الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثالوث المعرفة التنويرية في الغرب الإسلامي

ادريس الواغيش

2023 / 6 / 17
الادب والفن


بقلم: إدريس الواغيش

بعيدا عن بهارات التكنولوجيا الحديثة التي أدخلتنا سواء بالإغراء أو الغصب في دوامة العولمة، وبعدها غزت عالمنا وبيوتاتنا، وأثرت بالسلب والإيجاب على سلوكيتنا وعاداتنا، حتى أصبحنا عبيدا لها في كثير من الحالات. ولكن، دعنا تساءل هنا في براءة وبرودة أعصاب: هل نحن قادرون على إنتاج معرفة تليق بالعصر الذي نعيش فيه؟ وهل بإمكاننا، عربا ومسلمين، بناء مجتمع معرفي يليق بإرثنا التاريخي والمعرفي، ويحلق بنا أعلى ممّا نحن فيه من درك حضاري بين الأمم المتقدمة؟
بعيدا عن تشريح هذه ال "معرفة" وماهيتها، والخوض في فصلها وأصلها ومفاهيمها الأكثر اشتباكا وتعقيدا، فإننا لا نجد لها أثرا في كثير من الكتب المتداولة في مختلف الأجناس الإبداعية والفكرية في الوقت الراهن. المسلمون والعرب، من جهتهم، لم ينتجوا معرفة تليق بتاريخهم منذ القرون الوسطى، أما أوروبا والغرب فلم يكونا أحسن منا حالا، جفت ينابيع المعرفة في مهدها بكل من ألمانيا وفرنسا منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى حدود القرن العشرين، ولم نعد قادرين على إنتاج معرفة ترجُّ الكون وتغيّر من أحواله وسكونه في بعده الإنساني، وأصبحنا نكتفي بإعادة إنتاج نفس المعرفة السابقة، وتدويرها بشكل سيّء في أحسن الأحوال.
أغلبية المبدعين والمفكرين العرب، حتى لا أعمّم، فيما أعلم ولا أعلم، لا يمتلكون الجرأة الحقيقة لطرح أسئلة مستفزة وجديرة بالعصر الذي نعيش فيه، إما خوفا من ضغط اجتماعي أو من محاصرة أسئلة قد تهدد أمنهم الداخلي، ولذلك نجدهم يكتفون بأخذ أفكارهم من كتب أخرى مترجمة أو بلغاتها الأصلية من ثقافات قديمة، بعضها يكاد يكون منسيا، وينسبونها لأنفسهم، ثم ينشرونها كمعرفة جديدة خاصة بهم، ويوهمون القارئ بأنها ملكية خالصة، والحقيقة هي غير ذلك، ويتناسون أنهم بذلك يعيدون إنتاج معرفة قديمة أنتجها غيرهم، وكان دورهم أن صاغوها بشكل جديد ولكن رديء. ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: ماذا نقرأ، لكي نعرف ونكتب ونؤلف؟ وحتى نكتب عنه أو ننتج منه، بعد عمليتي الهضم والاستيعاب، معرفة جديدة تليق بعصرنا؟ الواقع هو أن الكل يكتب ويفكر، ولكن ماذا ينتج؟ وكم يقرأون من الكتب؟ سأعتمد هنا على ثلاثة نماذج من الغرب الإسلامي، نموذج واحد من المغرب واثنان من الأندلس، كل نموذج طوّر نفسه في مجال اشتغاله، كل في زمانه ومكانه وتخصصه، وأعطانا شيئا جديدا في الفكر (ابن رشد) والتصوف (ابن عربي، والشعر(السرغيني)، لا شيء فيما أنتجوه فيما أعلم، يتشابه مع علم ومعرفة من سبقوهم.
النموذج الأول هو الفيلسوف ابن رشد، درس الفلسفة اليونانية القديمة والشريعة الإسلامية، واستوعب الاثنتين معا، وأمكنه إنتاج معرفة جديدة تآلف بين الفلسفة والشريعة، واعتبر أن الاثنتين لا تختلفان في البحث عن الحقيقة الخالصة، وكل منهما يصب في خانة واحدة، ولا يتعارضان، بل يكملان بعضهما البعض. وهكذا ترك لنا فلسفة عربية إسلامية بمرجعيات خاصة، وهو ما أعطى لهذه الفلسفة - المعرفة ديمومة وخصوصية ومكنها من الاستمرارية، في حين وصلت كل الفلسفات الأخرى السابقة لها، ومنها فلسفة الكثير من الفرق الكلامية، التي اعتمدت بشكل منفرد، إما على القرآن والسنة وحديث الأئمة أو على الفلسفة اليونانية، كما حاولت بعض الفرق منها المزاوجة بينهما ولم تفلح، والنتيجة أن فلسفة هذه الفرق وأفكارها وصلت إلى الباب المسدود ومن ثم الاختفاء، ولم تستطع مقاومة زحف الزمن وتطور العصور التي كانت تتربص بها، وتناست أن عالم المعرفة يتطوّر من حولها باستمرار.
النموذج الثاني يتعلق بالشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، وهو فيلسوف، قبل أن يكون صوفيا، تتلمذ على يد معلمه ابن رشد وتأثر بفلسفته، ولذلك جاءت صوفيته مختلفة عن باقي الصوفيات الأخرى التي نعرفها، صوفية عقلانية لا تستسلم لما ذهبت إليه المسلمات والثوابت، ولكنها تعتمد الدليل العقلي والمنطق في معرفة الخالق والحقيقة الإلهية، وكانت مستعدة لمواجهة كل المتغيّرات من حولها. لا تتكئ صوفية ابن عربي على الزهد في الدنيا والانصراف إلى التعبد في الكهوف، كما كان يفعل أغلب متصوفة زمانه، ولكنه حاول جاهدا أن يقرّب بين الفلسفة والتصوف، دون أن يخرج من ظلال الشريعة الإسلامية، لأنه كان يعمل بمبدأ محدودية العقل، وجعله وسيلة لمعرفة العبادات لا غاية في حد ذاتها، عكس ما كانت تؤمن به فلسفة الغرب التي أعطت للعقل سلطة مطلقة.
النموذج الثالث يعطيه لنا الشاعر محمد السرغيني من المغرب، درس قديم الشعر العربي في جامعة القرويين وحديثه في المشرق العربي ببغداد والغرب الأوروبي في باريس، وأضاف له كل ما أمكنه الاطلاع عليه، وما استطاع الوصول إليه من شعر غربي حديث بلغاته الثلاث العالمية التي يتقنها: الفرنسية، الإنجليزية والإسبانية، وبذلك قرأ الشعر الغربي واستوعبه جيدا، وبالتالي أنتج لنا شعرا يعتمد الفكر والمنطق والعقل والممارسة العملية في الحياة، وهكذا جاءت أشعاره المتأخرة على الخصوص غريبة، تتأرجح بين الفهم واللافهم، صادمة لاطمة للمشهد الشعري المغربي والعربي.
شعر محمد السرغيني لا يقين فيه، يبتعد ما أمكن عن العاطفة، ويعتمد في قصائده، عن قصد، على خلخلة العقل والثابت من القوالب المتعارف عليها والأفكار الجاهزة.
الشاعر محمد السرغيني لا يبتغي من وراء كتابة قصائده الشعرية تقديم لذة قرائية مجانية إرضاء لقرائه، ولذلك نجده يبتعد عن المؤثرات المتعارف عليها في الشعر العربي الحديث والقديم، من صور بلاغية ومصوغات لغوية بكل تشكيلاتها أو اللعب بالألفاظ، وتنويع الإيقاعات والموسيقية والقوافي، وبذلك تصبح الأحاسيس في شعره مشتتة والدماغ متعبا، والجسد والدماغ معا كائنان منفصلان ومتعبان بعد قراءة كل قصيدة سرغينية. هو المفكر في شعره أكثر منه شاعر، وهو الكائن المجمّع لخليط من المتناقضات والثقافات المتعددة والفلسفات غربية وشرقية، هذا الخليط من المعارف هو الذي أعطانا شعرا مولدا للمعرفة العميقة، طارحا للأسئلة المقلقة. لم يكتف السرغيني بتقديم أفكار ومعرفة جديدة، بل قدم لنا كل ما هو قديم: رموز، أساطير، حكايات شعبية وتاريخ، ولكن كل ذلك في أنساق وأشكال جديدة، مفيدة ومغذية للعقل والفكر.
ومن هنا يبقى في نظري كل من ابن رشد، ابن عربي محمد السرغيني ثلاثي تنويري، استطاع تغيير الكثير من المفاهيم الثابتة في الوعي العربي والإسلامي، كل واحد منهم حمل في ذاته مفكرا وفيلسوفا أنتج أفكارا جديدة، لم يسبقه إليها أحد غيره. ظل ولاء هذا الثلاثي المطلق للسؤال والحقيقة والفهم، ولا شيء غيرها. ولذلك، لا يمكن إعادة هذا الثلاثي مرتين، كل واحد منه تفنن وأبدع وأنتج في زمانه معرفة ومفاهيم جديدة تليق بمجال تخصصه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى