الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (6)‏

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2023 / 6 / 22
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ذكرنا فيما سبق أن المجمع اليهودي "السندريون" كان منعقداً بصورة مستمرة في ‏اليمن، المقر العتيق لليهود، وعند ظهور الإسلام كديانة جديدة في وسط الجزيرة العربية ‏كان لا بد لهذا السندريون من اتخاذ قرار في هذا الشأن كرد فعل على البعثة المحمدية، أياً ‏كان نوع هذا القرار... وعلى أثره تحرك كعب الأحبار من اليمن إلى الشام بعدما فتحها ‏المسلمون وانحسرت سطوة الرومان عن فلسطين وغُلّت يد المسيحيين هناك، تحرك كعب إليها ‏حيث بدأت رحلات اليهود إلى فلسطين زرافات متناثرة من أرجاء الجزيرة العربية، وبعدما ‏استقرت سيطرة العرب المسلمين علي الشام، عاد كعب من الشام إلى المدينة حيث مقر ‏الخليفة عمر ابن الخطاب، وتقرب منه وأعلن إسلامه، وطلب أن يهاجر إلى الشام لكن ‏الخليفة عمر قرّبه منه واتخذه كمستشار سياسي له بحكم خبرته وعلمه. ثم اصطحبه ‏عمر ابن الخطاب في زيارته لمدينة " إيلياء "(القدس حالياً)، وكان المسلمون متسامحين جداً ‏مع اليهود، خاصة بشأن مسألة العودة إلى فلسطين، وهذا ما مثّل فرصة جوهرية على كعب ‏الأحبار استغلالها والاستفادة منها بقدر طاقته أيضاً.‏

وكنا قد ذكرنا أن المجمع اليهودي "السندريون" قد اجتمع سابقاً في الإسكندرية في ‏عهد بطليموس الثاني فيلادلفوس عام 282 ق.م في مشروع ترجمة التوراة من اللغة السريانية ‏إلى اللغة اليونانية التي كانت قد انتشرت في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، وكان ‏من الصعب على هذه الشعوب التعاطي مع لغة التوراة السريانية بعد أن ذابت على المستوى ‏الشعبي ولم تعد لغة خطاب أو حديث، لهذا بدأ مشروع الترجمة إلى اليونانية باعتبارها لغة ‏الهيمنة العصرية، ولما كان الكهنة اليهود السبعون قد قاموا بتحريف التوراة، وكان ‏بطليموس ملكاً على إقليم وادي النيل وبعض المناطق المتاخمة له وفقاً لرواية التاريخ ‏الغربي، كانت بلادنا وادي النيل تُعرف في هذا الوقت باسم "إيجبت " ونطقها اليونانيون ‏‏"إيجبتوس" ونطقها الرومان "إيجبت" ونطقها الصينيون " إيجي " ونطقها الفنيقيون "كوبتو " ‏ونطقها العرب "جبتي أو قبطي وقبط. وبذلك بقي الاسم القديم "كِميت " متداولاً على المستوى ‏الشعبي فقط، بلهجة أهل الصعيد " كِميت " وبلهجة الوجه البحري " كِمي " وأما الاسم ‏الرسمي العام للإمبراطورية البطلمية فكان " إيجبتوس " بلسان الحاكم. ‏

فقام الكهنة السبعون أثناء الترجمة بحذف كلمة "مصرايم" من توراتهم، ووضع ‏مكانها كلمة "إيجبتوس" كي يكون لأجدادهم وأنبيائهم بذلك وجود تاريخي في هذه ‏المنطقة، وليكون لهم ذكر في هذه الإمبراطورية البطلمية الصاعدة، خاصة لو كانت هذه ‏الذكرى تحمل نوعاً من القداسة الدينية؛ كونها مذكورة في الكتاب المقدس، خاصة أنه ‏لن يستطيع أحد في هذه الظروف الاطلاع على النسخة الأصلية باللغة السريانية التي جاء ‏بها " مصرايم"، فالجميع يتحدث اليونانية ويقرأ التوراة باليونانية. وقاموا ببعض التعديلات ‏في أسماء مناطق أخرى واقعة في مملكة وادي النيل، أسماء مدن وقرى، ونهر النيل، وأهمها ‏اسم العاصمة الجبتية القديمة "مانفر" الذي تم غرسه في التوراة بلفظ" موف" كي يشعر ‏القارئ بأنه يقرأ عن البلد التي يعش فيها أو يراها واقعياً، ليخلق ذلك نوعاً من الحياة للتوراة، ‏فأن تقرأ كتاباً سماوياً يتحدث عن البلد الذي تعيش فه أفضل من أن تقرأ كتاباً يتحدث ‏عن قرية عربية بائدة مثل مدائن صالح وإرم ذات العماد... وقام الكهنة بتبرير بعض ‏الاختلافات إلى كون الجغرافيا ذاتها تتغير من حيث تموت قرى وتزدهر قرى أخرى وتتغير ‏أسماء القرى والأماكن عبر الألف عام الماضية منذ وقوع أحداث التوراة... ‏

وبهذا تمكنوا من غرس الجغرافيا الإيجبتية في التوراة، وصارت عقيدة اليهود في ‏الإسكندرية والدلتا والصعيد قائمة على قناعة أن بلدهم هي مسرح التوراة، ثم جاءت ‏الديانة المسيحية، واعتنق المسيحيون العهدين معاً العهد القديم "التوراة" والعهد ‏الجديد"الإنجيل" وبذلك يكون اليهود قد ضمنوا ثبات ذات المعتقد في طوائف المجتمع ‏المسيحية إلى جانب اليهودية دون عناء، فقط لكون المسيحية جاءت على اعتبار التوراة ‏عقيدة منها، دون أن يدرك أحد أن ذلك إنما من فعل اللجنة السبعونية التي وضعت اسم " ‏إيجبت" عوضاً عن " مصرايم " العبرية البائدة في جزيرة العرب. وبعدما كانت أحداث التوراة ‏مجتمعة تدور في إقليم وسط وجنوب غرب الجزيرة العربية، مدد الكهنة خريطة الأحداث ‏بحيث تشمل مجموعة دول كاملة، بداية من إيجبت وادي النيل إلى الشام وفلسطين وسوريا ‏والأردن والسعودية والعراق وليبيا وإثيوبيا والسودان، أي حولت مجموعة القرى السعودية ‏إلى مجموعة دول تمتد بين قارتين كاملتين آسيا وإفريقيا. بعد أن حملت هاتين القارتين ‏ذاتهما أسماء قرى يمنية، وبذلك تم طمس كل معالم الجغرافيا التوراتية القديمة الحقيقية، ‏ولم يبق منها أثر إلا في ذاكرة بعض اليهود الذين يعتمدون على النسخة السريانية الأصلية ‏والمخطوطات القديمة في اليمن، أو يهود الجزيرة العربية الجهلاء الذين يعتمدون على ‏انتقال الموروث الشفوي للديانة اليهودية، وهؤلاء وأولئك قليلون. فصارت أغلبية اليهود على ‏قناعة بالخريطة التوراتية بعد آخر تحديث لها ‏‎(update)‎، بالإضافة إلى كل المسيحيين ‏الذين يتلقون تراثهم التوراتي عن اليهود دون البحث فيه، لأنه لا يمثل لهم عماد الدين ‏المسيحي وإنما مجرد خلفية ثقافية. ومعروف أن البحث في الأمور الدينية يعتبر في نظر ‏الكهنة تشكيك في وجود الإله ! وبذلك شكل الكهنة المسيحيون أنفسهم غطاء قوي ‏للتزوير اليهودي .. ‏

ولما استقرت الترجمة السبعونية على استخدام لفظ " إيجبت " بدلاً من مصرايم العبرية ‏رغم انقطاع الصلة بينهم، ولما جاء القرآن، وأشار في كثير من آياته إلى الأنبياء والرسل ‏السابقين وتعرض لمسرح أحداث التوراة بما فيها قصة يوسف وموسى وفرعون، لكن القرآن لم ‏يذكر "إيجبت " إطلاقاً، ولا ذكر كميت كذلك، وهما كانا الاسمين المعروفين لهذا البلد ‏خلال عصور التاريخ كلها، وكان اسم"إيجبت" ذا شهرة عالمية، حتى أننا نجد كل شعب من ‏شعوب العالم نطقه بلهجته، ونطقه العرب "إقبط" باللسان العربي، فإذا أراد الله أن يتحدث عن ‏هذا البلد، هل يذكرها بالاسم العالمي " إيجبت" أم الاسم المحلي " كميت "؟ .. في الواقع القرآن لم ‏يذكر لا إيجبت ولا كميت، وإنما أعاد حكاية الرواية التوراتية القديمة وصحح المسار ‏الذي اتخذه الكهنة السبعون عند استبدال مصرايم بإيجبت، لكن القرآن نزل باللهجة ‏العرباء وليست العبرية أو السريانية، ولما كانت التوراة باللسان السرياني تنطق اسم البلدة ‏التي وقعت فيها أحداث موسى وفرعون بلفظ " مصرايم"، جاء القرآن بلسان بدو الصحراء ونطقها ‏‏" مصر"، وليس فقط اسم البلد، إنما كل الأسماء، فنطق موشيه العبري؛ موسى بالعربي، ‏وجوزيف العبري؛ يوسف بالعربي، وفرعه العبري، فرعون بالعربي، وقورح العبري؛ قارون ‏بالعربي.‏

‏ ولما كان البدو وعربان الحجاز لا يعرفون حقيقة أين كانت "مصرايم " هذه التي نطق ‏القرآن اسمها "مصر" ولا يعرفون عنها شيئاً بقي في ذاكرتهم سوى كونها من الأقوام البائدة ‏مثل قوم ثمود وعاد وسبأ وإرم ذات العماد الذين تناثرت بعض حكايات باهتة عنهم في ‏الذاكرة العربية، كون هذه الأمم قد أبيدت بأسلحة الدمار الشامل من قبل الإله كما ‏اعتقدوا عقاباً لهم على كفرهم... ولما كانت اللجنة السبعونية "السندريون" المنعقدة ‏بمعرفة بطليموس في القرن الثالث ق. م قد تمكنت من إحياء إحدى هذه الممالك البائدة ‏بتمكنها من وضع اسم " إيجبت " بدلاً من " مصرايم" في التوراة ومنه إلى الإنجيل، وانعقد ‏السندريون مرة أخرى عقب بعثة النبي محمد، خاصة بعدما تحدث القرآن عن مملكة ‏مصرايم بلفظ " مصر"، فتقرر إيفاد السيد ‏‎"‎كعيبة‎ ‎ابن ماتع‎"‎‏ الكاهن الكبير بين أحبار ‏اليهود، في مهمة قومية، ليقوم وحده بما قامت به اللجنة السبعونية عند غرس اسم إيجبت ‏بدلاً من مصرايم في التوراة قبل ألف عام، لكن السيد كعبيبة هذا، والذي انقلب اسمه إلى ‏كعب ابن ماتع عند دخوله مجتمع العرب وأصبح لقبه " كعب الأحبار"، لا يمكنه استبدال ‏كلمة من القرآن كما فعل الكهنة بالتوراة، لأن القرآن ليس بيده كما التوراة ليحذف ‏ويضيف لشعبه، فكيف سيقوم بالمهمة ؟ ‏

الأمر إذن يحتاج إلى تكتيك خاص لتنفيذ المهمة، كان على السيد كعب الأحبار في ‏هذه المرة أن يقوم فقط بإرفاق كلمة " إيجبت " بكلمة " مصر" الواردة في القرآن لأن استبدالها ‏كان مستحيلاً والقرآن بيد المسلمين، فجاء دوره من خلال القصص التوراتي بأن يلفت نظر ‏الصحابة عند تفسير القرآن إلى أن قوم فرعون هم القبط سكان " إيجبت" كما تقول التوراة، ‏أي أن ينقل لهم نص التوراة المزورة فقط دون أي جديد، ومعروف أن المسلمين العرب أكملوا ‏قصص الأنبياء وتفسير الكثير من آيات القرآن نقلاً عن التوراة، فهل كانت التوراة الصحيحة ‏التوراة السبعوينة المزورة ؟! ، فكان دور كعب هو توفير مورد توراتي للمفسرين، والتركيز ‏على التوراة المزورة السبعونية لتكون هي مورد المفسرين للقرآن دون غيرها من إخباريات ‏العرب... وبهذا تمكن كعب من تحييد القرآن وتوجيهه وجهة التوراة السبعونية بهدوء تام ...‏

ولما كان اللسان العربي ينطق هذه الكلمة بلفظ " إقبط أو قبط، فكان يكفي من ‏كعب أن يقول لهم أن مصر هذه المذكورة بالقرآن هي بلاد القبط، وأن قصة موسى ويوسف ‏وفرعون وقعت في أرض القبط التي بجوار جزيرة العرب على بعد أميال من البحر الأحمر، ولو ‏قرأتم التوراة ستجدونها تقول أن القصة حصلت فيها ... وأن هناك دارت أحدث القصة، وفي هذا ‏البحر الأحمر غرق فرعون وجنوده، وفي عاصمته منف يوجد أطلال قصر العزيز " عزيز ‏مصر" وبجواره قصر يوسف الصديق، وإلى الجنوب بالفيوم يوجد سجن يوسف حيث كان ‏يقيم منذ ألفي عام، وفي ذات المنطقة تقع بحيرة قارون حيث خسف الله بدراه الأرض... وهذا ‏الكلام أيده موقف الكهنة المسيحيون في إيقبط أيضاً ، فدائماً الكهنة هم أكثر فئات ‏المجتمع استلاباً للعقل وانهزامية واستسلاماً للأوضاع والظروف ، باعتبار أن هذه الانهزامية ‏والاستسلام هي درجة من درجات الإيمان بقدر الإله .. ‏

فقد كان العرب جهلاء بكل ما جاء به القرآن من قصص بني إسرائيل، وجهلاء جداً ‏بالعلوم والجغرافيا وبعيدين عن القراءة والتدوين وليس لديهم مدرسة أو مكتبة أو أي شيء ‏يمت للعلم والمعرفة بصلة سوى كتابة أنسابهم وأشعارهم على جلود المعيز المجففة ، وكانوا ‏يسألون بدهشة واستغراب، ففي الآية التي أقسم فيها الله بالتين والزيتون نقرأ قولين: ‏
القول الأول: أنه ليس المراد هاتين الثمرتين، ثم ذكروا وجوهاً: ‏
أحدها: قال‎ ‎ابن عباس:‏‎ ‎هما جبلان من الأرض المقدسة، يقال لهما: بالسريانية طور تينا، ‏وطور زيتا، لأنهما منبتا التين والزيتون، فكأنه تعالى أقسم بمنابت الأنبياء، فالجبل المختص ‏بالتين‎ ‎لعيسى‎ ‎‏(ع). والزيتون الشأم مبعث أكثر أنبياء‏‎ ‎بني إسرائيل، والطور مبعث‎ ‎موسى‎ ‎‏(ع)، ‏والبلد الأمين مبعث‎ ‎محمد‎ ‎‏(ص)، فيكون المراد من القسم في الحقيقة تعظيم الأنبياء وإعلاء ‏درجاتهم.‏

وثانيها: أن المراد من‎ ‎التين‎ ‎والزيتون‎ ‎مسجدان، ثم قال‎ ‎ابن زيد:‏‎ ‎التين‎ ‎مسجد دمشق ‏والزيتون ‏‎ ‎مسجد بيت المقدس، وقال آخرون: التين‎ ‎مسجد أصحاب‎ ‎أهل الكهف، ‏والزيتون‎ ‎مسجد إيليا، وعن‎ ‎ابن عباس‎ ‎التين مسجد‎ ‎نوح‎ ‎المبني على الجودي، والزيتون‎ ‎مسجد ‏بيت المقدس، والقائلون بهذا القول إنما ذهبوا إليه لأن القَسَم بالمسجد أحسن لأنه موضع العبادة ‏والطاعة، فلما كانت هذه المساجد في هذه المواضع التي يكثر فيها التين والزيتون، لا جرم ‏اكتفى بذكر التين والزيتون.‏

وثالثها: المراد من التين والزيتون بلدان، فقال‎ ‎كعب:‏‎ ‎التين‎ ‎دمشق‎ ‎والزيتون‎ ‎بيت المقدس، ‏وقال‎ ‎شهر بن حوشب‎: ‎التين‎ ‎الكوفة، والزيتون‎ ‎الشام، وعن‎ ‎الربيع؛‎ ‎هما جبلان ‏بين‎ ‎همدان‎ ‎وحلوان، والقائلون بهذا القول، إنما ذهبوا إليه لأن‎ ‎اليهود‎ ‎والنصارى‎ ‎والمسلمين ‏ومشركي‎ ‎قريش‎ ‎كل واحد منهم يعظم بلدة من هذه البلاد، فالله تعالى أقسم بهذه البلاد ‏بأسرها، أو يقال: إن‎ ‎دمشق‎ ‎وبيت المقدس‎ ‎فيهما نعم الدنيا، والطور‎ ‎ومكة‎ ‎فيهما نعم الدين. ‏‏(التفسير الكبير: الإمام فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني )‏

هكذا كانت اجتهادات العرب في تفسير القرآن، والمشكلة ليست في نقص العلم ‏ولكن في فوضوية الفكر، فلا يمكن لقارئ هذه السطور أن يخرج بمعلومة مفيدة على ‏الوجه الصحيح، وكلما وردت كلمة يذهبون مذاهب شتى في تفسيرها، ولا نجد أحد ‏يدقق في الأمر بمعايير موضوعية عقلية، إنما فقط يطرحون آراء هي أقرب إلى الفوضى ‏أكثر من كونها "علم ".‏

‏ ونعيد هنا الطريقة التي حاولوا بها تفسير "إرم ذات العماد" حيث بذلوا جهوداً مضنية، ‏ويميل أغلب العلماء إلى الاعتقاد بأن « إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاد»( سورة الفجر، ‏آية 6 ـ 7.) اسم مكان فهي عندهم اصطلاح جغرافي فمنهم من قال إنها مدينة الإسكندرية ‏‏(تفسير الطبري، ﺠ 30 ص 96، ياقوت ﺠ 1 ص 212.) ومنهم من قال إنها مدينة دمشق (تفسير الطبري، ﺠ 30 ‏ص 96. وتاريخ الطبري، ﺠ 1 ص 748، وﺠ 2 ص 587. الهمداني: كتاب البلدان، ص 123، الهمداني: صفة جزيرة ‏العرب، ص 80.) ورأى غير هؤلاء وهؤلاء أنه اسم لمدينة في جنوب بلاد العرب بين صنعاء ‏وحضرموت (القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ج 1 ص 29، معجم البلدان، لياقوت ج 1 ص 123، ‏قصص الأنبياء، للثعلبي، ص 100.) وذكر الهمداني أن في اليمن جبلا باسم إِرَم ذَاتِ الْعِمَادِ (الهمداني: ‏صفة جزيرة العرب، ص 3.) ... وفي النهاية لم يتفقوا على موقع جغرافي محدد، لأن المنطقة ‏بالكامل تاريخها شفوي، وهي ليست بلاد حضارة، فجاء كعب الأحبار في هذه الظروف ليقود ‏البوصلة منفرداً من خلال الدس التوراتي.. إذ أن إرم ذات العماد يعلمها كعب جيداً جنوب ‏غرب الجزيرة العربية، وكذلك مصر فرعون وموسى المجاورة لها، فقط أخبرهم بأن "إرم ذات ‏العماد " تقع جغرافياً جنوب غرب الجزيرة قرب اليمن، وأن "مصر فرعون موسى" تكون ‏جغرافياً هي بلاد القبط...‏

وقد التقط ابن كثير (في كتابه تفسير القرآن) هذا الدس التوراتي من جانب كعب، ‏عندما كتب يقول، بأن القصص المروية عن ملكة سبأ وسليمان هي من وضع أهل التوراة ‏مثل كعب ووهب بن منبه، أي أولئك الذين نقلوا ما أسماه ابن كثير بأخبار بني إسرائيل من ‏الأوابد والغرائب والعجائب، مما كان وما لم يكن، ومما حرّف وبدّل ونسخ‎.‎‏ ‏

جاء كعب فقط ليرسم للعرب المسلمين معالم جغرافية للقصة التوراتية التي وضعها ‏الكهنة السبعون أيام بطليموس دون أن يتدخل في تعديل أو حذفٍ أو تبديل كلمة ‏واحدة في القرآن، وبمجرد أن رسم كعب المعالم الجغرافية للقصة التوراتية تفتحت أذهان ‏العرب المسلمين وبدأوا يستوعبون القصة بشكلٍ أكثر إثارة، لأن أياً من القصص التوراتية ‏الأخرى لم تكن حية وواقعية ومثيرة بهذه الدرجة، فكان العرب يسألون كعب عن قصة ‏قوم لوط ومكانه فيقول لهم (كانت هناك تحت البحر الميت)، وعن قصة ثمود، فيقول؛ كانوا ‏قوماً غابرين ولم يبق منهم أثر...إلخ. وعن قوم عاد، يقول؛ لم يبق منهم أثر.. وعن إرم ذات العماد، ‏يقول طوتها الرمال في مكان كذا.. وبالتالي انحصر جهد كعب في أن ينقل من التوراة ‏السبعونية إلى العرب ولا يدعهم يبحثون في النسخة السريانية الأصلية، وما ساعده هو أن ‏العرب ليسوا أمة تدوين ولا يقرأون وإنما بدو جهلة، ولو قرأوا فأكثر إمكاناتهم هي قراءة ‏مدونات عربية فقط، أما السريانية القديمة فهي محال بالنسبة لهم. خاصة أنهم (البدو ‏العربان عموماً) مصابون بالغرور والنرجسية التي تجعلهم يتعالون على ثقافة الغير ، دون أن ‏يدركوا أن هذا التعالي يجعلهم يتقوقعون داخل شرنقة ثقافية مغلقة ، وهذا ما مكّن ‏اليهود من السيطرة عليهم في عقر دارهم .. ومن ثَمّ القيام بعمليات الحقن المجهري على أكمل ‏وجه .. ‏

وبالإضافة لذلك، فقد كان اليهود بمجرد أن استبدلوا كلمة " إيجبت " بكلمة " ‏مصرايم" في التوراة السبعونية، فقد نقلوا بذلك ضمنياً مسرح أحداث عيسى ومريم عليهما ‏السلام بالتبعية من "مصرايم " إلى إيجبت" وبذلك ضمنوا إتباع اليهود والمسيحيين لذات ‏العقيدة، فلم يجد كعب عقبات من أي نوع بشأن المسلمين الذين جاؤوا إلى الإسلام من أصول ‏يهودية أو مسيحية، بل إنه بمجرد أن تمكن من إرفاق كلمة "القبط" بكلمة مصر الواردة ‏في نص القرآن، فكانت الكلمتان ( مصر – القبط) وكأنهما تجاذبا كـ قطبي مغناطيس في ‏الوعي الجمعي... كانت هي مسمار العقل الذي ربطه كعب في نفوخ العرب وجرجرهم ‏خلفه ! وتبعه فيما بعد أشياخ الأزهر وانهالوا على حضارة وتاريخ وادي النيل بالسب والقدح ‏والازدراء باعتبار ذلك تقريرات كتاب السماء ... لم يدركوا أنه كلام الكعب .. وبذلك نجح ‏كعب في إنقاذ التوراة من الورطة وانفضاح أمرها كونها ذكرت فرعون موسى في إيجبت ‏والقرآن يذكرها في مصر ... وبذلك ضمن كعب أتباع الديانات الثلاث (اليهود والمسيحيين ‏والمسلمين) واعتناقهم للرواية التوراتية، بعد أن قام بتطويع القرآن للتوراة، ليس نص القرآن ‏ولكن تفسيره كان يكفي...‏

يُتبع ...‏‎

‏(قراءة في كتابنا : مصر الأخرى – التبادل الحضاري بين مصر وإيجبت‎ ‎‏)‏‎ ‌‎
‏ (رابط الكتاب على أرشيف الانترنت ):‏‎
https://archive.org/details/1-._20230602
https://archive.org/details/2-._20230604
https://archive.org/details/3-._20230605

‏#مصر_الأخرى_في_اليمن):‏‎
‏ ‏https://cutt.us/YZbAA

‏#ثورة_التصحيح_الكبرى_للتاريخ_الإنساني‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجة السودانية والسعودية مع اوسا وفهد سال ??????????


.. جديد.. رغدة تتحدث عن علاقتها برضا الوهابي ????




.. الصفدي: لن نكون ساحة للصراع بين إيران وإسرائيل.. لماذا الإصر


.. فرصة أخيرة قبل اجتياح رفح.. إسرائيل تبلغ مصر حول صفقة مع حما




.. لبنان..سباق بين التهدئة والتصعيد ووزير الخارجية الفرنسي يبحث