الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوعي عند ماركس و فاعليته

شوكت جميل

2023 / 6 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هذه القضية الفلسفية العتيقة في تراتبية المادة _الوعي أو الوعي _ المادة ،هي ما شقت الفلسفة إلى المذهبين العظيمين ، المثالية بمذاهبها و ترى أسبقية الوعي ، و المادية بفروعها و ترى أسبقية المادة ،و لم تسطع الفلسفة حتى اليوم القطع -فلسفياً- في هذه المسألة ،كشأنها في قضايا كثيرة ،فبات أمر المذهبين أو أشياعهم على الأقل مسألة عقيدة أو دغما ، المفارقة أن الإجابة عن هذه المسألة يحاول أن يقدمها لنا العلم بطريقة غير مباشرة ، رغم أنه لم يكن المنوط به الإجابة عن مثل هذا النوع من الأسئلة؛أفما يكفي النظر إلى نظرية التطور الدارونية ،فنرجح أسبقية المادة؟..بيد أن أمر العلم و إجابته إلى يومنا هذا" على الأقل "لا تتجاوز الظن و الترجيح ؛ و يلوح لي أن أمامه وقتاً حتى يهبنا إجابته القاطعة التي لا جمجمة فيها،هذا إن حازها يوماً،إذ أنِّ إزاء العلم عقباتٍ كثيرةً و عثراتٍ جمةً،أقلها أن يضع بداءةً و قبل أي بحثٍ عن إجابةٍ حدوداً فاصلةً ما بين هو مادة و ما هو وعي،و في هذا خلافٌ فادحٌ بين أهل العلم، مثل تلك المتاهات الدائرية التي لم يكن يروق للعلم أن يرتادها و يخلي بينها و بين الفلسفة!.


و لكنما سؤالنا بعيداً عن قضية التراتبية التي أسلفنا ،و هو كما يلي: هل اعتناق الفلسفات المادية " و الماركسية أحدها" لمبدأ "أن الأسبقية إنما للمادة و عنها ينبثق الوعي"،تعني أن الوعي لا يؤثر في المادة و الواقع الموضوعي و أن لا دور له في"الحياة" بمعنى أعم؟

يذهب البعض إلى غياب فاعلية الوعي في حياة الانسان و واقعه،بل و إلى وجود لونٍ من ألوان الحتمية القدرية في النظرية الماركسية،و أن هذه الحتمية تعمل بعيداً عن وعي الإنسان و إرادته،و أن الوعي ليس أكثر من انعكاس سلبي للوجود المادي،و إذا ما كانت القوانين الاقتصادية المادية هي أساس التطور التاريخي ،فهي تعمل بذاتها و في ذاتها حتى تحقق حتميتها ،و لن يكون الإنسان بوعيه و إرادته سوى ترسٍ مسيرٍ في آلة هذه القوانين الصماء ،لا يملك من أمره شيئاً.

المفارقة أن هذه الرؤية للماركسية جمعت بين طائفتين غريمتين:أولهما بعض المعارضين للماركسية و ناقديها،و من ثم ترمي هذه الطائفة الماركسية "بالدوغمائية"الغير إنسانية،و إنها جعلت من الإنسان كائناً مستلباً،و أن وجوده الإنساني برمته محددٌ و مشروط ٌبصورة حتمية بواقعه المادي،الذي هو المحدد للتاريخ الإنساني كله،و إلا فأين دور وعي الإنسان و إرادته؟
أما الطائفة الثانية،فمن أتباع و أشياع الماركسية،الذين يرددون بحسن نيةٍ و بشكل غوغائي حتميةَ سقوط الرأسمالية القادم لا محالة،و التي لن يستطيع تأخيرها أو تقديمها إرادة بشرٌ أو إلهٌ..ومنهم من يرددها_أي الحتمية_ بسوء نيةٍ،لفرض سياسته على الناس و المجتمع،و استلاب الإنسان إحساسه بفاعليته و قدرته و إرادته"ستالين مثالاً"..و شعارهم ..يا أبنائي الشعب المقهور،إنما الأمر مقدور.

أما الآن و لكي نقترب من دراسة المسألة_أي وجود مفهوم الحتمية و غياب فاعلية الوعي في الماركسية أم لا_علينا أن نتناول قبلها بشيءٍ من الحرص مفهومين،أزعم أنهما الكاشفان اللذان يجعلان المسألة أكثر وضوحاً على الأقل:المادية الآلية"الغير جدلية" من ناحية،و القانون الموضوعي الحتمي"أو الحتمية العلمية"من ناحية،و لنر ماذا يقول ماركس _و هو صاحب القضية الأساسي_و لنسمع حديثه؛ فبكلامك تبرر و بكلامك تُدان كما يقولون؛و سوف نضع ماركس في القفص،و نحاكمه بكل صرامةٍ ،و لكن في غير تجنٍ و لا جورٍ على الحق.


يقول "ماركس "مرةً في مقدمه كتابه"مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي":(...إن نمط الإنتاج المادي هو الذي يحدد و يشرط سيرورة الحياة الاجتماعية و العقلية عامة.ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم و إنما العكس،إن وجودهم هو الذي يحدد وعيهم).
ها!..هذا نص صريح في ذهاب ماركس بأن الوجود الإنساني محكوم و مشروط بشكل حتمي بواقعه المادي!و أن الواقع المادي و ظروفه هي التي تكون الإنسان!..حتميةٌ قحة و وعيٌ غائب!..و لكن علينا أن نتمهل قليلاً فماركس"نفسه "يقول في موضع آخر:(إذا كانت الظروف تكون الإنسان ،فيجب تكوين هذه الظروف بطريقة إنسانية)(1).أي أن الانسان بإرادته و وعيه قادرٌ على تكوين واقعه المادي "بظروفه الانسانية" بشكلٍ أو بآخر،بيد أن قوله هذا يتناقض "ظاهرياً"،مع سابقه،و يلح علينا السؤال ماذا يقصد ماركس؟..ألا يستقر على رأي؟..هل الإنسان هو الذي يكون و يخلق واقعه المادي و ظروفه؟أم أن الواقع المادي و الظروف هي التي تكون و تخلق الإنسان؟!...في الحقيقة هذا هو مربط الفرس و لبُّ القضية،لأن هذا السؤال ليس مادياً جدلياً بالأصل!و إنما هذه سيرة"المادية الآلية"التي ترى أن الأمور تسير في اتجاه واحد و التي هي نقيض "المادية الجدلية"فبينما تذهب المادية الآلية أن الوعي هو انعكاس سلبي للوجود المادي،تذهب المادية الجدلية في أن الوعي هو بلا شكٍ انعكاس للواقع المادي،و لكنه "انعكاسٌ فعالٌ"،و إذا كانت حياة الناس"الروحية"قد نبتت من الحياة المادية،فهي لا تنفصل عنها،فكل منهما يؤثر و يتأثر بالأخر،و كلما ازداد وعي الناس بالقوانين الموضوعية التي تحكم واقعهم المادي،كلما ازدادت فاعلية نضالهم،و قدرتهم على تغيره ،و في الحقيقة ليس في المادية الجدلية من مكانٍ للقوانين التي تعمل بنفسها،و ليس في المادية الجدلية من مكان لهذا النظرة المادية الآلية"الساذجة".و لعلنا نذكر حديث ماركس المشهور:( بأن "الناس" هم الذين يصنعون التاريخ و لكن ليس كما يشتهون). و أي عاقل لا مسمحة له بأن يفهم هذا الكلام إلّا أن الواقع المادي و الظرف التاريخي هو الذي"يحدد"القنوات التي تعمل بها إرادة الانسان و وعيه، و أن ما من مكانٍ في الماركسية لمثل عذا العزف المنفردللوعي الانسان من ناحية أو لواقعه المادي من ناحية،إنما هو عزفٌ ثنائي،و أليست هذه هي الجدلية بعينها؟!.. و الحق، لم أجد أوقع من حديث إنجلز في هذا الصدد:(يا لها من فكرة بلهاء تلك الفكرة التي ينادي بها بعض المفكرين،القائلة بأنه لما كنا لا نعترف لمختلف الأفكار التي تقوم بدور في التاريخ بأي نمو تاريخي منفصل(أي منفصل عن الواقع المادي_إضافة الكاتب)،فإننا لا نعترف لها أيضاً بأية فاعلية تاريخية)(2)..ثم يسهب انجلز في توضيح أن هذه الفكرة غير جدلية عن السبب و النتيجة،كأنهما قطبان متنافران .


..و يتبقى السؤال ماذا عن القوانين الموضوعية _و إن شئت الحتمية_والموجودة خارج إرادة الإنسان و وعيه؟...و أحسب أنه،للإجابة عن هذا السؤال إجابة أكثر عمقاً و حيادية و دونما تعسف،يلزمنا أن نقترب كثيراً من المنهج العلمي،ذلك الذي كان يقدره ماركس كل التقدير،إذ لم يصبُ الفيلسوف و العالم الكبير سوى إلى إرساء "فلسفة علمية"،و الماركسية في ذلك شأنها شأن العلم،ترى الواقع كما هو بدون إضافات خارجية،إذ هي معرفة"موضوعية للواقع المادي"تمدنا بالقوانين التي تحكمه و القائمة بذاتها بعيداً عن الإنسان،و من ثم وعي الإنسان بهذه القوانين لتغير هذا الواقع...فهبنا أمام قانون فيزيائي_علمي_ "حتمي"يقول بغليان الماء و تبخره في الظروف القياسية عند مائة درجة مئوية،فهل مثل هذا القانون قد اختلقه وعي الإنسان اختلاقا؟و إذا كانت الإجابة بلا؛فهل يستطيع الإنسان العمل بوعيه خارج حتمية هذا القانون(أي محاولة الحصول على الماء المغلي بدون تسخينه حتى الدرجة "المحددة")؟..نجيب و نقول:لا. فإذا رغبت في كوب شاي مغلي(إذا كنت من هواة الشاي الصعيدي)،فعليك الخضوع للقانون الموضوعي الحتمي وهو تسخين الماء.،و إلا فوعيك لن يفيدك شيئاً،و لن تفوز بكوب الشاي الرائع...و السؤال هنا: ما شأن ذلك"بالحتمية القدرية"المزعومة؟ كل ما في الأمر أن الماركسية تقول بأن هناك قوانين موضوعية يتم العمل خلالها،بوعي و إرادة الإنسان،و إنما هم الماركسية هو البحث _أقول البحث_عن هذه القوانين،و هي كالعلم تماماً تخرج من عالمنا المادي،و هي أيضاً كالعلم تماماً ليست نهائية،يقول ماركس في مقدمة كتابه"رأس المال":(هدفنا النهائي هو الكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع)...و لتوضيح أهمية القوانين الموضوعية الحاكمة التي يجب أن يعمل من خلالها وعي الإنسان،نسأل هل كان في إمكان الإنسان بوعيه و إراداته منفردتين،أن يضرب عرض الحائط بالقوانين الموضوعية، فيقيم ثورة اشتراكية و إقامة نظام اشتركي في عصر يقوم اقتصاده على الرق أو القين،أو يقوم اقتصاده على الغزو و السلب و النهب كما كان حال القبائل العربية؟!..بالطبع الإجابة :لا...لأن القوانين الموضوعية تظهر أن في مثل هذه المجتمعات المتخلفة، لم يكن يسمح بعد، الصراع الطبقي و العلاقة بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج بمثل هذا النظام،بغض النظر عن وعي الإنسان أو رغبته.

بيت القصيد
تقف المادية الجدلية،كما بينا،في خلاف بَين مع نزعتين فلسفيتين:
الأولى و هي المادية الآلية،و التي ترى أن وعي الإنسان هو انعكاس سلبي،لواقعه المادي،و أن الواقع المادي بقوانينه الاقتصادية هو أساس التطور التاريخي دونما الحاجة لوعي الإنسان،أو تأثيره.

الثانية،و هي نزعة تتناثر في الفلسفات المثالية،و اللاأدرية و الوجودية،و ترى أن وعي الإنسان هو الذي يحدد وجوده و واقعه و ظروفه،و كأنما هو قادر على خلق هذا الواقع،ضاربةً عرض الحائط بكل القوانين الموضوعية.

أما المادية الجدلية،فترى أن الواقع المادي و وعي الإنسان في علاقة تفاعلية تأثيراً و تأثراً،و أن هذه العلاقة الفعالة،و التي يغير فيه وعي الإنسان من واقعه،كما يغير واقعه منه، لا تتم ألا من خلال قوانين موضوعية حاكمة،شأنها شأن العلم.

سؤال خارج السياق:
نعلم كيف فسرت الماركسية السيرورة التاريخية من عهد المشاعة الأولى حتى الرأسمالية،و كيف دللت على أن الاقتصاد هو العامل"الأظهر"فيها،و الحق قد فسرتها بصورة منطقية و منسجمة مع ذاتها...و لكن السؤال أين و متى قال "ماركس"أن الاقتصاد هو الفاعل الوحيد_و الوحيد فقط_في سيرورة التاريخ؟!




........................................................
(1)كارل ماركس في دراسات فلسفية ص 116"إضافة إلى تاريخ المادية الفرنسية"..نقلاً عن كتاب أصول الفلسفة الماركسية لجورج بولتزر ص 281
(2)المرجع السابق ص361
مقال للكاتب عن الحتمية و فاعلية وعي الانسان في الماركسية 6/3/2015
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=458189








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو