الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماجدة صالح … الفراشةُ التي طارت!

فاطمة ناعوت

2023 / 6 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


"ماجدة صالح" … الفراشةُ التي طارت!


حين زار مصرَ الفيلسوفُ الإغريقيُّ الشهير "أفلاطون"، في القرن الرابع قبل الميلاد، لكي يستزيد من العلم في "مكتبة الإسكندرية القديمة"، وصف الموسيقى المصرية بأنها "أرقى موسيقى في العالم"، وقال إنها الأنسبُ لتكون "لحنَ جمهوريته الفاضلة"، ثم وجّه كلامَه إلى فلاسفة اليونان يوصيهم: “علّموا أولادَكم الفنونَ، ثم أغلقوا السجون.”، لأن الجريمةَ خصيمةُ الفنون الجميلة. كلما ازدهر الفنُّ الرفيع، اضمحلت الجريمةُ، وانتفت الحاجةُ إلى السجون. وأما فنُّ "الباليه"، فهو أرقى الفنون على الإطلاق إذ يجمع بين "الموسيقى" دُرّة الفنون، وعبقرية الجسم البشري في أقوى وأرق وأرشق حالاته، والذي يتجلّى فيه جانبٌ من لانهائية عظمة الله في خلقه. الباليه كان من ابتكارات المصري القديم، كما خلّدته جدارياتُ الأسرة الخامسة في المعابد المصرية، ومنها "رقصة النجوم" حيث تتحرك الراقصاتُ في تشكيل فنيّ متناغم يرمز إلى بروج السماء الإثنى عشر. فقد وجد المصريون القدامى تشابهًا بين الأجرام السماوية في تناغمها وانتظام حركتها، وبين النغمات الموسيقية من حيث تناغمها أو تنافرها. لهذا رمزوا لكل نغمة من النغمات السبع بما يمثالها من الكواكب بالرسم الهيروغليفي. واعتقد المصريون بأن كل ساعة من ساعات اليوم، تتناغم مع نغمة أو تجميع نغمات من تلك النغمات السبع. وبهذا كانت الموسيقى عند قدامى المصريين فنًّا راقيًّا وثيق الصلة بالعلوم المقدسة مثل "الفَلَك"، وهو نظامُ الله الكونى الدقيق الذي عليه تقوم الزراعة، وبالتالي الحياة بأسرها. ولهذا أقيمت في مصر القديمة مدارسُ للرقص والموسيقى إلى جوار مدارس الفلك والطب والفلسفة، وكانت جميعًا ضمن إطار "العلوم المقدسة". إلى درجة أن مؤلف الموسيقى في مصر القديمة كان يُلقَّبُ بـ"ابن الأبدية".
معذرةً عزيزي القارئ. فقد وددتُ أن أكتب مقدمة مختصرة عن تغلغل الفنون في "الچين المصري" لكي أعبرَ من خلالها إلى الفراشة المصرية "ماجدة صالح" التي غادرتنا بالأمس، لكن المقدمة طالت! لأن الحديثَ عن عبقرية المصري القديم في صناعة الفنون، لا تغطيه مئاتُ المجلدات.
غادرتنا الفراشةُ الجميلة "ماجدة صالح"، وطارت إلى مُستَقِّر لها في السماء، حيث الزهور والفراشات. رحلت أشهرُ باليرينا مصرية وعربية وصاحبة أول عرض باليه في تاريخ مصر عام ١٩٦٦. رقصت مع فريق "البولشوي" الأشهر في روسيا وعلى خشبات عديد مسارح العالم، وكانت أولَ مدير لدار الأوبرا المصرية عام ١٩٨٧، وعميد المعهد العالي للباليه. تقول الباليرينا "ماجدة صالح”: “لو لم أرقص، لكانت حياتي نصف حياة. اختاروا من فصلي خمس فتيات فقط، حظين بمنحة دراسية بأكاديمية "البولشوي للباليه" في موسكو، لكي نستكمل تدريباتنا هناك. عدنا إلى مصر فخورات بحصولنا على دبلومات البولشوي، وهي درجة علمية عالمية رفيعة في فن الباليه. وغدونا جاهزات للرقص. وبالفعل رقصتُ عام ١٩٦٦ باليه "نافورة بختشي سراي" من تأليف الموسيقي الروسي "بوريس أسافييف"، المستوحَى من قصيدة "بوشكين". ولمس الباليه قلوب الجمهور المصري، ومن بينهم الزعيم "جمال عبد الناصر". تقول "ماجدة صالح": “حياة راقصة الباليه قصيرة للغاية. مثل الفراشات. لهذا كانت آخر رقصاتي باليه "جيزيل" مع فريق البولشوي وعلى مسرحه، وكان ذلك هو قمّة ما يمكن إنجازه في دنيا الباليه، فقررتُ الاعتزال بعده. وكان حريق دار الأوبرا المصرية في أكتوبر ١٩٧١، وكانت بيتنا الحقيقي، سببًا أصيلا في قرار اعتزالي. فقد احترقت معها ملابسنا وجميع الآلات الموسيقية والديكور.” لكن اعتزالها الباليه لم يوقف استمرار دعمها لمصر حتى بعد سفرها إلى نيويورك الأمريكية لقضاء بقية حياتها، وحتى لحظة وفاتها بالأمس. وهذا يفسر الحزن المصري العام والاهتمام الإعلامي الكبير بخبر رحيلها.
"الباليه" فنٌّ رهيف لا يدخل عباءته إلا ذوو الرهافة الروحية، وليس وحسب الرشاقة الجسدية. أتذكر الآن مقطعَ فيديو عجيبًا لراقصة الباليه الإسبانية "مارتا جونزاليس" وهي جالسة على مقعدها المتحرك في شيخوختها وقد أصيبت بألزهايمر أنساها حتى من تكون. زارها صحفي أسباني في دار المسنين وحاول الحديث معها لكنها بقيت صامتة لا تتكلم. أدار الصحفي من هاتفه مقطوعة "بحيرة البجع" التي رقصت عليها "مارتا" منذ نصف قرن. وهنا حدثت المعجزة وبدأت الباليرينا القعيدة في فرد ذراعيها في الهواء كأنهما جناحان في تناغم كامل مع نغمات الموسيقى، وأكملت رقصة البجعة على كرسيها المتحرك! تصوروا؟! كل ما عُرض أمامها من صور، وكل ما قيل لها من حكايات حول تاريخها الفني العريض، لم يستثر ذاكرتَها ولم يحرك فيها ساكنًا. وحدها الموسيقى فعلت ما عجز عنه الأطباءُ والُمستحثاتُ والحكايا. ونحن نتكلم عن موسيقى عظيم بحجم "تشايكوفسكي" الذي استنطق الحديدَ والخشبَ في الآلات الموسيقى بصوت الطبيعة وصدح العصافير وشلالات المياه وحفيف الشجر.
“ابق حيث الموسيقى، فالأشرارُ لا يغنّون". رحم الله فراشة الباليه المصرية الجميلة "ماجدة صالح".


***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اجمل نص موسيقي باليتي يمكن ان يقراء على صفحات ح م
الدكتور صادق الكحلاوي- ( 2023 / 6 / 19 - 19:41 )
رائعه في تكريم رائعة الباليه المصريه ماجده صالح وحعها تشايكوفسكي بل درة الفنون الموسيقى ناهيكم عن الرقص والغناء وامجاد مصر القديمه الحاضره-مع حسرة-في نفوس الملايين -شكرا استاذه فاطمه بدونك حياتنا -يابسه-في الحوار المتمدن-تحياتي

اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah