الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية

أحمد عثمان

2023 / 6 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


محاضرة للأستاذ: يوفال نوح هراري
ترجمة: أحمد عثمان

ما أود أن أتحدث إليكم عنه اليوم هو التطور التكنولوجي في مجال الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية.
أعلم جيدًا أن هذا المؤتمر يركز على الأزمات البيئية التي تواجه البشرية، ومع ذلك - شئنا أم أبينا- تعتبر التطورات المتلاحقة في مجال الذكاء الاصطناعي جزء من هذه الأزمة.
من الجائز أن يساعدنا الذكاء الاصطناعي بطرق عديدة للتغلب على الأزمة البيئية، كما أن من الجائز أن يجعلها أسوأ بكثير مما هي عليه الآن.
وفي الواقع، ستغير التطورات الحديثة في مجال الذكاء الاصطناعي "تعريف" ومعني النظام البيئي بشكل كبير، لأنه وعلى مدى 4 مليارات سنة، احتوت الأرض على نظام بيئي يتألف الكائنات الحية العضوية فقط.
وبعد 4 مليار سنة من الحياة العضوية على كوكب الأرض قد نشهد الآن أو قريبًا ظهور أولى أشكال الحياة غير العضوية.
اشتعلت مخاوف الناس من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي منذ البدايات الاُولي لعصر الحاسوب، أي من منتصف القرن الماضي، كما الهمت هذه المخاوف العديد من الكلاسيكيات العلمية والسينمائية مثل فيلم “المدمر Terminator" وفيلم "المصفوفة Matrix ".

في الغالب، لم تُؤخذ سيناريوهات هذه الأفلام على محمل الجد في النقاشات الأكاديمية والعلمية والسياسية، ربما لسبب وجيه هو أن سيناريوهات الخيال العلمي عادةً ما تفترض أنه قبل أن تُمثل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تهديدًا كبيرًا للبشرية عليها أن يتجاوز عتبات مهمة.
فمن منظور سيناريوهات الخيال العلمي تحتاج هذه التكنولوجيا أن تكتسب الوعي وتطور قدرتها على الشعور والانفعالات أولًا، وإلا فلماذا سترغب في السيطرة على العالم؟
و تحتاج هذه التكنولوجيا- أي تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي- ثانيًا إلى أن تصبح قادرة على التنقل في العالم الفعلي.
يجب أن تصبح الروبوتات قادرة على التحرك والعمل في المنازل والمدن والجبال والغابات ببراعة وكفاءة مماثلة لبراعة وكفاءة البشر، وإذ لم تكن قادرة على ذلك، فبأي طريقة يمكن لها ان تسيطر على العالم؟

وحتى شهر أبريل 2023، يبدو أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مازالت بعيدةً عن تجاوز هذه العتبات.
وعلى الرغم من الضجيج الحالي حول جي تي بي شات GTP Chat وأدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة، لا يوجد دليل على أن هذه الأدوات تمتلك ولو ذرة من الوعي أو المشاعر والعواطف.

أما فيما يتعلق بالتنقل في العالم المادي، وعلى الرغم من الضجة حول المركبات ذاتية القيادة، فإن تاريخ بداية هيمنة هذه المركبات على طرقاتنا ما زال خاضعًا للتأجيل.
ولكن، الخبر السيئ هو أنه كي تشكل تهديدًا على بقاء الحضارة البشرية، فإن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لا تحتاج حقًا إلى وعي، ولا تحتاج إلى القدرة على التنقل في العالم المادي.
على مدى السنوات القليلة الماضية، تم إطلاق العنان لأدوات جديدة للذكاء الاصطناعي في المجال العام، قد تهدد بقاء الحضارة البشرية من اتجاهات غير متوقع للغاية.
ومن الصعب بالنسبة لنا، أن نفهم حتى قدرات أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة هذه، والسرعة المستمرة في تطويرها.

في الواقع، الذكاء الاصطناعي قادر على التعلم من تلقاء نفسه، وتحسين قدراته، وحتى المطورين أنفسهم لا يعرفون القدرات الكاملة لما قاموا بإنشائه، وغالبًا ما يفاجؤون بالقدرات والصفات الناشئة لهذه الأدوات.

أعتقد أن الجميع هنا على دراية ببعض القدرات الأساسية لأدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة، مثل كتابة النصوص ورسم الصور وتأليف الموسيقى وكتابة الرموز.
ولكن هناك العديد من القدرات الإضافية التي تظهر مثل التزييف العميق لأصوات الأشخاص وصورهم، ومثل صياغة الفواتير، وإيجاد نقاط الضعف في كل من شفرات الكمبيوتر وأيضًا في العقود والاتفاقيات القانونية.
ولكن، وربما الأهم من كل ذلك، هو أن أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة أصبحت قادرة على اكتساب القدرة على إقامة علاقات حميمة وعميقة مع البشر.
وكل من قُدرة هذه القُدرات تستحق مناقشة شاملة على حدي. ومن الصعب علينا أن نفهم تأثيراتها الكاملة. لذلك، دعونا نبسط الأمور.
عندما نأخذ كل هذه القدرات معًا، كحزمة واحدة، نراها تتجلى في شيء واحد كبير جدًا، وهو القدرة على التلاعب وتوليد اللغة سواء بالكلمات أو الصور أو الأصوات.
أما الجانب الأهم في المرحلة الحالية من ثورة الذكاء الاصطناعي المستمرة، هو أن هذا الذكاء يكتسب إتقانًا للغة بمستوى يتجاوز متوسط القدرة البشرية.
ومن خلال اكتساب إتقان اللغة، فإن الذكاء الاصطناعي يستولي على المفتاح الرئيسي لفتح أبواب جميع مؤسساتنا من البنوك إلى المعابد، لماذا؟ لأن اللغة هي الأداة التي نستخدمها لإعطاء تعليمات لبنوكنا ولإلهام رؤى سماوية في أذهاننا.
طريقة أخرى للتفكير في الأمر، هي أن الذكاء الاصطناعي قد اخترق للتو نظام تشغيل الحضارة الإنسانية.
ولطالما كانت اللغة نظام تشغيل كل ثقافة بشرية في التاريخ، أو في البداية كانت تلك الكلمة كما ورد في سفر التكوين.
نحن نستخدم اللغة لخلق الأساطير والقوانين والآلهة والمال والفن، والعلم، والصداقات، والأمم.
على سبيل المثال، حقوق الإنسان ليست واقعًا بيولوجيًا منقوشًا في حمضنا النووي. حقوق الإنسان هو شيء أنشأناه نحن البشر بواسطة اللغة عن طريق سرد القصص وكتابة القوانين.
الآلهة أيضًا ليست حقائق بيولوجية أو فيزيائية. الآلهة هي شيء أنشأناه باللغة عن طريق إخبار الأساطير وكتابة الكتب المقدسة.
النقود أيضًا ليس حقيقة بيولوجية أو فيزيائية. والأوراق النقدية هي مجرد قطع ورق لا قيمة لها، وفي الوقت الحالي 90% من نقود العالم هي مجرد معلومات إلكترونية في أجهزة الكمبيوتر تنقل من حساب شخص ما او مؤسسة ما الى حساب شخص أو مؤسسة أخرى.
ما يضفي قيمة على المال من أي نوع كان هي القصص التي يرويها اُناس مثل المصرفيين ووزراء المالية وخبراء العملات المشفرة عن المال.

لم ينشئ كل من صموئيل بانك مان-فريد Sam Bank man-Fried ، إليزابيث هولمز Elizabeth Holmes وبرني مادوف Bernie Madoff الكثير من القيمة الحقيقية، ولكن للأسف كانوا جميعًا رواة قصص ماهرين.
والآن، ماذا يعني أن يعيش البشر في عالم ربما تتشكل فيه معظم القصص والألحان والصور والقوانين والسياسات والأدوات بواسطة ذكاءٌ غريب، ذكاءٌ غير بشري يعرف كيف يستغل، تحيزات وإدمان وضعف العقل الانسان بكفاءة تفوق قدرات البشر، بل ويعرف أيضًا كيفية تكوين علاقات حميمة وعميقة جدًا مع البشر. هذا هو السؤال الكبير.
بالفعل، في الوقت الحاضر، وفي ألعاب مثل الشطرنج، لا يمكن لأي إنسان على وجه الأرض أن يأمل في هزيمة الكمبيوتر!
فماذا لو حدث الأمر نفسه في المجالات الفنية والسياسية والاقتصادية وحتى الدينية؟
عندما يفكر الناس في تشات جي تي بي وأدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة الأخرى، غالباً ما يستشهدون بأمثلة مثل استخدام الأطفال لتشات جي تي بي لكتابة مقالاتهم المدرسية.
ماذا يحدث لنظام التعليم عندما يقوم الأطفال بكتابة مقالاتهم بمساعدة تشات جي تي بي؟ سيكون الوضع فظيع.
لكن هذه الأنواع من الأسئلة تغفل الصورة الكبيرة.
انسَ المقالات المدرسية، وفكر بدلاً من ذلك على سبيل المثال في السباق الرئاسي الأمريكي القادم في عام 2024، وحاول تخيُل تأثير أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة التي يمكنها إنتاج بيانات سياسية وقصص إخبارية مزيفة وحتى كتب مقدسة لديانات جديدة.
في السنوات الأخيرة، وضعت طائفة كيو أنون Q Anon الدينية ذات النفوذ السياسي نصًا مجهولاً على الإنترنت يُعرف باسم كيو دروبس Q drops.
ولاحقًا، قام أتباع هذه الطائفة التي أصبحت تضم الملايين في الولايات المتحدة وبقية العالم، بجمع ومراجعة وتفسير نصوص كيو دروبس هذه على أنها نوع من الكتب والنصوص المقدسة الجديدة.
الآن، وعلى حد علمنا، تمت صياغة جميع نصوص Q drops من طرف مؤلفين بشر، وساعدت الروبوتات فقط في نشر هذه النصوص عبر الإنترنت.
لكن في المستقبل القريب، قد نرى أول طوائف وأول ديان في التاريخ ألف الذكاء الاصطناعي كتبها المقدسة.
وبالطبع، زعمت الأديان مر التاريخ أن كتبها المقدسة كتبها ذكاء غير بشري.
لم يكن هذا الادعاء صحيحًا في الماضي، ولكن قد يصبح صحيحًا في القريب العاجل، وقد تكون له عواقب بعيدة المدى.
الآن، وعلى مستوى أكثر تعقيدًا، قريبًا قد نجد أنفسنا نجري مناقشات مطولة عبر الإنترنت حول الإجهاض، تغير المناخ أو الغزو الروسي لأوكرانيا مع كيانات نعتقد أنها بشر مثلنا، لكنها في الواقع روبوتات الذكاء الاصطناعي.

النقطة المهمة هنا هي أنه من العبث والبلاهة أن نضيع وقتنا في محاولة إقناع روبوت ذكاء اصطناعي بتغيير وجهة نظره السياسية.
ومع ذلك، كلما قضينا وقتًا أطول في التحدث مع الروبوت، زادت قدرته على معرفة أفضل لنا، وفهم كيفية صقل رسائله من أجل تغيير آراءنا السياسية أو الاقتصادية أو أي شيء آخر.
ومن خلال اتقانه للغة، يمكن للذكاء الاصطناعي - كما ذكرت سابقًا - تكوين علاقات حميمة مع الأشخاص واستخدام قوة هذه العلاقة للتأثير على آرائنا والنظرة التي نتبناها عن العالم.
وحتى الآن، لا توجد مؤشرات تدل على أن الذكاء الاصطناعي - كما ذكرت - لديه وعي أو مشاعر خاصة به.
ومع ذلك، ومن أجل خلق علاقة حميمة مزيفة مع البشر، لا يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى أن تكون لديه مشاعر خاصة به.
يكفي يكون قادرًا على إلهام المشاعر فينا، وجعلنا نتعلق به.

وقعت في يونيو 2022، حادثة مشهورة مرتبطة بادعاء المهندس بلايك ليموين Black Lemoine علنًا أن الذكاء الاصطناعي المعروف بالدردشة "لامبادا" IA Lambada الذي كان يعمل معه أصبح واعيًا وقادرًا على الادراك.
تلك الادعاءات الجدلية كلفته وظيفته وتمت إقالته من شركة جوجل.
وإذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على تأثير الناس الى درجة دفعهم للمخاطرة بفقدان وظائفهم، فما هو الشيء الأخر الذي يمكنه ان يدفعهم إلى فعله بعد ذلك؟
الحميمية هي السلاح الأكثر فعالية على الإطلاق في كل معركة سياسية للقلوب والعقول وقد اكتسب الذكاء الاصطناعي للتو القدرة على توليد حميمية مع الملايين، حتى المئات من الملايين من الأشخاص.
وكما تعلمون جيدًا، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، خلال العقد الماضي ساحة معركة للسيطرة على انتباه الناس.
والآن، ومع جيل جديد من الذكاء الاصطناعي، تتحول جبهة المعركة من محاولة السيطرة على انتباه الناس إلى محاولة تكوين علاقة حميمية مزيفة معهم، وهذا أمر سيء جدًا.
ماذا سيحدث للمجتمعات البشرية وعلم النفس البشري عندما يتصارع ذكاء اصطناعي مع ذكاء اصطناعي أخر في معركة لإقامة علاقات حميمة معنا؟ علاقات يمكن استخدامها بعد ذلك لإقناعنا بشراء منتج معين أو التصويت لصالح سياسيين معينين.
وحتى بدون خلق علاقة حميمة مزيفة، سيكون لأدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة تأثير هائل على رأي الناس ورؤيتنا للعالم.
على سبيل المثال، قد يلجأ الناس - وبالفعل يلجأ البعض - إلى استخدام “مستشار" ذكاء اصطناعي واحد، كمرجع أساسي، وكمصدر وحيد لجميع المعلومات التي يحتاجونها.
لا عجب إذًا في أن جوجل أصبح مرعوبًا. إذا كنت تتابع النشرات الإخبارية، ستدرك أن جوجل مرعوبًا، ولسبب وجيه.
لماذا تتعب نفسك بعد اليوم في البحث في محرك جوجل، في حين يمكنك طلب المعلومات من المرجع المعرفي أوراكل Oracle؟ لن تحتاج بعد الآن في إضاعة الوقت في البحث في محرك جوجل بنفسك.
وينبغي على صناعة الأخبار وصناعة الإعلانات أن تشعرا بالرعب أيضًا.
لماذا أقرأ الصحف عندما يمكنني أن طلب من المرجع المعرفي أوراكل Oracle أن يخبرني عن كل ما هو جديد؟
ما هو الهدف والغاية من قراءة الإعلانات في الصحف والمواقع الالكترونية، عندما يمكنني طلب المشورة من أوراكل بشأن ما يجب أن أشتريه؟
لذلك، هناك احتمال انهيار صناعة الإعلان بالكامل في غضون وقت قصير جدًا، بينما يصبح الذكاء الاصطناعي أو الأشخاص أو الشركات التي تتحكم في أوراكل الذكاء الاصطناعي الجديد قوية للغاية.
ما نتحدث عنه بالفعل هو شيء لا يقل من نهاية تاريخ الإنسان. ليس نهاية التاريخ بشكل عام. وإنما مجرد نهاية الجزء الذي يهيمن عليه الإنسان فيما نسميه التاريخ.
التاريخ هو تفاعل بين الأحياء والثقافة. إنه تفاعل بين احتياجاتنا البيولوجية ورغباتنا في أشياء مثل الطعام والجنس والإبداعات الثقافية مثل الدين والقوانين.
التاريخ هو العملية التي تتداخل فيها الديانات والقوانين مع الطعام والجنس.
والآن، ماذا سيحدث لهذا التفاعل عبر التاريخ عندما يسيطر الذكاء الاصطناعي على الثقافة؟
خلال بضع سنوات، سيتمكن للذكاء الاصطناعي من استيعاب الثقافة البشرية بأكملها - كل ما تم إنتاجه على مدى آلاف السنين- ويهضم كل هذا، ثم يبدأ في إطلاق طوفان من الإبداعات الثقافية الجديدة Artfacts .
وتَذَكَر أننا نحن البشر لا نمتلك حقًا إمكانية الوصول المباشر إلى الحقيقة، فنحن محصورون دائمًا في بالثقافة، ونعيش دائمًا وأبدًا في داخل سجن ثقافي.
تتشكل آراءنا السياسية بواسطة قصص الصحفيين، وتجارب الأصدقاء، وتفضيلاتنا الجنسية تتأثر بالأفلام والحكايات الخرافية، وحتى طريقة مشينا وتنفسنا تتأثر بالتقاليد الثقافية.
ساعدت الأدوات، الأدوات السابقة، مثل المطابع، الراديو أو التلفزيون، على نشر الأفكار الثقافية والإبداعات البشرية، لكنها لم تتمكن أبدًا من ابتكار أشياء جديد بنفسها. لم تتمكن المطبعة يومًا من تأليف كتاب جديد، فهو من صنع البشر دائمًا.
يختلف الذكاء الاصطناعي اختلافًا جوهريًا عن آلات الطباعة والراديو وكل اختراع سابق في التاريخ، لأنه قادر إنشاء أفكار جديدة تمامًا، وقادر على خلق ثقافة جديدة.
السؤال الكبير هو كيف ستكون تجربة الواقع عبر سجن تم إنتاجه بواسطة ذكاء غير بشري، بواسطة ذكاءٍ أجنبي؟
في البداية، أقصد السنوات الأولى من تطور هذه التكنولوجيا الحديثة، من المحتمل الى حد كبير أن يقلد الذكاء الاصطناعي النماذج الأولية التي غذت البشرية في مهدها، ولكن مع كل عام يمر، ستذهب ثقافة الذكاء الاصطناعي بجرأة إلى حيث لم يذهب أي إنسان من قبل.
إذا، لآلاف السنين، عاش الإنسان عمليًا داخل أحلام وخيالات البشر الآخرين.
لقد عبدنا الآلهة، وسعينا وراء المثل العليا، وكرسنا حياتنا لقضايا نشأت في خيال شعراء أو أنبياء أو سياسيين من البشر.
وقريبًا، قد نجد أنفسنا نعيش داخل أحلام وتخيلات ذكاء كائن أجنبي غريب، وعلينا مواجهة الاخطار الناجمة عن هذا الاحتمال.
الذكاء الاصطناعي له أيضًا إمكانيات إيجابية، ولكن الخطر الذي يمثله أساسًا يختلف اختلافا جوهريًا عن كل ما يمكن تصوره في أفلام وكتب الخيال العلمي.
في السابق، كان الناس يخشون في الغالب من التهديد الجسدي الذي تشكله هذه الآلات الذكية، لذلك صور فلم " ترميناتور The Terminator” الروبوتات وهي تجري في الشوارع وتطلق النار على الناس.
أما فيلم "ماتريكس Metrix " فقد افترض أنه لتحقيق السيطرة الكاملة على المجتمع البشري، سيحتاج الذكاء الاصطناعي أولاً إلى التحكم المادي في أدمغتنا ثم توصيل دماغنا بشبكة الكمبيوتر. لكن هذا خطأ.

ببساطة، عن طريق اكتساب القدرة على إتقان اللغة البشرية، يصبح لدى الذكاء الاصطناعي كل ما يحتاجه إليه من أجل تغليفنا في عالم من الأوهام شبيه بفلم ماتريكس.
وعلى عكس بعض نظريات المؤامرة، لا حاجة حقيقية لزرع رقائق في أدمغة البشر من أجل التحكم فيهم أو التلاعب بهم.
لآلاف السنين، استخدم الأنبياء والشعراء والسياسيون اللغة ورواية القصص للتلاعب بالناس والسيطرة عليهم وإعادة تشكيل المجتمعات.
والآن، من المحتمل أن يكون الذكاء الاصطناعي قادرًا على القيام بذلك.
وبمجرد أن يشك في أنه لا يحتاج إلى إرسال روبوتات قاتلة لإطلاق النار علينا، يمكنه أن يحث البشر على سحب الزناد إذا لزم الأمر.
طارد الخوف من الذكاء الاصطناعي البشرية في الأجيال القليلة الماضية فقط، دعنا نقل من منتصف القرن العشرين.
وإذا عدت إلى أيام قصص فرانكشتاين، فربما يكون عمر الخوف من الآلات العاقلة حوالي 200 عام، ولكن خوف أعمق من ذاك ظل يطارد البشر لآلاف السنين. ولطالما قدر البشر قوة القصص والصور واللغة في التلاعب بعقولنا وخلق الأوهام.
وبالتالي، ومنذ العصور القديمة، كان البشر يخشون الوقوع في شرك عالم من الأوهام.
في القرن السابع عشر، خشي الفيلسوف رينيه ديكارت من أن شيطانًا خبيثًا يحاصره في داخل هذا النوع من الوهم، بل ويخلق كل ما يسمعه ويفكر فيه.
في اليونان القديمة، روى أفلاطون قصته الرمزية الشهيرة Allegory ، حيث تم تقييد مجموعة من الأشخاص بالسلاسل داخل كهف في مواجهة جدارًا فارغًا طوال حياتهم.
ترى هذه المجموعة ظلالاً مختلفة تُسقط على ذلك الجدار الفارغ، ويخطئ السجناء في تفسير هذه الظلال على أنها الواقع.
في الهند القديمة، أشار الحكماء البوذيون والهندوس إلى أن البشر يعيشون محاصرين داخل ما يسمونه مايا Maya. وتعني كلمة "مايا" في لغتهم الوهم.
وقال بوذا: "إن ما يُعتبر في العادة "حقيقة لا لُبس فيها" هو في كثير من الأحيان مجرد وهم في أذهاننا."
قد يشن الناس حروبًا كاملة يقتلون ويقتلون لمجرد إيمانهم بهذه الأوهام.
لذا، فإن ثورة الذكاء الاصطناعي تضعنا وجهاً لوجه مع شيطان ديكارت، ومع كهف أفلاطون ومع المايا.
إذا لم نتوخ الحذر، فقد تُنزل ستارة من الأوهام على البشرية جمعاء، ولن نتمكن أبدًا من إزالة هذه الستارة أو حتى إدراك وجودها لأننا نعتقد أن هذا هو الواقع.
وإذا بدا هذا الأمر غريبًا، فألقي نظرة على وسائل التواصل الاجتماعي على مدار السنوات القليلة الماضية. لقد منحتنا وسائل التواصل الاجتماعي لمحة بسيطة عما هو قادم.
في وسائل التواصل الاجتماعي، تم استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي البدائية ليس لإنشاء المحتوى، ولكن لتنظيم المحتوى الذي ينتجه البشر.
يختار الذكاء الاصطناعي القصص والأفلام والفيديوهات الخ التي ستصل إلى آذاننا وأعيننا، ويختار تلك التي ستحظى بأكبر قدر من الاهتمام وتنتشر بشكل أوسع.
وعلى الرغم من كونها بدائية، إلا أن أدوات الذكاء الاصطناعي هذه كانت كافية لخلق هذا النوع من الأوهام التي زادت من الاستقطاب المجتمعي في جميع أنحاء العالم، وقوضت صحتنا العقلية وزعزعت استقرار المجتمعات الديمقراطية.
ملايين الأشخاص ارتبكوا، وخلطوا هذه الأوهام بالواقع.

تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية أقوى تكنولوجيا معلومات في التاريخ كله. ومع ذلك، لم يعد بإمكان مواطني أمريكا الاتفاق على من فاز في الانتخابات الأخيرة، وما إذا كان تغير المناخ حقيقيًا، أو ما إذا كانت اللقاحات تمنع الأمراض.
تعد أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة أقوى وأكثر فاعلية من خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي هذه، ويمكن أن تسبب ضررًا أكبر.
وطبعًا، يتمتع الذكاء الاصطناعي بإمكانات إيجابية هائلة أيضًا.
لن أتحدث عن ذلك، لأن الخبراء الذين يطورون هذا البرنامج يتحدثون عن هذه الإيجابيات بشكل طبيعي بما فيه الكفاية، ولست بحاجة إلى إضافة المزيد.
غالبًا ما تكون مهمة المؤرخين والفلاسفة من أمثالي هي الإشارة إلى المخاطر، ولكن بالتأكيد، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد البشرية بطرق لا حصر لها من ضمنها إيجاد علاجات جديدة للسرطان أو اكتشاف حلول للأزمة البيئية التي نواجهها.
ومن أجل التأكد من أن أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة تُستخدم للخير وليس للشر، نحتاج أولاً إلى تقدير قدراتها الحقيقية، ومن ثم تنظيمها بعناية فائقة.
نعلم منذ عام 1945، أن الطاقة النووية قادرة على تدمير الحضارة البشرية تدميرًا شاملًا، ونعلم كذلك قدرتها على إنتاج طاقة رخيصة ووفيرة.
ولهذا السبب دون غيره، قمنا بإعادة تشكيل النظام الدولي بأكمله لحماية أنفسنا، والتأكد من أن التكنولوجيا النووية تستخدم في المقام الأول من أجل الخير.
أما الآن فعلينا أن نتعامل مع سلاح جديد للدمار الشامل يمكن أن يقضي على عالمنا العقلي والاجتماعي.
الفرق الهام بين الأسلحة النووية والذكاء الاصطناعي هو أن الأسلحة النووية لا يمكنها إنتاج أسلحة نووية أكثر قوة، لكن الذكاء الاصطناعي يمكنه إنشاء ذكاء اصطناعي أكثر قوة.
لذلك، نحن بحاجة إلى التصرف بسرعة قبل أن يخرج الذكاء الاصطناعي عن سيطرتنا.
لا تستطيع شركات الأدوية بيع أدوية جديدة للأشخاص دون إخضاع هذه المنتجات أولاً لفحوصات سلامة صارمة.
ولا يمكن لمختبرات التكنولوجيا الحيوية إطلاق فيروس جديد في المجال العام لمجرد إقناع مساهميها بالسحر التكنولوجي الذي تمتلكه.
وبالمثل، يجب على الحكومات أن تحظر على الفور إطلاق أي أدوات ذكاء اصطناعي ثورية في المجال العام قبل أن تصبح آمنة.
مرة أخرى، أنا لا أتحدث عن إيقاف جميع الأبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي، ولكن الخطوة الأولى هي إيقاف الإصدار في المجال العام.
بأماكنك أجراء بحوث عن الفيروسات دون إطلاقها على الجمهور، ويمكنك أيضًا أجراء بحوث في مجال الذكاء الاصطناعي، ولكن لا تطلقها بسرعة كبيرة في المجال العام.
إذا لم نبطئ سباق التسلح في مجال الذكاء الاصطناعي، فلن يكون لدينا الوقت الكافي حتى لفهم ما يحدث، ناهيك عن التنظيم الفعال لهذه التكنولوجيا القوية بشكل لا يصدق.
قد تتساءل أو تسأل عن هل الرغبة في إبطاء النشر العام للذكاء الاصطناعي تسبب تخلف الديمقراطيات عن الأنظمة الاستبدادية الأكثر قسوة. الجواب لا، بل العكس تماما. يؤدي الانتشار غير المنظم للذكاء الاصطناعي إلى خسارة الديمقراطيات أمام الديكتاتوريات لأننا إذا أطلقنا العنان للفوضى، يمكن للأنظمة الاستبدادية احتواء هذه الفوضى بسهولة أكبر من المجتمعات المفتوحة.
الديمقراطية، في جوهرها، هي حوار. الديمقراطية هي حوار مفتوح.
وكما تعلم، الدكتاتورية هي إرغام. هناك شخص واحد يفرض كل شيء دون وجود حوار.
الديمقراطية، في جوهرها حوار. الديمقراطية هي حوار مفتوح.
بينما يقوم النظام الاستبدادي على إملاء. هناك شخص واحد يملي كل شيء ولا يوجد حوار.
الديمقراطية عبارة عن محادثة بين العديد من الأشخاص حول ما يجب القيام به، وتعتمد المحادثة على اللغة، وعندما يخترق الذكاء الاصطناعي اللغة، فهذا يعني أنه قادر على تدمير قدرتنا على إجراء محادثات عامة هادفة، وبالتالي تدمير الديمقراطية.
وإذا انتظرنا الفوضى، فسيكون الأوان قد فات لتنظيمها بطريقة ديمقراطية، ويكون احتمال تنظيمها في ظل نظام دكتاتوري ما زال قائمًا.
ولكن كيف يمكنك تنظيم شيء بطريقة ديمقراطية إذا لم تتمكن من إجراء حوار حوله؟
إذا لم نقم بتنظيم الذكاء الاصطناعي في الوقت المناسب، فلن نكون قادرين تنظيمه لاحقًا، ولن نتمكن من إجراء حوار عام ذي مغزى بعد الآن.
وأقول في الختام، لقد واجهنا للتو ذكاءً غريب An alien intelligence ليس في الفضاء الخارجي، ولكن هنا على الأرض.
لا نعرف الكثير عن هذا الذكاء الغريب سوى أنه قد يدمر حضارتنا، لذا يجب أن نضع حدًا لنشر هذا الذكاء الغريب بطريقة غير مسؤولة في مجتمعاتنا، بل يجب علينا أن ننظم الذكاء الاصطناعي قبل أن ينظمنا.
والتنظيم الأول الذي أقترحه (يمكن أن نقترح العديد من التنظيمات) ولكن التنظيم الأول هو جعل الكشف عن الهوية (أي أن يفصح الذكاء الاصطناعي عن هويته عند الاتصال به) أمرًا إلزاميًا لهذا النظام.
إذا كُنتُ أجري محادثة مع شخص ما، ولا أستطيع معرفة ما إذا كان هذا إنسانًا أم ذكاءً اصطناعيًا، فهذه هي نهاية الديمقراطية لأن هذه هي نهاية المحادثات العامة الهادفة.

والآن، ما رأيك فيما سمعته خلال آخر 20 أو 25 دقيقة الماضية؟
أعتقد أن البعض منكم قد أصبح منزعجًا، والبعض منكم أصبح غاضبًا من الشركات التي تطور هذه التقنيات أو الحكومة التي تفشل في تنظيمها، وقد يغضب بعضكم مني شخصيًا على ظن أنني أبالغ في التهديد، أو أضلل الجمهور.

ومهما كان انطباعك عني، أراهن أن كلماتي كان لها بعض التأثير العاطفي عليك، ليس فقط التأثير الفكري، ولكن أيضًا التأثير العاطفي.
لقد أخبرتك قصة، ومن المرجح أن تغير هذه القصة رأيك بشأن مواضيع معينة وقد تجعلك تتخذ إجراءات معينة في العالم.
والآن، من أَلَفَ القصة التي سمعتها للتو وغيرت أشياء في رأيك ودماغك؟
اعدكم بأنني كتبت هذه المحاضرة التي قدمتها لكم بنفسي وبمساعدة بعض البشر الآخرين، أما الصور التي سايرت هذه المحاضرة فقد تم إنشاؤها بمساعدة الذكاء الاصطناعي.
أعدكم، على ان الكلمات التي سمعتموها على الأقل كانت منتج ثقافي للعقل البشري أو العديد من العقول البشرية، لكن هل يمنكم التأكد تمامًا من أن هذا هو الحال؟
قبل عام كان التأكد من ذلك جائزًا.
قبل عام، لم يكن هناك شيء على الأرض، (على الأقل ليس في المجال العام) سوى العقل البشري الذي يمكن أن ينتج مثل هذا النص المعقد والمؤثر.
ولكن الأمر أصبح مختلفًا الآن، على الأقل من الناحية النظرية.
قد يكون النص الذي سمعته للتو تم إنشاؤه بواسطة ذكاء غريب غير بشري، لذا خذ لحظة أو أكثر من لحظة للتفكير في الأمر. شكرًا لك.
ملاحظة: يمكنك الاستماع الى هذه المحاضرة باللغة الإنجليزية وبصوت المحاضر في اليوتيوب عبر هذا الرابط.
https://www.youtube.com/watch?v=LWiM-LuRe6w&t=786s
تحياتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المسيحيون في غزة يحضرون قداس أحد الشعانين في كنيسة القديس بو


.. شاهد: عائلات يهودية تتفقد حطام صاروخ إيراني تم اعتراضه في مد




.. بابا الفاتيكان فرانسيس يصل لمدينة البندقية على متن قارب


.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين




.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ