الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (5)‏

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2023 / 6 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


‏... الأمر الذي لا يمكن تجاهله في شأن الإسرائيليات؛ هو تأثير كعب الأحبار على مجمل ‏قصص الأنبياء وتحييد الفكر الإسلامي في هذا الشأن عن المنهج القرآني الذي يتسم ‏بالاختصار والإيجاز، وعدم الخوض في التفاصيل التي لا معنى، لها لأن القرآن لم يهدف إلى ‏التعريف بالرسل والأنبياء السابقين وسرد الحكايات، إنما أورد ذكر لقطات ومواقف عابرة ‏من حياة بعض الأنبياء والرسل السابقين من باب العبرة فقط وليس من باب القَصَصْ الأدبي ‏بالأسلوب السردي الحكائي الذي انتهجته أسفار التوراة وانتهجه كعب وانفرد به وسط ‏المجتمع، فلم يعد هذا القصص مجرد حشو ومعرفة زائدة، إنما تمكن من توجيه البوصلة ‏العامة للفكر الإسلامي.‏

وللأسف، فمعظم التفاسير القرآنية وكثير من أحاديث ما يسمى بآخر الزمان والمسيح ‏الدجال وغيرها من الخرافات هي استنساخ مشوه لروايات العهد والتلمود، حتى إن د. إسرائيل ‏ولفنسون ذكر بأن الثعالبي صاحب "عرائس المجالس" ينقل عن كعب الأحبار 35 رواية، فقد ‏كان الأخير شيخ الرواة في أدب قصص الأنبياء، وأن معظم ما ذكره الطبري وغيره ‏كالمسعودي والكسائي إنما هو من بنات أفكار كعب حسبما يعتقد، وقد انتشرت آداب ‏القصص التوراتي وما فيها من إثارة رغم أن الرسول نهى عن تصديق أو تكذيب اليهود، وعمر ‏بن عبد العزيز قد أمر حرسه بتتبع رواة القصص وإخراجهم من المساجد. ولكن رواة قصص ‏الأنبياء بذلوا مجهوداً عظيماً في جمع ما وصل إليهم من الأخبار عن طريق اليهود والنصارى، ‏وزادوا عليها ما اخترعتها مخيلتهم الخصبة، ثم ألبسوه مسحة إسلامية ترضي المجتمع ‏الإسلامي، ويعد كعب الأحبار بذلك الأب الروحي لهذا النوع من القَصَص، لأن العرب ‏المسلمين لم يفكروا في العودة إلى كتب التوراة الأصلية واستخلاص ما احتاجوه منها، إنما ‏بدلاً عن ذلك شغلوا أنفسهم بتتبع الروايات والسند والعنعنة حتى إذا ما وصلوا إلى كعبٍ ‏استحيوا ذكر اسمه، فاختلط ما رواه تلامذته عنه وما رووه عن النبي محمد... وهكذا تمكن ‏كعب من غرس مخالبه في الإسلام، ليس بقوة عزيمته وإنما بترهل العقلية العربية.‏

ورغم إصرار الدكتور إسرائيل على وجهة نظره بأن كعب الأحبار ظل متمسكاً ‏بعقيدته اليهودية، إلا أن الغريب أن شخصية كعب الأحبار محل تشكيك وطعن من كثير ‏من العلماء المسلمين، وكثير من الباحثين لاحظوا أن المحدثين وجامعي الحديث لم ينقلوا ‏عنه إطلاقاً، بل استبعدوه، مما يعني أنهم أفقدوه الثقة رغم غزارة علمه، وآخرين هاجموه ‏بضراوة، أي أن هناك رؤية عربية إسلامية تتفق مع نظرية د. إسرائيل ولفنسون، لكنهم ‏اعتبروه في زُمرة (المنافقين) ولم يتوقعوا أن يصل إلى رتبة (العملاء) أبداً. أما المستشرقين ‏الغربيين فقد اتفقت نظرتهم بشدة مع نظرية ولفنسون في أنه ظل محتفظاً بديانته وأنه أدى ‏مهمة معينة في المجتمع الإسلامي. ‏

أما الغريب؛ فبرغم أن كعب الأحبار غادر المدينة مبكراً وعاش بقية حياته في حمص ‏بالشام وسط المجتمع اليهودي حتى وفاته عام 34هـ ودُفن بها، إلا أننا نجد له مسجداً باسمه في ‏قلب القاهرة، يحمل اسمه علامة بارزة في التاريخ !، وبداخل هذا المسجد يوجد ضريح له ‏برغم أن الجميع على علم بأنه عاش ومات ودفن بالشام.‏

أما الأغرب من ذلك أننا نجد ضريحاً آخر لخادمه بجواره داخل المسجد، وكأنه هو الآخر ‏كان يؤدي مهمة ذات طبيعة خاصة أو مهمة قومية في الإسلام، وهو شيء مستغرب أن ‏يكون للخادم ضريح بجوار شيخه، فهذا لا نجده حتى مع الشافعي وأبي حنيفة، والمفاجأة ‏أنه يأتي لهذا المسجد سُوّاح أجانب من بلاد مختلفة خاصة روسيا لزيارته، وتوجد داخل ‏المسجد نقوش يهودية وكتابات عبرية ! ... كل هذا رغم أن كعب لم يقدم شيئاً للإسلام ‏والمسلمين سوى أنه قرأ عليهم من كتب التوراة ما كان يمكنهم قراءته بأنفسهم... ‏

لكن نتساءل لماذا ضريح ومسجد بالقاهرة رغم موته ودفنه بالشام؟!. فهل أدى كعب ‏الأحبار مهمة أخرى سرية ذات طابع قومي ؟ فلو أنه خدم الإسلام بنقل الحكايات التوراتية ‏إلى المسلمين فكان يكفي أن يكون له ضريح في الشام أو حتى مزار آخر في السعودية، أو ‏العراق أو اليمن..إلخ، لكن يا ترى ماذا كانت مهمة هذا الرجل في إيجبت لكي ينال كل ‏هذه العظمة والحفاوة! ولماذا طلب عند وفاته أن يُحضر له صديقه جراب من الرمل من أرض ‏إيجبت ليفرشه تحت جثته في قبره عند دفنه ؟! ‏

وأثناء إعداد هذه الدراسة أرسلتُ صديق لي محامٍ لاستطلاع المسجد، وفوجئت بتقريره، ‏إذ أخبرني:" عند دخولي المسجد تدافع حولي الخادم ومعه ثلاثة أشخاص، يبدو أن لديهم ‏تعليمات أمنية، أو أنهم تبع جهة أخرى. لكني أظن أنهم تبع الأمن وشكلهم مخبرين وعندهم ‏تعليمات بحراسة المسجد جيداً من عبث أي شخص وخاصة الأجانب، وعندما سألت عن ‏معلومات حول المسجد كانت الإجابات بتحفظ وحدث قلق بسبب سؤالي، وخدام المسجد ‏أنكروا وجود مقام لكعب الأحبار، وقالوا أن هذا اسم فقط لكنه مدفون في مكان بعيد، ‏وكان هناك رجل يجلس خارج المسجد يبدو أنه مكلف بمهمة ما وسألني عن غايتي بتحفظ، ‏فأخبرته أنني أجرى بحثاً لدرجة الماجستير عن الآثار الإسلامية المصرية ". ‏

لم تكن مهمة صديقي هي أن يجري بحثاً لدرجة الماجستير عن الآثار الإسلامية في ‏مصر، وإنما كانت ليجري بحثاً عن سبب وجود كعب الأحبار في بلادنا... ولم تكن مهمة ‏كعب الأحبار تنحصر في مجرد نقل القصص التوراتي إلى الإسلام، لأن ذلك من شأن الجميع ‏معرفته، خاصة أن أغلبية من اعتنقوا الإسلام كانوا إما من أصول يهودية أو مسيحية، حتى ‏وإن كانت ثقافتهم شفوية غير دقيقة أو ناقصة، لكن من السهل تتبع الأصول ومعرفة ‏القصص التوراتية كاملة، غير أن مسألة معرفة القصص التوراتية ليس من شأنها إفساد ‏عقيدة المسلمين، إنما الفساد الذي لحق العقيدة على أثر الإسرائيليات هو فساد جاء نابعاً من ‏عجز العقلية العربية ذاتها أكثر من كونه عائداً لذكاء كعب. وفي كافة الأحول فإن ‏قصص كعب لم تفسد العقيدة لو ظلت على وضعها، إنما طريقة تداول الرواة والقصاصين ‏العرب لها وحشرها في كتب التفسير والفقه وخلطها بأحاديث النبي هو ما أدى إلى الفساد. ‏ونتساءل هل انحصرت مهمة كعب في مجرد نقل القصص التوراتية التي كان محتماً أن ‏تنتقل بطريقة أو أخرى ؟ غير أنه ما الفائدة عند اليهود من مجرد إفساد عقيدة الآخرين؟ ‏فاليهود لا يضيعون وقتهم وجهدهم إلا في مصلحة مادية، ومجرد إفساد عقيدة المسلمين لا ‏يعد في نظرناً سبباً كافياً لإهدار اليهود وقتهم وجهدهم دون الخروج بمصلحة ذات طابع ‏يجسد العقلية اليهودية.‏

وكما قلنا أن كعب‎ ‎كان له معارضون من الصحابة أو من الإخباريين الذين اتهموه ‏بمحاولة إقحام يهوديته في الإسلام، وللشيعة موقف منه،‎ ‎وكان مقرباً وجليساً‎ ‎لعمر ‏الخطاب‎ ‎وعثمان عفان‎ ‎وعبد الله عباس وأبي هريرة‎ ‎ومعاوية أبي سفيان،‎ ‎ووردت عدة روايات ‏حول سبب إسلامه منها أنه آمن بعد أن رأى صفات النبي محمد في التوراة، وقد كانت مسألة ‏ذكر النبي محمد في كتب اليهود وفق اعتقادات المسلمين، تشغل بال الكثيرين بمن فيهم ‏الصحابة والتابعين والمؤرخين والمحدثين وعوام الناس. فكان كعب وأمثاله مصدر مهم ومثير ‏لمثل هذه القضايا والأمور،‎ ‎ومن الأمثلة على سعة علمه وتبحره في علوم اليهود حكاية ‏أوردها الطبري في تفسيره لآية :"يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا" ‏فقال كعب أن هارون المذكور ليس بهارون أخ النبي‎ ‎موسى‎ ‎فكذبته‎ ‎عائشة‎ ‎فرد قائلا :" إن ‏كان النبي قال هذا فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة" فسكتت عائشة‎ ‎اتهم ‏كعب كثيراً في كتابات متأخرة منها أنه كان مشاركا في مؤامرة اغتيال‎ ‎عمر بن ‏الخطاب‎ ‎وجاء فيها أنه أنذره بمقتله بثلاثة أيام زاعمين أنه قال لعمر أنه وجد ذكره في ‏التوراة‎.‎‏ (طبقات بن سعد ج 7 القسم الثاني ص 117‏‎ -‎إسرائيل أبو ذؤيب، كعب الأحبار مراجعة محمود عباسي ‏مطبعة الشرق التعاونية، القدس ص 56 ص 26 ص 22 ص 29‏‎ - ‎طبقات بن سعد ج 7 القسم الثاني ص 156‏‎ - ‎تفسير ‏الطبري ج 16 ص 15 -مجير الدين الحنبلي،‎ ‎الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل‎ ‎ج 1 ص 232 -عبد الوهّاب ‏النجار، تاريخ الإسلام: الخلفاء الراشدون ج 2 ص 474‏‎ -‎خطط المقريزي ج 1 ص 333)‏

ويقول الدكتور نجاح الطائي في كتابه (فضائح يهود‎ ‎متلبسون بالإسلام):" وقد ابتدع ‏كعب شيئا خطيراً جعل الكثير من الناس يتبعوه إذ قال: ما من شيء إلا وهو مكتوب في ‏التوراة. ولما كان المسلمون لا يقرؤون اللغة العبرية، فقد أصبحوا أسرى بيد كعب وأمثاله، ‏ينقل لهم كل ما يهوى ويحب باسم قال الله تعالى في الكتاب المقدس!! وبواسطة هذه الحيلة ‏أصبح كعب مرجعاً خطيراً لبعض المسلمين، يسيرهم كما يشاء.".. فهل وجدنا من قبل كتباً ‏مثل هذه تتحدث عن فضائح نصارى متلبسون بالإسلام! بالطبع لا، لأن اليهود هم الذين لديهم ‏مشروع صهيوني ، وهم الذين باستطاعتهم تطويع الأديان واستخدامها كأدوات سياسية ‏للنصب على الشعوب.‏

وقد كشف «كعب الأحبار» عند وفاته أنه يملك نسخة صحيحة من التوراة، خلافاً لما ‏يقول به القرآن من تعرض الكتاب الذي أنزل على موسى للتحريف، ويبدو أن بعض كبار ‏المؤرخين صدقوه في ذلك، حتى من تشكك فيه، لم يتلكأ في النقل عنه، جرياً وراء الرغبة ‏في المعلومات المفقودة عن بقية أنبياء الله، وتتبع الحكايات بغض النظر عن وجاهتها ‏العقلية، لكن ذلك لم يمنع بعض الصحابة من فضحه ومواجهته، أبرزهم كان «أبو ذر ‏الغفاري» الذي كان يناديه بـ«ابن اليهودية».‏

فابن اليهودية هذا كان شخصية خطيرة، لم يتوقف خطرها عند دس الإسرائيليات في ‏عقل ووجدان المسلمين، بل تجاوزها إلى ما هو أبعد، حيث لعب دور «المشير» في حياة اثنين من ‏الخلفاء، أبرزهم عمر بن الخطاب الذي تنبأ «كعب» باغتياله قبل الواقعة بثلاثة أيام، وكان ‏له الدور نفسه في حياة عثمان. وظهر كعب بقوة في كل حكايات الدم وأحداث الاغتيال ‏السياسي للخلفاء الذين عاصرهم، ليس ذلك فقط، بل لقد تنبأ بحكايات دم أخرى وقعت بعد ‏وفاته، كما يحكى المؤرخون (إذن، كان كعب يعمل ضمن تنظيم صهيوني كامل يضع ‏خطط وقائمة اغتيالات كما يحدث في عصرنا، وليس مجرد منافق كما اعتقد الصحابة ‏العرب).‏

وهذا ما قد يعط لنا صورة عن طبيعة العمليات التي كان يقوم بها الموساد في زيه القديم.. ‏عاش كعب الأحبار مؤثراً أشد التأثير في معاصريه بتلك العبارة السحرية التي لازمت لسانه ‏في كل حديث عن التعرض لأي سؤال، فيقول: «أجده عندي في التوراة».. والغريب أن تأثيره ‏لا يزال عابراً للأجيال، رغم أن من يفتش في كتب التراث، لا يجده مستشهداً بالقرآن ولا ‏السنة، ولذلك يمكننا القول إننا بصدد شخصية كانت تدرك نبوة محمد منذ فترة مبكرة، ‏ولهذا أجَّلت إسلامها وانتظرت وفاة النبي، لأن مهمته ما كانت لتنجح في وجوده. ولذلك لم ‏يكن مصادفة أن يصبح كعب مستشاراً سياسياً مقرباً من الخليفة، عاش مقرباً من عمر ‏وعثمان ومعاوية وعمرو ابن العاص وابن عمرو وأبي هريرة وكبار رموز الدولة دينياً ‏وسياسياً، فهل كان كعب هذا مجرد واحد من المنافقين ؟ ! أم أنه صحابي كريم ومرضيّ ‏عنه كما يعتقد الكثيرون ؟! ‏

يُتبع ...‏‎

‏(قراءة في كتابنا : مصر الأخرى – التبادل الحضاري بين مصر وإيجبت‎ ‎‏)‏‎ ‌‎
‏ (رابط الكتاب على أرشيف الانترنت ):‏‎
https://archive.org/details/1-._20230602
https://archive.org/details/2-._20230604
https://archive.org/details/3-._20230605

‏#مصر_الأخرى_في_اليمن):‏‎
‏ ‏https://cutt.us/YZbAA

‏#ثورة_التصحيح_الكبرى_للتاريخ_الإنساني‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتهاد الألمان في العمل.. حقيقة أم صورة نمطية؟ | يوروماكس


.. كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير




.. ما معنى الانتقال الطاقي العادل وكيف تختلف فرص الدول العربية


.. إسرائيل .. استمرار سياسة الاغتيالات في لبنان




.. تفاؤل أميركي بـ-زخم جديد- في مفاوضات غزة.. و-حماس- تدرس رد ت