الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (4)‏

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2023 / 6 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عمل كعب الأحبار على غرس أفكار بعينها في العقل العربي كي تثمر وتنتج أفكاراً ‏بعينها في المستقبل.. فهو من أدخل معتقد أن الذبيح هو إسحق بدل إسماعيل، وذلك استناداً ‏لتفسير الطبري(ج23، ص46)، وهي بلا شك من الإسرائيليات التي دخلت في التفاسير بعد زمن ‏كعب الأحبار، فالذبيح هو إسماعيل دون شك؛ لأنه كان الابن البكر لوالده، وكانت الأقوام ‏آنذاك تضحي ببواكير أولادها ومواشيها، فأراد الله تعالى أن يبطل هذه الممارسة من خلال ‏استبدال إسماعيل(ع) بذبح عظيم كما هو مفصل ذلك في القرآن الكريم. لكن كعب الأحبار ‏استطاع التأثير على من حوله وفرض عقيدته في الوسط الثقافي الإسلامي، فقط لجعل موضع ‏الاحتفال بعيد الأضحى هو النبي إسحاق الإسرائيلي وليس إسماعيل العربي. وهذا ما يعني أن ‏كعب إنما جاء في مهمة خاصة لا من أجل أن يتبع المسلمين على دينهم، ولكن ليتبعوه هم ‏على دينه... ويؤكد د. إسرائيل أن كعباً لم يجد أي تناقض بين دينه الجديد ودين أجداده ‏القديم، بل كان متعايشاً في انسجام مع عقيدته اليهودية، ولم يرم اليهود بتهمة تزوير آيات ‏التوراة لأغراض معينة كما فعل عبد الله بن سلام.‏

فكان العرب يسألون كعب عن كل ما يجهلونه في القرآن، كان هو المرجع العلمي ‏العظيم لهم، فذات مرة سأل ابن عباس كعب الأحبار عن قوله «يسبحون الليل والنهار ولا ‏يفترون» ألا يسأمون، فقال: هل يؤدك طرفك؟ هل يؤدك نفسه؟ قال: لا، قال: فإنهم ألهموا ‏التسبيح كما ألهمتهم الطرف والنفس (تفسير الطبري، ج 17، ص 9، قابل بين هذه الرواية ‏وبين ما ورد في كتاب: مدراش رباه: سفر التكوين 78: إن جماعة من الملائكة ملهمة في ‏التسبيح والفناء أمام الله نهاراً وليلاً.)‏

وجاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال له حدثني عن قول الله «عند سدرة المنتهى عندها ‏جنة المأوى»( سورة النجم، آية 13 ـ 16.) فقال إنها سدرة في أصل العرش، إليها ينتهي علم كل ‏عالم، ملك مقرب، أو نبي مرسل، ما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله.‏

وهناك رواية أخرى ورد فيها أن ابن عباس سأل كعباً عن سدرة المنتهى فقال كعب: إنها ‏سدرة على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، ثم ليس لأحد وراءها علم، ولذلك ‏سميت سدرة المنتهى، لانتهاء العلم إليها.‏

وكذلك سأل ابن عباس كعباً عن «أم الكتاب» قال: علم الله ما هو خلق وما خلقه ‏عاملون فقال بعلمه: كن كتاباً فكان (تفسير الطبري، ج 13، ص 100، وج 17، ص 126، ‏وراجع ما ورد عن «أم الكتاب» في سورة آل عمران، آية 6، وسورة الرعد، آية 38، في تفسير ‏الطبري، ج 3، ص 105 وص 115، وج 13، من ص 97 ـ 102.) ، وهذا الذي قاله كعب عن معنى ‏‏«أم الكتاب» هو بعينه المذكور في المصادر اليهودية عن «أم التوراة» إذا صح هذا التعبير ‏‏(مدراش رباه: 1:5) .‏

وكذلك سئل كعب عن قراءة كلمة «حمئة» التي وردت في سورة الكهف (آية 86) في ‏قوله تعالى: «حتى إذا بلغ مغرب الشمس، وجدها تغرب في عين حمئة» لأن ابن عباس وعمرو ‏بن العاص اختلفا في قراءتها فقرأها الأول: حمئة، وقرأها الثاني حامئة، وارتفعا إلى كعب ‏الأحبار يسألانه في ذلك، فرجح قراءة ابن عباس، وقال إن العين الحمئة هي الثاط أو الطين ‏السوداء (صحيح الترمذي، طبع التازى بمصر، سنة 1353، ج 11، ص 15 ـ 56، وتفسير الطبري، ‏ج 16، ص 9.).‏

على أن لابن هشام وللطبري نفسه رواية أخرى، يذكر فيها أن الاختلاف في ذلك لم ‏يكن بين ابن عباس وعمرو بن العاص، بل بين الأول ومعاوية (كتاب التيجان، لابن هشام، ، ‏ص 111، وتفسير الطبري، ج 16، ص 8.) . وأياً كان الأمر، ففي كل الأحوال كان مرجعهم ‏كعب.. وبهذه المناسبة نذكر، أن أبا بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي الأندلسي ‏الأشبيلي، المتوفى سنة 546 للهجرة، في شرحه لصحيح الترمذي، لم يرق له أن يكون كعب ‏الأحبار قاضياً يفصل بين اثنين من الصحابة فقال: ... ولأمية بن أبي الصلت شِعر لا يقبل منه ‏قوله ولا من كعب، لأن كلامه منقول من التوراة المبدلة، ولا يحتاج إليه ولا يعوّل عليه ولا ‏يصح أن يلتفت إليه (صحيح الترمذي، ج 11، ص 56.) .‏

فقد استطاع الأحبار اليهود غرس بعض الأعمدة العقائدية المتينة جداً في عمق العقل ‏العربي، منها كلمة أحبار وكلمة رباني، وقد استطاع الدكتور إسرائيل ولفنسون العثور ‏على قواعد هذه الأعمدة ببساطة، ولكنها ليست وحدها فهناك عمود أقوى وإن كان لا ‏يخص العرب لكن كعب استطاع غرسه في أرض العرب بقوة لينتقل إلى بلادنا مملكة ‏القبط، هذا العمود هو مسمى " مصر" التي ورد ذكرها في القرآن، ونعتقد بيقين أن د. إسرائيل ‏ولفنسون كان على علم بهذا الأمر لكنه لم يرد أن يذكره، لأنه لو ذكره يكون بذلك قد ‏أحرق العملية التي قام بها كعب واستمرت ألف وأربعمائة عام كاملة حتى نام كعب بسلام ‏وقام مسجده في القاهرة شامخاً رافعاً اسمه فوق المآذن.‏

أورد د. إسرائيل في كتابه فقرة تحت عنوان " كعب الأحبار وقصة إِرَم ذَاتِ الْعِمَادِ "، قال ‏فيها:"يميل أغلب علماء المسلمين إلى الاعتقاد بأن « إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ‏الْبِلاد» (سورة الفجر، آية 6 ـ 7.) اسم مكان فهي عندهم اصطلاح جغرافي فمنهم من قال إنها ‏مدينة الإسكندرية (تفسير الطبري، ج 30 ص 96، ياقوت معجم البلدان ج 1 ص 212.) ‏ومنهم من قال إنها مدينة دمشق (تفسير الطبري، ج 30 ص 96. وتاريخ الطبري، ج 1 ص 748، وج ‏‏2 ص 587. الهمداني: معجم البلدان، ص 123، الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص80) ورأى ‏غير هؤلاء وهؤلاء أنه اسم لمدينة في جنوب بلاد العرب بين صنعاء وحضرموت (القزويني: ‏عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ج 1 ص 29، معجم البلدان لياقوت ﺠ 1 ص 123، قصص ‏الأنبياء للثعلبي، ص 100.) وذكر الهمداني أن في اليمن جبلا باسم إِرَم ذَاتِ الْعِمَادِ (الهمداني: ‏صفة جزيرة العرب، ص 3.).‏

وهذا ما يؤكد أن العرب ما كانوا يعلموا شيئاً عن قصص بني إسرائيل ولا إرم ذات العماد ‏ولا مصر التي وردت قرينة بها في القرآن، ولذلك كان مرجعهم أهل الكتاب، وقد تعرض ‏الدكتور إسرائيل إلى محاولات العرب في تفسير قصة إرم ذات العماد بتفصيل مسهب ، وذكر ‏العديد من الروايات، وتسلسل نقلها عبر القرون حتى القرن الخامس هجري، وطرق إسنادها ‏في بلاد العرب، وحتى في غيرها من البلاد التي انتقلت إليها الكتب، لكنه مع ذلك لم يتعرض ‏إطلاقاً للحكايات التي رواها كعب عن (بني إسرائيل ويوسف وموسى في مصر وحادثة ‏الخروج والغرق)، لم يقترب من هذه القصة ولم يتتبع أصولها وفصولها كما عادته على طول ‏الرسالة. فقط ذكر:" وإذا كان ما ذكره الكسائي عن الفيوم من أنها إحدى البلاد التي ‏استوطنها يوسف وذريته، لا يستند إلى الحقيقة التاريخية وليس مذكوراً في التوراة، فهو من ‏الأحاديث الشائعة بين يهود إيجبت إلى يومنا هذا فهم يقولون، بأن أرض جوشن التي استوطنها ‏بنو إسرائيل كانت في بقعة الفيوم" ("كعب الأحبار.. ص 98) .. وهذا ما يؤكد أن ولنفسون ‏يعلم (الحقيقة التاريخية) التي أشار إليها بِصَمْتِه، خاصة أنه عالم بالنصوص الأصلية ‏السريانية للتوراة وترجماتها العربية والأوروبية. ‏

فقد حاول ولفنسون أن يثبت فقط أن كعب كان يهودياً من المهد إلى اللحد وقد حافظ ‏على يهوديته، لكن لم يرد ولفنسون المرور على طبيعة المهمة بالكامل التي عاش كعب من ‏أجلها يهودياً ومات يهودياً، فمجرد أن تنحصر مهمة كعب في غرس بعض المصطلحات مثل " ‏رباني" و "حبر " فهذا مجرد سذاجة وسفاهة لم يكن كعب بحاجة إليها، إنما هذه ‏المصطلحات جاءت كزيادة على المهمة ولا قيمة فعلية لها، لأن هناك الكثير من الكلمات ‏التي يستخدمها العرب واليهود على السواء دون أن تحدث خللاً عقائدياً في العقل العربي، إنما ‏ولنفسون أثبت بيقين أن كعب الأحبار كان عميلاً صهيونياً مغروساً بعناية وسط العرب ‏دون أن يحدد طبيعة الدور الذي كان منوطاً به أداءه، لكننا في هذه الدراسة سنكشف ‏بإذن الله طبيعة هذه المهمة، ومنها نستنتج أن الدكتور إسرائيل ولفنسون نفسه كان عميلاً ‏صهيونياً بامتياز رغم أنه مصري الجنسية ولأبوين مصريين وتربي على يد الأديب طه حسين ‏وجيله في جامعة القاهرة. فنحن لم نعتد على العملاء العلماء، إنما فقط تعرفنا على العملاء ‏الأمنيين والحربيين، بينما فكرة العملاء العلماء هذه أعقد من أن نستوعبها كما نفذها ‏كعب ببساطة. وهذا فقط من قرينة تكتم ولفنسون على طبيعة المهمة والدور الذي قام به ‏كعب الأحبار في بلاد العرب... فكعب غرس كلمة القبط في التراث العربي كي يسير ‏على ذات الخطى مع التراث اليهودي المزور منذ عهد بطليموس حيث غرس الكهنة كلمة ‏إيجبت في كتب التوراة، لكن إسرائيل ولفنسون تجاهل ذلك في رسالته عن كعب !. ‏

فالله تعالى لم يقل أن مصر موسى وفرعون هي بلاد وادي النيل حيث يسكن القبط، ‏ولكن قال ذلك كعب الأحبار وصدقه العرب، فصار كلام الكعب عقيدة في عقول ‏المسلمين السذج وكأنه كلام الله، وكل من ينكر أن تكون بلاد وادي النيل هي مصر ‏موسى وفرعون يعتبرونه جاحداً لكلام الله، ذلك فقط لأنهم لا يدركون أنه كلام الكعب ‏وليس الله، لأن وقت نزول القرآن كانت بلاد وادي النيل اسمها إيجبت، وهو الاسم الذي اعتمدته ‏الترجمة السبعونية. ‏

وقد حاول ولفنسون في ثنايا بحثه إثبات نظريته حول كعب الأحبار كونه عميلاً ‏صهيونياً ناجحاً، نافياً أن يكون هناك مجالاً لرأي آخر، فهو يرى كعب الأحبار أعظم من ‏اعتنق الإسلام شأناً في القرن الأول للهجرة، ويقارنه بشخصيات أخرى مثل عبد الله بن سلام ‏الذي يعده ساذجاً ووديعاً يؤثر الهدوء والسكينة، ذلك أن هذا الإمام ذا الأصول اليهودية لم ‏تثر حوله شبهات إسرائيلية، وأما وهب بن منبه فيرى أنه عالم بالشؤون الدينية فقط، وترك أثراً ‏قوياً في رجال الدين، وأما عبد الله بن سبأ فقد كان خطيباً مفوهاً ودساساً خطيراً يحكم ‏تدبير المؤامرات وإشاعة الفتن، وعدواً لدوداً لعثمان رضي الله عنه، ما أثار حوله الكثير من ‏الشبهات التي فضحت عقيدته.. أي أن إسرائيل ولفنسون يثني على كعب كونه عالم يهودي ‏استطاع بذكاء إخفاء هويته أكثر من زملائه وبهدوء كي يصل إلى غايته بسلام ودون ‏إثارة أية شبهات حوله.‏

ويرى أن كعب كان متشبعاً بالعقلية اليهودية، ويهودياً من المهد إلى اللحد، وكان ‏ينظر إلى الإسلام بالعين اليهودية، ولم يكن إسلامه إلا استجابة للشكل الذي فرضته ‏طبيعة الحياة وسط العرب، ويؤكد إسرائيل هذه النظرية بقوله: لم يخفِ كعب يهوديته، ‏وكان في إسلامه يحمل أسفار التوراة والتلمود أمام الجموع الحافلة في المساجد، وفي مجلس ‏الخليفة نفسه؛ فهو لذلك يُعد شيخ علماء عصره الذين وجهوا العلوم الإسلامية إلى الوجهة ‏المعروفة بالإسرائيليات. وذلك نظراً لأنه لم تكن هناك توراة ولا تلمود باللغة العربية يمكن ‏أن يفهمها العرب المسلمون آنذاك، فقط كانت هناك يهودية شفوية، أما كعب فكانت ‏لديه القدرة على القراءة في المراجع والأصول العبرية السريانية ونقل علومها ومعارفها للناس، ‏وهذا ما فتح له باب الاحتكار المعرفي لعلوم أهل الكتاب، غير أنه جاء إلى المدينة وهو قد ‏تجاوز الخامسة والسبعين من عمره في اليهودية وكان كاهناً عالماً له قدره.‏

ويعتقد علماء الإسلام أن الإسرائيليات في الإسلام ما هي إلا (هامش) بسيط مهما أصابه ‏الانحراف فلا أثر له، إنما الواقع أخطر بكثير، فهم يرون ألا أثر للإسرائيليات سوى كونها ‏‏(هامش) ذلك قط لأنهم لم يستوعبوا هذا الأثر ولم يروه بالمرة، إنما فقط رأوا منه (هامش) بسيط.. ‏بينما في الواقع فإن أثر الإسرائيليات في العقل الإسلامي أعمق من أن يستوعبها العرب، فقد ‏كانت مثل حقنة تم تفريغها في الدم العربي بهدوء تام... ‏

يُتبع ...‏‎

‏(قراءة في كتابنا : مصر الأخرى – التبادل الحضاري بين مصر وإيجبت‎ ‎‏)‏‎ ‌‎
‏ (رابط الكتاب على أرشيف الانترنت ):‏‎
https://archive.org/details/1-._20230602
https://archive.org/details/2-._20230604
https://archive.org/details/3-._20230605

‏#مصر_الأخرى_في_اليمن):‏‎
‏ ‏https://cutt.us/YZbAA

‏#ثورة_التصحيح_الكبرى_للتاريخ_الإنساني‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز