الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدخل إلى المادية الجدلية والمادية التاريخية (3) لمحة عن تاريخ الفلسفة المادية

عمر أبو رصاع

2006 / 10 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


(3) لمحة عن تاريخ الفلسفة المادية
بينا فيما سبق أن الفلسفة المادية هي التي تنطلق من موقف فلسفي مفاده أولوية المادة على الوعي ، وأن الوعي بالضرورة مظهرا من مظاهر المادة ، في هذا المبحث سنحاول تتبع تاريخ الفلسفة المادية بدأ بجذورها عند الإغريق.

في العصر الإغريقي والروماني ظهرت النزعة الفلسفية المادية عند ديمقريطس وأبيقور ولوكريتوس ، وتأسس موقفهم المادي من الوجود على أن الكون والوجود بعامة يمكن أن يتم تفكيكه إلى أجزاء متناهية في الصغر هذه الأجزاء لا تقبل التجزيء بعد ؛ أي الجزء الذي لا يتجزء ، وأن هناك قوانين صارمة ضرورية تنظم ماديا هذا الوجود بما في ذلك وجود الإنسان.
هدف هذا الموقف الفلسفي إلى مقاومة الخرافات والخوف من الموت ، وبشكل خاص الموقف الذي دافع عنه ديمقريطس "لا شيء يأتي من العدم".

ظلت الفلسفة المادية تراوح مكانها ولا تتقدم وبشكل خاص طوال القرون الوسطى والتي وإن شابتها بعض التحركات ذات النزعات المادية حتى عند العرب (1) إلا أنها أي القرون الوسطى ظلت أسيرة الهيمنة الدينية فالعصور الوسطى هي النموذج المثالي لهيمنة الفكر الديني والمثالي عامة حتى لدى منتهجي ضروب الفلسفة.

في إرهاصات عصر النهضة (Renaissance) نشطت النزعة الإنسانية(2) التي ركزت بشكل خاص على الإنسان أي النزعة الإنسانية في الفلسفة (Secular humanism)استطاع هذا النزوع أن يحرر الفكر الإنساني من قبضة المؤسسة الدينية الممثلة بالكنيسة الكثوليكية ، وجاء متسقا مع الطفرة التي راحت تشهدها مختلف العلوم وبشكل خاص الفيزياء والهندسة وجاءت قوانين اسحاق نيوتن في الحركة لتعطي دفعة قوية للفلسفة المادية نحو ميلاد المادية الفيزيائية ، وهي مذهب مادي شديد الفجاجة لما اتسم به من نزوع إلحادي شديد ومن تفسير حركي فيزيائي صارم للوجدود وإهمال كامل لما هو قيمي والتركيز فقط على الجانب المعياري ، فهي في نظرية المعرفة ترد المعرفة كليا للحواس وحدها ، وترى الكون كل مؤلف من أجسام مادية تجري فيه أحداث الطبيعة وفقا لوقوانين صارمة دقيقة موضوعية وضرورية وعليه فإن كل مظاهر الوعي عند الإنسان تتوقف تماما على التركيب الجسماني للإنسان، من أبرز ممثليها في فرنسا القرن الثامن عشر لامتري ، وهولبالك وهلفسيوس (3).

في القرن التاسع عشر بدأ ظهور المادية العلمية التي مثلها في ألمانيا فوجت (Vogt) ومولشت
(Molesechott) ، وكابانيس في فرنسا ، وبلغت أوجها مع أرنست هكل (Haekel) في مذهبه الفلسفي المادي الواحدي (Monisnus) (4) حيث يؤسس هكل نظرته المادية للوجود طبيعيا .

إلا أن المثالية أنجزت نقلة نوعية مهمة في الفلسفة مثلها الفيلسوف الألماني الكبير هيجل صاحب الجدل (الديالكتيك) الذي بات أهم فلاسفة عصره وجاءت فلسفته منسجمة مع انتصار البرجوازية الأوربية على الأرستقراطية الاقطاعية وهيمنة النظام الراسمالي ، إبان وفات هيجل سنة 1831 انقسم اشياع فلسفته إلى يمين محافظ ويسار ثائر ولعل أبرز ما تميز به الهيغليين اليساريين ثورتهم على الكنيسة والدولة معا حاملين لنزوع متحرر تماما من كل تلك القيود وبكل أشكالها وكان أبرز هؤلاء الفيلسوف الألماني ليدويغ بول فيورباخ (Ludwig Paul Feuerbach) الذي انتقل من التأييد العارم لهيغل في مطلع شبابه وتمثل هذا التأيد في قمته عندما أهداه رسالته التي تخرج بها من جامعة برلين والتي كانت بعنوان (في العقل الواحد الكلي اللا متناهي) سنة 1826 ، وصولا إلا أهم اسهاماته في النزعة الانسانية الملحدة في كتابه الذي صدر عام 1841 (ماهية المسيحية) والذي صار كتابا مقدسا بالنسبة لأنصار النزعة الإنسانية الملحدة قبل أن يتحول مع كتابه (ماهية الدين) الذي أصدره عام 1845 من النزعة الانسانية إلى النزعة الطبيعية ، كان من أهم المتأثرين بفيورباخ ماركس وانجلز .

ففي عام 1848 انتصرت الثورة البرجوازية في سائر انحاء أوربا وهنا حدث تحول خطير في مواقف الطبقة البرجوازية فانتقلت من تبني الفلسفة المادية عامة أو لنقل بدقة الموقف المادي التقدمي - حيث لم تكن الفلسفة المادية إلى حينه قد اتخذت شكلها العلمي بعد – إلى تبني الموقف المثالي الميال للمحافظة واستلهام الدين دفاعا عن ما حققته من مكاسب ، فإذا كان الدين يوظف برغماتيا (مصلحيا) في خدمة الطبقة المستفيدة من النظام القائم فمن الطبيعي أم البرجوازية قبل اتمامها لانتصارها على الأرستقراطية كانت في حالة عداء مع المؤسسة الدينية لكونها متحالفة – أي المؤسسة الدينية – مع الأرستقراطية الإقطاعية ، لكن بما أن البرجوازية أتمت انتصارها على الأرستقراطية الإقطاعية بدا لها وهذا منطقي التحالف مع تلك المؤسسة الدينية لتدعم مكاسبها وتحافظ عليها ، لقد بدا آن ذاك أن اليمين الهيغلي متحالف كليا مع البرجوازية والأكلريوس الديني الأمر الذي لفت نظر اليساريين الهيغليين الشباب إلى أهمية فيورباخ هنا ، هذا اليسار الهيغلي ادرك مبكرا التحول المحافظ للبرجوازية ومقاوتها للنزعة التقدمية التي تميزوا بها ، بدت المشكلة واضحة ، إن كل من يقاوم التقدم التاريخي هو المستفيد من الوضع القائم وهو أيضا حليفا للمؤسسة الدينية التي توظف المعتقدات الدينية خدمة لمصالحه وحفاظا على النظام القائم ، لقد اتضحت لماركس مسألة أن الدين ليس هو المحرك بل الطبقة والصراع الطبقي والديل أن هذه المؤسسة الدينية هي نفسها التي كانت بالأمس حليفا للأرستقراطية الإقطاعية وها هي اليوم حليفا للبرجوازية المنتصر كتب :


كان التقدم [عند جماع النقد الفلسفي الألماني] يستقيم في تصنيف التصورات الميتافيزيقية والسياسية والحقوقية والأخلاقية وغيرها من التصورات ، التي تزعم السيادة لها، في صنف التصورات الدينية أو اللاهوتية وكذلك في المناداة بأن الوعي السياسي والحقوقي والأخلاقي –"الإنسان" في آخر تحليل – هو إنسان ديني. كانت هيمنة الدين أمراً مفرغا منه (5



ويتضح هذا الانقسام الهيغلي بتعبير كل من ماركس وانجلز عندما يكتبان :

إن الهيغليين الشباب لـ متفقون مع الهيغليين الشيوخ في الإيمان، في العالم القائم بسيطرة الدين ، والمفاهيم، والمبدأ العمومي. سوى أن الفريق الواحد يهاجم هذه السيادة على أنها اغتصاب، بينما يمجدها الفريق الآخر على أنها سيادة شرعية (6)



لقد ادرك ماركس وانجلز إذن أن المسألة ليست كما تصورها هيغل (جدل أفكار) وسنعود لهذا في حينه ، إلا أن ما يهمنا في هذا المقام أن نبين أهمية فيورباخ في خط الفلسفة المادية وبلورته.

لقد بلغ أثر فيورباخ مداه عندما هاجم الهيغلية نفسها متهما اياها بأنها فلسفة مثالية محافظة وتناقض علمية المادية .

أهمية فيورباخ إذن أنه ضرب الهيغلية في مقتل ، هذا المقتل تمثل في رفضه القاطع للأساس المثالي للهيغلية ممثلا بقضية التفكير المجرد أو جدل الأفكار عند هيغل وصولا إلى الفكرة المطلقة التي صب فيورباخ عليها جام نقده ، فالعالم أبدا ليس نتاج تطور جدلي فكري محض بل محركه هو المادة والإنسان هو نتاج المادة وصراعه مع الوجود المادي هو الذي يدفعه إلى تطوير فكره وليس العكس أي أن تطور الفكر هو الذي يطور الوجود المادي كما هو الحال عند هيغل ، فيورباخ ينتقل كليا من الفكرة المطلقة عند هيغل إلى الإنسان المحسوس.

إلا ان علة فيورباخ عند ماركس أنه انتقل أيضا إلى إنسان متجرد ، إنه يدرس الإنسان كما لو كان وحدة معزولة تحركها أناها المادية فقط ، انسان فويرباخ إذن، هو شيء، وليس علاقة اجتماعية. هو موضوع للتأمل والحدس، وليس ذاتا فاعلة، ونشاطا انسانيا ملموسا، أي ممارسة اجتماعية.

كتب ماركس :


إن العيب الرئيسي لكل مادية، لحد الآن، بما فيها مادية فويرباخ، يكمن في كون الموضوع الخارجي، الواقع، الحسي، لا ينظر إليهم إلا في شكل موضوع أو حدس، وليس كنشاط انساني حسي.. كممارسة اجتماعية.. كذات.. إن الجوهر الانساني، ليس شيئا مجردا ملازما لطبيعة الفرد المشخص. بل هو في واقعه، مجموع العلاقات الاجتماعية…….. وحين لا يعمل فويرباخ على توجيه النقد إلى ذلك الجوهر الواقعي، فإنه يجد نفسه مضطرا، بالنتيجة، إلى تجريد مسار التاريخ، ومعالجة الحس الديني كواقع في ذاته، قائم على افتراض وجود فرد بشري مجرد ومعزول. (7)



إلتقط ماركس وانجلز الفكرة الفيورباخية هذه ، لكن لم يتناسوا نقطة التفوق الهيغلية ؛ ذلك أن الهيغلية تمتلك نظرة متماسكة للتاريخ إنها نظرية تضع الإنسان في مخطط للتطور التاريخي في سلسلة مترابطة من التطور الجدلي ، بينما مادية فيورباخ هي مادية ذاتية تعزل الإنسان ولا تقدم تصورا لمسألة التطور التاريخي للوجود الإنساني.

من هذه النقطة إنطلق ماركس وانجلز إلى العمل الهام الذي أنجزاه وهو إعادة هرم الديالكتيك – الجدل للوقوف على قاعدته لا على رأسه ، هذا هو جوهر عمل ماركس وانجلز

انطلقا من ما أدركاه سواء من نقد فيورباخ لهيغل أو من خلال رؤيتهما للمحرك المادي الاجتماعي الاقتصادي الحقيقي للتطور هذا بالضبط مضمون عبارة ماركس الشهيرة:

ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم (8)



هكذا كان عمل ماركس وانجلز على حد تعبيريهما :


وجدنا الديالكتيك رأسا على عقب فأعدناه لوضعه الطبيعي




وهذا تماما ما سنقوم بمناقشته في هذا المدخل مكتفين بشرح المادية الجدلية والتاريخية عند ماركس وانجلز علما بأن هناك إثراءات كثيرة لاحقة ومنها المعاصر الذي يستحق فعلا أن يطرح وربما نعود لهذا بعمق أكبر في نشرات مقبلة.


(يتبع)


------------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) للمزيد حول النزعات المادية في عصر إزدهار الثقافة العربية أنظر
مروة، حسين ، (1985)– النزعات المادية في الإسلام بجزئيه – بيروت.

(2) Secular humanism: belief in rational man as a source of his own salvation and a rejection of the supernatural

الفلسفة الدنيوية انسانية النزعة : الايمان بالانسان العاقل كمصدر لخلاصه ورفض الظواهر الخارقة للطبيعة.
إنها النزعة التي أسست لفهم التاريخ والانسان والمجتمع على أسس الواقع ، وتحديدا للعقلانية الانسانية في الخلاص بكل ما يعنيه الخلاص حتى في الجانب الديني ويأتي هذا متوافقا مع حركة الاصلاح الديني التي انتشرت في أوربا إبان العصور الوسطى ، لقد ارتبطت النهضة الأوربية ارتباطا وثيقا بهذه النزعة التي حررت العقل الانساني من سلطة الكهنوت الديني.

(3) أنظر : بدوي ، عبد الرحمن، (1984). موسوعة الفلسفة ، (ط1)، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ج2 ، ص 407.

(4) "المذهب القائل بمبدأ واحد للوجود أو بجوهر واحد .............فالمذهب الذي يقول إنه لا يوجد في الكون إلا مبدأ واحد هو المادة يعد واحديا تماما مثل المبدأ الذي يقول إنه لا يوجد إلا مبدأ واحد هو الروح أو العقل ، ومن هنا فالواحدية إما أن تكون مادية محضة وإما أن تكون روحية محضة"
المصدر السابق – ص 623
أنظر أيضا :
هكل ، (1899)، لغز العالم . هكل، (1868)، التاريخ الطبيعي للخلق ، (ط10 عام 1902)

*ملاحظة: يجب التنبه وعدم الخلط بين الواحدية ومذهب وحدة الوجود.

(5) ماركس وانجلز، ترجمة إلياس شاهين ،(1988) ، الإديولوجية الألمانية ، (طبعة دار التقدم) ، ص 24.

(6) نفس المصدر والصفحة.

(7) ماركس ، كارل ، (1888) لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ، ص 86.

(8) الإديولوجيا الألمانية : سبق ذكره.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة ..هل يستجيب نتنياهو لدعوة غانتس تحديد رؤية واضحة للحرب و


.. وزارة الدفاع الروسية: الجيش يواصل تقدمه ويسيطر على بلدة ستار




.. -الناس جعانة-.. وسط الدمار وتحت وابل القصف.. فلسطيني يصنع ال


.. لقاء أميركي إيراني غير مباشر لتجنب التصعيد.. فهل يمكن إقناع




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - نحو 40 شهيدا في قصف إسرائيلي على غ