد اضطهاد لليهود. ‏ولما دخل بن العاص بلادنا أرض القبط سنة 641م ميلادية، رحّب به اليهود لأنهم ضاقوا من ‏الرومان، وتعاهد معهم على الحفاظ على منازلهم ومعابدهم وممتلكاتهم، وذكر بن العاص ‏في بعض الرسائل أن إيجبت كان بها في ذلك الوقت قرابة 40 ألف يهودي. واستقر الكثير من ‏اليهود في العاصمة الجديدة وقتها (الفسطاط). ومنحهم ابن العاص منطقة تخصص كمقابر ‏لليهود داخل العاصمة والتي هي اليوم "مقابر اليهود " بالبساتين ، برغم أن اليهود كان عددهم لا ‏يتجاوز 4% من سكان إيجبت، وهذا ما يؤكد التعاون الحقيقي بين العرب واليهود، ما وفر ‏المساحة الكافية لليهود لكي يغرسوا المزيد من بذورهم الفكرية في العقل العربي.‏

‎ ‎وهناك دراسة جديرة بالاهتمام قام بها الدكتور‎ ‎إسرائيل ولفنسون ‏‎(1980 –1899)‎‏ ‏والملقب بـ" أبو‎ ‎ذؤيب المصري"، وهو مصري يهودي الديانة،‎ ‎أستاذ اللغات السامية بدار العلوم ‏والجامعة‎ ‎المصرية سابقاً، ومتخصص في تاريخ‎ ‎إيجبت‎ ‎المعاصر والحركات اليسارية في ‏العالم العربي، وانصبت الدراسة على دخول الإسرائيليات للفكر الإسلامي كما عرضها ‏إسرائيل ولفنسون في كتابه "كعب الأحبار.. مسلمة اليهود في الإسلام" ، أو كما جاء ‏بعنوان آخر "كعب الأحبار وأثره في كتب الحديث والقصص الإسلامية"، وهو في الأصل ‏رسالته للدكتوراه الثانية عام 1933م من جامعة فولفجانج جوتة بألمانيا.‏

وقد استفاض في هذه الدراسة حول كعب الأحبار على وجه الخصوص وأكد ‏بطمأنينة الأكاديمي المخضرم أن كعب الأحبار ما كان إلا عميلاً صهيونياً اندس وسط ‏العرب لإفساد مشروعهم الإسلامي، أو على الأقل توجيهه بالبوصلة اليهودية، ولم يكن مجرد ‏‏"منافق" كغيره كثير. وأوضح أنه قبل الإسلام كانت قبائل حمير العربية على الديانة ‏اليهودية، وفي صراع مع الفكر المسيحي، وأهم الحوادث المتعلقة بهذا الشأن قصة أصحاب ‏الأخدود المذكورة في القرآن الكريم، والتي مفادها أن الملك الحميري اليهودي وهو ذو نواس قام ‏بمجزرة لأهل نجران الذين بدلوا ديانتهم إلى المسيحية، وذلك بشق الأخاديد داخل الأرض ‏وإحراقهم بداخلها عام 523م، حيث كانت العقلية اليهودية تتصف بسلوك الأسد الجريح ‏الذي خلت نفسه من ذرة تسامح، نهاية باضطهاد الرومان المسيحيين لهم في فلسطين وطردهم ‏منها وهدم معابدهم وتدنيسها، ما يعني احتقان العقلية اليهودية في هذا الزمن وحنقها على ‏كل ما هو غير يهودي، وهو الظرف التاريخي الذي ظهر فيه الإسلام.‏

وفي هذا الصدد، يورد إسرائيل أبو ذؤيب رأياً غريباً مفاده أن يهود اليمن هم اليهود ‏الوحيدون في العالم الذين يؤمنون بأن النبي محمد رسول من عند الله، ولكنهم يعتبرونه نبياً ‏للجوييم (غير اليهود) وليس لبني إسرائيل، حتى أنهم يسمونه "نبي القبائل"، في إشارة للقبائل ‏العربية التي ليست على دينهم، فهم يعتقدون بفكرة احتكار الدين بالأساس ولا يقبلون أن ‏يعتنقه أحد ليس من سلالة بني إسرائيل، وفي المقابل يعتقدون أن كل نبي ليس من سلالة بني ‏إسرائيل فهو ليس موجهاً لهم، أي أن فكرة تكامل الرسالات السماوية ليست موجودة في ‏العقلية اليهودية. ويضع أبو ذؤيب كعب الأحبار في صفّ واحد مع عبد الله بن سبأ، ولكن ‏بصورة أخرى، حيث يقول :‏"... كان عبد الله بن سلام ساذجاً وديعاً يؤثر الهدوء والسكينة، ولا يطمح أن يكون ‏له أثر في الشؤون الخطيرة والأمور العظيمة، التي تقع من حوله، وكان وهب بن منبه عليماً ‏بالديانات القديمة والحديثة واسع المعرفة بدقائقها، فدون كثيراً من الكتب وترك أثراً قوياً ‏في رجال الدين، الذين عاشوا في القرن الثاني للهجرة بالأمصار الإسلامية، وكان عبد الله بن ‏سبأ خطيباً مصقعاً ودساساً خطيراً يحكم تدبير المؤامرات، ويحذق في إشاعة الفتن، وكان ‏عدواً لدوداً لعثمان وصديقاً مخلصاً لعلي، وكان يطمح أن يحظى بمنصب كبير في الحياة ‏الدينية والدنيوية، كي يصل إلى ما تصبو إليه نفسه...". (د. إسرائيل ولفنسون ؛ "كعب ‏الأحبار.. " ص 45)‏

أما كعب الأحبار يقول عنه:" يُعد كعب الأحبار في نظرنا أعظم من اعتنق الإسلام شأناً ‏في القرن الأول للهجرة من اليهود وأقواهم أثراً في المحيط الجديد الذي اختاره لنفسه ... أما ‏كعب الأحبار فقد كان يهودياً من المهد إلى اللحد، فقد تشبع بالعقلية اليهودية، حتى ‏برزت فيه هذه النحلة بروزاً لم ير مثله عند غيره من مسلمة اليهود، فقد كان بعد إسلامه ‏كأنه لم يترك دين أجداده... لأنّه كان ينظر إلى الإسلام بالعين اليهودية، ويحل جميع ما ‏يعرض له من المشاكل الدينية الإسلامية بعد أن يغوص في الآداب اليهودية..."، ويقول:" إن ‏كعب الأحبار لم ينس يهوديته، ولكنه عمل جاهداً على إثباتها، ويقول في موضع آخر: إن ‏روايات كعب لها صيغة توراتية، وإنها تدل دلالة واضحة على أنه كان راسخ الإيمان بالله، ‏وشديد الإخلاص لعقيدته، كما هو شأن المؤمنين المتفانين في كل أمة ودين". أي أنه أدخل ‏الإسرائيليات عن قصد وعمد، ولا يحتمل هذا الكلام معنى آخر.‏

وأول دليلٍ يشير إليه أبو ذؤيب لكعب الأحبار مسألة إعطاء لقب حبر الأمة لعبد الله بن ‏عباس، فهذا اللفظ "حبر" لم يكن معروفاً قبل الإسلام عند العرب، وهو لفظ عبري، وكان ‏اليهود يطلقونه على رجال دينهم الكبار وعلمائهم، وقد نسب اللقب لكعب لكثرة علمه ‏ومعارفه، وجاء بصيغة الجمع لتأكيد ذلك، وألقى كعب لقبه على ابن عباس فصار مشهوراً ‏وسط المسلمين بأنه " حَبر الأمة " وهذا ما يعني أن كعب طبع عقليته على غيره ولم يتطبع هو ‏بغيره. ‏

وكذلك كلمة "الربانيون"، فهم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي، على رأي بعض ‏العلماء الإسلاميين. وقال بعض آخر: الرباني العالم الراسخ. في العلم والدين، أو العالم العامل ‏المعلم، أو العالي الدرجة في العلم. وفرق بعضهم بين الربانيين وبين الأحبار بأن جعل الأحبار ‏أهل المعرفة بأنباء الأمم وبما كان ويكون، وذهبوا إلى أنها من الألفاظ المعربة العبرانية أو ‏السريانية. وهي من الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم في أثناء الكلام على علماء يهود.‏

‏" وكان كعب الأحبار يطلق على ابن عباس اسم رباني (الطبقات لابن سعد، (ج2 قسم ‏ثان ص 123) وهو اللقب الذي أطلقه القرآن الكريم على أحبار اليهود «أنا أنزلنا التوراة فيها ‏هدى ونور يحكم بها النبيون، الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا ‏من كتاب الله»... (سورة المائدة 43). «لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم.»... (سورة ‏المائدة آية 63). وذلك إقراراً لليهود فيما ألفوه من إطلاقهم هذا اللقب على كل متعلم منهم (د. ‏إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، ص 20 ، 21.) ‏وإطلاق كعب الأحبار، هذا اللقب على ابن عباس وحده دون غيره من الصحابة، فيه إشارة ‏واضحة إلى أن ابن عباس، وهو شيخ المحدثين، قد فاز بأكبر قسط ونال أوفر نصيب من معارف ‏الربانيين وعلوم الأحبار" (د. إسرائيل ولفنسون ؛ "كعب الأحبار.. مسلمة اليهود في الإسلام " ص ‏‏60) . قال كعب الأحبار لعكرمة:" مولاك رباني هذه الأمة هو أعلم من مات ومن عاش"... ولما ‏دفن ابن عباس قال ابن الحنفية " اليوم مات رباني هذه الأمة" (طبقات ابن سعد، ج 2، قسم ثان، ‏ص 121). ، وهذا ما يعني أن كعب قد رضي عن الكم والكيف من العلوم التوراتية التي ‏غرسها في التراث من خلال قناة النقل الأمينة (ابن عباس) وقرينه الوفي أبي هريرة.‏


يُتبع ...‏‎

‏(قراءة في كتابنا : مصر الأخرى – التبادل الحضاري بين مصر وإيجبت‎ ‎‏)‏‎ ‌‎
‏ (رابط الكتاب على أرشيف الانترنت ):‏‎
https://archive.org/details/1-._20230602
https://archive.org/details/2-._20230604
https://archive.org/details/3-._20230605

‏#مصر_الأخرى_في_اليمن):‏‎
‏ ‏https://cutt.us/YZbAA

‏#ثورة_التصحيح_الكبرى_للتاريخ_الإنساني‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجة السودانية والسعودية مع اوسا وفهد سال ??????????


.. جديد.. رغدة تتحدث عن علاقتها برضا الوهابي ????




.. الصفدي: لن نكون ساحة للصراع بين إيران وإسرائيل.. لماذا الإصر


.. فرصة أخيرة قبل اجتياح رفح.. إسرائيل تبلغ مصر حول صفقة مع حما




.. لبنان..سباق بين التهدئة والتصعيد ووزير الخارجية الفرنسي يبحث