الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عيد الاضحى بين الأسطورة والدين والعادة الاجتماعية

شفيق العبودي

2023 / 6 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يعيش المسلمون في مختلف دول المعمور هذه الأيام على ايقاع الاستعداد لإحياء شعيرة دينية وهي عيد الأضحى أو عيد الكبير أو عيد النحر أو عيد القربان حسب اختلاف التسمية، لكنه يبقى مرتبطا بموسم الحج الذي يعتبر ركنا من أركان الإسلام مع أنه مشروط بالقدرة والاستطاعة "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" سورة آل عمران الآية 97، وهي مناسبة تعيد إلى الواجهة عديد الأسئلة، ومن أهمها هل حقا عيد الأضحى سنة مؤكدة خاصة وأن الشواهد التاريخية تدل على عدم قيام الصحابة بها؟ وحتى لو كانت سنة مؤكدة، فهل استطاعت أن يبقى في ذات الإطار أم أن العادة الاجتماعية حولتها إلى فرض عين على كل مسلم مهما كانت ظروفه الاجتماعية؟ ولماذا لا يتم الافتاء بالتخلي عن هذا السنة خاصة ونحن نعيش فترة اقتصادية صعبة أحد مؤشراتها أن الدولة عبر وزارة الفلاحة لم تستطيع توفير العدد الكافي من الذبائح الوطنية نظرا لمجموعة من الأسباب، فتم اللجوء الى الاستيراد لسد الخصاص، مع العلم أنه سبق في المغرب أن تم إصدار قرار بعدم الذبح/التضحية في فترات سابقة (1963م، 1981م، 1996م)؟ وأخيرا ما هي الجذور التاريخية لهذا العيد/الطقس الديني؟
للجواب عن هذه الاسئلة وخاصة سؤال الجذور التاريخية لهذا الطقس/الشعيرة الدينية، لابد من العودة إلى البدايات الأولى ومنشأ فكرة الذبيحة أو التضحية كما فكر فيها الإنسان البدائي، قبل ظهور الأديان سواء الوضعية أو السماوية.
1 ــ الأضحية والقربان في الأساطير والديانات الوثنية:
إن الأضحية ليست ظاهرة عرفها المؤمنون من اتباع الديانات الابراهيمية فقط،، بل هناك الكثير من الشواهد الدالة على وجودها لدى عديد الأمم القديمة. فقد وقف الإنسان القديم منبهرا ومفزوعا أمام الظواهر الطبيعة (الفيضانات، البرق، الرعد، الزلازل، البراكين، العواصف، الجفاف، المطر، النيازك والمذنبات، والليل والنهار، الشمس والقمر والنجوم...الخ) ولأنه كانت تعوزه المعرفة خاصة العلمية لفهم واستيعاب هذه الظواهر التي شكل أغلبها خطرا عليه وهدد وجوده، فقد ربطها بقوى خارقة هي من تقف خلفها وتتحكم في مسارها، وأرجعها لإله، حتى صار لكل ظاهرة ما إله خاص بها وبذلك تعددت آلهة الإنسان بتعدد الظواهر، فهناك إله الخصب وإله البحر وإله الشمس وإله النهر وإله الرياح...الخ وغداة تشكل الوعي الجنيني لدى الإنسان، وخاصة الوعي الأخلاقي منه وظهور مفهوم الإحساس بالذنب، حينها اعتقد الإنسان القديم آنذاك أن غضب أحد الآلهة هو سبب تسليط إحدى الظواهر الطبيعية عليه لمعاقبته لسوء السلوك أو لعدم إرضاء هذا الإله أو ذاك، لذلك نراه حين يشتد الجفاف والقحط في المجتمعات الزراعية كان يقوم بإهداء القرابين لإله الخصب، فطالما قدم المصريون القدامى أضحية بشرية لنهر النيل تجنبا لغضبه وفيضاناته، وفي حضارة المايا والأزتيك في أمريكا اللاتينية كانوا يقومون بسفك دم أحد أفراد الأسرة تكفيرا عن خطأ يُعتقد أنه سبب الأوبئة التي سَلَّطَتها عليهم الآلهة عقابا لهم، وأيضا كان كهنة المعبد في هذه الحضارة القديمة يجتمعون عند سفح الهرم ينتظرون قدوم خسوف القمر ليقدموا رؤوس بشرية لإله القمر تكفيرا منهم عن ذنب ارتكبوه ويعتقدون أنهم يعانون بسببه. ولم تكن عقائد المايا والأزتيك هي الوحيدة المتفردة في تقديم الذبائح للآلهة بل سادت في ثقافات موزعة على كافة أرجاء المعمور، فطالما كانت عادة التضحية تمارس فوق الأهرامات الحجرية المشيدة في ساحات الاحتفال، وإثرها تقدم العطايا البشرية من منتجات زراعية وحتى دم المُتَعَبِّد الذي يحصل عليه عبر شَقِّ شفتيه أو لسانه أو عضوه التناسلي، وكانت أسمى درجات التكريم للآلهة تتم عبر تقديم الضحايا البشرية، من أباء إلى أبناء ثم حيوان عوضا عن الآباء والأبناء، فقد أشار المؤرخ الامريكي ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة الجزء الاول" إلى التراتيل السومرية التي تقول إحداها: "الضأن فداء للحم الآدميين، به افْتَدَى الإنسان حياته" والضأن تعني ذو الصوف وفوق العامين، ويضيف ويل ديورانت أنه في الاحتفالات السومرية الدينية كان الكهنة يضربون أنفسهم حتى تُلَطِّخ دماؤهم المذبح، وبعضهم كان يفتدي نفسه بنفسه، كما يؤكد عبد الحميد زايد في كتابه " الشرق الخالد: مقدمة في تاريخ وحضارة الشرق الأدنى من أقدم العصور حتى عام 323 ق.م ص: 302" أن الفينيقيين قد دأبوا على التضحية بالطفل البكر، وهو ما تدل عليه أثار عظام الأطفال التي عثر عليها تحت أسس المنازل. وقد أكد المؤرخ فيلون الاسكندري أن الفينيقيين كانوا يضحون بأعز أبنائهم في حالة وقوع الأخطار إبعاداً لشرها، وفي نفس السياق حكى المؤرخ اليوناني تيودور الصقلي في موسوعته الشهيرة المسماة "مكتبة التاريخ" قصة عن التضحية بمائتي طفل في صقيلية، وحسب الكاتب سامي لبيب فقد كشفت حفائر "كفر الجرة" الكنعانية عن صندوق يضم عظام أطفال تحت تأسيس عمود من سور كتضحية، وفي قرطاج وجدت عظام أطفال لم تزد أعمارهم على ستة أشهر وتوجد أحد هذه الصناديق في متحف اللوفر حتى الان، ومن القصص الشهيرة في هذا الباب قصة ملك موآب "ميشا" الذي ضحى بابنه الأكبر ليفك الحصار عن مدينته، ولما استجاب ربه رجاءه ذبح سبعة آلاف يهودي شكرا لله على نعمته. كما أن إله الكنعانيين "بعل مُولْك" كان مغرما بدماء الأطفال، حيث يساقون في يوم عيده على إيقاع الطبول والمزامير إلى المذابح والمشواة، وقد حدث في قرطاج أثناء حصارها سنة 307 قبل الميلاد، أن أحرق على مذبح الإله مائتا غلام من أبناء أرقى الأسر هناك.
وقبل أن يتوجه الإنسان إلى التضحية بالحيوان فقد سبق أن ضحى بالنبات والزرع عندما كان في المجتمع الزراعي من خلال ما يسمى "الفطيرة" أو الخبز غير الخامر بدون خميرة، على اعتبار الخبز المخمر يحيل إلى الكبرياء من خلال انتفاخه عندما تضاف اليه هذه المادة، بينما الالهة يجب أن يتواضع العبد أمامها لذلك لا يجوز التضحية لها بخبز مخمر بل المحبب لها الخبز غير الخامر " الفطيرة"، لكن الانتقال إلى المجتمع الرعوي سيفرض التضحية بالحيوان، وقبل العودة إلى قصة الأضحية بالحيوان أشير فقط إلى أن بني اسرائيل حسب الدكتور أنيس فريحة في كتابه "دراسات في التاريخ" كثيرا ما كانوا ينظرون إلى ملوكهم على أنهم مسؤولون عن الجفاف أو القحط أو النوازل والمصائب التي تحل بهم، لذلك توجهت أضحيتاهم في وقت من الأوقات إلى التضحية بملوكهم، إسوة بما كن معتمدا لدى البدائيين الذين عمدوا إلى قتل مَلِكِهِم أو شَيْخِهِم باعتباره أباً للجميع وعلى رأسه يجب أن تقع كل الأخطاء والأوزار فيتيسر معاشهم وتزيد غلاتهم وتخصب أرضهم، لكن مع مرور الزمن استعاضوا عن الملك أو الشيخ بالاقتراع على المُضَحَى بِهِ، ثم لاحقا استبدلوا بالقرعة مجرما محكوم عليه بالموت ليقدم قُرْبَانًا، وآخر الأمر استبدلوا كل هذا بحيوان وحبذا لو كان خروفا، فلماذا الخروف، وما قصته التي ترد في كل الشرائع الابراهيمية خاصة اليهودية والإسلامية؟
وقبل أن اقوم القاء نظرة عن تطور واختلاف حضور الأضحية في الديانات السماوية أود أن ألفت الانتباه الى كيفية تفضيل القربان الحيواني عن القربان النباتي في إشارة إلى انتصار المجتمع الرعوي على المجتمع الزراعي تاريخيا، وذلك من خلال قصة قابيل وهابيل التي نتج عنها ما نتج من قتل قابيل لهابيل جراء تفضيل الله لقربانه الحيواني ورفضه لقربان قابيل الزراعي. إذن كيف حضرت الأضحية في الديانات الابراهيمية السماوية التوحيدية؟ وكيف استعاضت بالحيوان عن الانسان قرابانا للإله؟
2 ــ الأضحية في الخطاب التوراتي اليهودي:
تعتبر الديانة اليهودية أول دين توحيدي ابراهيمي، لكن بخصوص الأضحية أو القربان الإلهي فلم تأتى بشيء جديد عن التي سادت في كل المجتمعات الإنسانية القديمة، بل عملت على تعميقها وترسيخها، لكن ما يُحسب لها أنها ألغت تقديم الذبائح البشرية بعد الواقعة الشهيرة بفداء اسحاق بالكبش ولكن المضمون الحقيقي والجوهري للذبيحة والقربان كفكر ومعنى ظل على نفس ما أسسته كافة العقائد الوثنية، بحيث تعتبر الذبيحة ألية من أجل غفران الخطايا وطرد النكبة والطاعة وطلب المعونة والدعم من الإله ، وقد جاء في التكوين الرابع "وقدم هابيل من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الرب إلي هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين(قابيل في القران) وقربانه لم ينظر". وبعد انتهاء الطوفان نجد أن نوح قام بتقديم ذبائح لله من الحيوانات التي كانت على الفلك، وهوما يشير إليه التكوين الثامن "وسُرَّ الله من تضحية نوح، وبنى نوح مذبحا للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا، وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته، ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت"، كما أمر الله ابراهيم بالتضحية بأبنه اسحاق ليثب لله طاعته، وبعدما تأكد الله من طاعة ابراهيم قبل أن يذبح ابنه تدخل ووفر حملاً ليذبح عوضاً عن اسحاق، كما في كتاب سفر التكوين رقم 22 "ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم إبراهيم. فقال: هاأنذا . فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا، لأني الآن علمت أنك خائف الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه"، وهذا يكشف أن فكرة التطهر بالدم فكرة أصيلة في المفهوم التعبدي اليهودي حيث نجد في سفر العبرانيين، الإصحاح 9 "وكل شيء تقريبا يتطهر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم، لا تحصل مغفرة"، وهذه الآية من الأهمية بمكان فهي تقدم لنا فهم وفلسفة الكتاب المقدس في تأكيد ضرورة التضحية بالدم، سواء أكان دم حيوان فداء للإنسان كما فعل إبراهيم أو سواء كان دم إنسان كما فعل يَفْتَاحْ بإبنته الوحيدة بذبحها إيفاءً لنذره للرب إذا دفع بني عمون إلى يده ليقتلهم حسب ما ذكر في سفر القضاة الإصحاح 11. ويبلغ نظام التضحية ذروته مع شعب اسرائيل عندما أمرهم الله بتقديم التضحية مرات عديدة. وهوما يشير إليه كتاب لاويين الاول" هكذا قال ربُّ الجنود، إله إسرائيل، ضُمّوا مُحرقاتكم إلى ذبائحكم و كُلوا لحْما" وتضيف التوراة من أجل تبيان طقس الذبيحة فنجد أمامنا عدة أنواع منها كذبيحة المحرقة، وذبيحة الخطية، والسلامة، والإثم، وذبيحة يوم الكفارة وغيرها كما هو الشأن عن المسلمين في مناسبات شتى رغم اختلاف نوع الذبيحة.
3 ــ الأضحية في الخطاب المسيحي:
رغم أن الديانة المسيحية ألغت فريضة تقديم الأضحية بذبح الحيوانات إلا أنها لم تلغي منهجية الذبيحة والدم بل على العكس من ذلك أسستها وبنت عليها الفكر الإيماني والعقدي المسيحي لتتحول فكرة الذبيحة والدم إلى حجر زاوية وليس فعل طقسي قد يواريه النسيان ليتغلغل منهج الفداء عن الخطية بالدم المسفوك في كل ثنايا الفكر الإيماني المسيحي، إذ تحول الحمل/الكبش الذى يُسفك دمه إلى المسيح كقربان أعظم، وهوما يشير إليه كتاب يوحنا الاول بقوله "هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم"، لذلك فما تعرض له المسيح يعتبر بمثابة كفارة نيابة عن كل المؤمنين به، إذن نحن هنا أمام فكرة الذبيحة/القربان كشرط لغفران الخطايا مع استبدال الذبيحة الحيوانية/الأضحية بالمسيح الذبيح لتبقى منهجية فكر الإنسان القديم قائمة ولكن بتمظهرات مختلفة، بل يتم تأسيسها بشكل أقوى وأعمق فلا خلاص إذن إلا بالذبح والدم.
4 ــ الأضحية في الخطاب الاسلامي:
قبل مقاربة مفهوم الأضحية في الدين الاسلامي لابد من العودة إلى النص المؤسس وهو القرآن الكريم من خلال آياته الدالة على جذور هذا الطقس الديني وذلك في سورة الصافات الآية 102 التي يقول الله تعالى فيها "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" والسؤال هو أن أغلب المفسرين اعتبروا الرؤية التي رآه ابراهيم بمثابة أمر من الله بذبح اسماعيل أو اسحاق، في حين النص واضح واللغة العربية لا تحتمل هذا التعقيد الذي لجأ إليه بعض المفسرين، إذ ليس هناك أمر بالذبح وحتى اسماعيل لم يقل لأبيه أفعل ما تُورَى أو ما رأيته في المنام، بل قال له افعل ما تُؤْمَرُ. ثم هناك خلاف اخر مرتبط بمن عليهم واجب الأضحية هل كل المسلمين في أصقاع الأرض أم حجاج بيت الله الحرام؟ عل اعتبار أن الأضحية هي ما يذبح من بهيمة الأنعام تقرباً إلى الله بعد صلاة عيد النحر إلى آخر أيام التشريق ( وهو يوم الثالث عشر من ذي الحجة ) بنية الأضحية، إذ جاء في كتاب الله العزيز من سورة الكوثر قوله تعالى: "فصل لربك وانحر" وفي سورة الأنعام الآية 162 "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"( ونسكي أي ذبحي ) وقال أيضا في سورة الحج الآية 34: "ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلِموا" وهكذا نجد الذبيحة لها معنى واضح وهو التعبد لله والتقرب إليه وطاعته وإتباع سنة نبي الإسلام وإحياء لسنة ابراهيم وطاعته لربه لذا فهي واجبة الإتباع بالرغم من أنها تتقارب وتتشابه مع نفس جوهر المعتقدات الوثنية القديمة.
بالإضافة لما أوردناه كأدلة من القران الكريم نود أن نعرج على سنة نبي الاسلام، حيث روى كل من الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي قوله: "مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلا يَقْرَبَنَّ مُصَلانَا" لهذا لا تعتبر الأضحية أمرا شعائريا عاديا فهو بمثابة واجب لمن يملك سعة أي قدرة والمقصود بها هنا القدرة المادية لشراء الأضحية أو امتلاكها، ويمكن تلمس أهمية طقس الذبح وإراقة الدماء في الإسلام من حديث عائشة عن النبي: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحبَّ إلى الله تعالى من إراقة الدم، إنَّها لتأتي يوم القيامة بقرونها، وأظلافها، وإنَّ الدم ليقع من الله عزَّ وجل بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض تطيب بها نفساً" وكذلك ورد في الأثر قوله (ص): "قومي إلى أضحيتيك فأشهديها فإنه يُغْفَر لكي عند أول قطرة دمٍ منها" نلاحظ هذا الاحتفاء بالذبح والدم المسفوك كطقس له أهمية قصوى من أجل رضا الله سبحانه وتعالى وتجنب عقابه وطلبا في ثوابه وعطاياه. وعن طبيعة الأضحية فقد ورد في حديث أنسٍ أخرجه البخاري في صحيحه قال: "ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ, وَسَمَّى وَكَبَّرَ, وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا" مما يعني أن المسلم الموسر يُعَبِرُ بها عن شكره لله على نعمه المتعدِّدة ومنها: نعمة الهدى، ونعمة البقاء على قيد الحياة من عامٍ إلى عام، ونعمة السلامة والصحَّة، ونعمة التوسعة في الرزق، وهو فضلاً عن ذلك تكفير لما وقع من الذنوب، وتوسعةٌ على أسرة المُضَحِّي، وأقربائه، وأصدقائه، وجيرانه، وفقراء المسلمين. لكن السؤال المطروح لماذا على المسلمين عامة الاقتداء بهذه السنة والتاريخ يقول أن صحابة لرسول (ص) لم يتبعوه وقدا عاشوا معه جزء كبيرا من حياته، مع أن تاريخ هذه الاضحية يعود الى ابراهيم عليه السلام لكن الرسول (ص) لم يحتفل به إلا في العام الثاني للهجرة، وقد ورد في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما، فلما قدم النبي (ص) المدينة قال كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى"، لكن مع ذلك بعد وفاته لم يتبع الصحابة سنته في ذلك، وقد جاء في تفسير ابن كثير الجزء الرابع صفحة 646 "وقال أبو سريحة كنت جاراً لأبي بكر وعمر وكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما" وجاء في سبل الإسلام الجزء الرابع ص 91: "وأفعال الصحابة دالة على عدم الإيجاب – إيجاب التضحية – فأخرج البيهقي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان خشية أن يقتدى بهما" وجاء في (الاعتصام) للشاطبي الجزء الثامن صفحة 91 "وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يضحون – يعني أنهم لا يلتزمون". وهكذا ولو لم تسقط الأضحية عن الأمة لكان الصحابة، وعلى رأسهم الشيخان أولى الناس بأدائها .. وأبو بكر هو من عرف بتحري الاتباع والتجافي عن الابتداع وقد أورد عنه كتاب (الاعتصام) للشاطبي في صفحة 55 عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "لست تاركا شيئاً كان رسول الله (ص) يعمل به إلا عملت به ، أني أخشى أن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ" وهناك شواهد عديدة على هذا التناقض، لكن دعنا نقوم بعقد مقارنة لكل ما اوردناه سابقا قبل الانتقال إلى الجانب الاجتماعي للشعيرة الدينية هذه، أول خلاصة هي التشابه حد التطابق بين النص العبراني والنص الاسلامي فلا يجوز التضحية بالدابة البين مرضها، ولا العرجاء، ولا العوراء، ولا الجرباء، ويستحب في الاضحية اسمنها واحسنها، فقد كان النبي يضحي بالكبش الاقرن الابيض، كما لا تصح الاضحية الا من النَعَم، من البقر، والإبل، والغنم والمعز والضَأْنِ، والخلاصة الأهم وهي هذا التشابه الشبه المطلق رغم اختلاف الأديان التوحيدية السماوية عن الأديان الوثنية الوضعية إلا أن فلفكرة الجوهرية واحدة لم تتغير فهناك إله يطلب الذبائح نظير مباركته للمؤمنين ومغفرته للخطايا، كما أن الذبائح هي أيضا وسيلة لتقرب المؤمنين إليه وشكل من أشكال عبادته. فهل الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام لم تنتبه لشيوع هذه الممارسات الوثنية وتلك الأفعال الساذجة التي تجعل من فعل الذبح المرفوض إنسانيا ولا معنى له وسيلة مُفضلة لنيل البركة وغفران الخطايا والتقرب إلى الله؟ بالطبع ليس الأمر هكذا فالدراسات الأنثروبولوجية أكدت أنه لا يوجد لدينا كيانات ميتافزيقية كإله توحيدي أو آلهة متعددة تتفق أو لا تتفق في الأسلوب والمضمون بل نحن أمام بشر متقاربون في الفكر والغاية والمعالجة وتحت نفس الظروف الموضوعية التي جعلت فكرة التضحية/الذبيحة والقربان تظهر للوجود وتحظى بالقبول كحل إنساني ذا صيغة تحايلية برجماتية تتعامل مع معضلة الطبيعة والحياة والقضايا التي واجهت الانسان على مر العصور وحاول بطرق تتوافق ومستواه العقلي والمعرفي حلها.
لكن لماذا التشديد على الكبش؟
تنبع فكرة التضحية من تراث ومعتقدات قديمة امتدت لأكثر من أربعة آلاف عام قبل الميلاد حيث كان الكبش عند المصريين القدماء صناع الحضارة والميثولوجيا رمزا لآمون إله الخصب، و كان أيضا رمزا ل" خنوم" إله الطين والخزف إشارة للطين الذي صُنع منه الخلق الأول، أما عند الهنود القدماء فيمثل الكبش رمزا لإله الفكر و النّار " آنِيِّي" كما شكل رمزا للإله " إِنْدْرَا" معلم الآلهة والكهنة والرمز الكبير للتوحيد الربوبي، وعند اليونان اقترنت رمزية هذا الحيوان بإله الرعي " أبولو". كما أن للكبش مكانة في أديان البشر حتى قبل القصة الإبراهيمية، لذا فليس غريبا أن يكون تعويضاً عن ذبح إسماعيل أو اسحاق، و أن يكون المسيح كابن للإله كما تقول بذلك الكتب المسيحية بديلا عنه، أما في الدين الإسلامي نجد في ثنايا التراث المتوارث رؤية للكبش كرمز الموت في الحياة الأخرى وذلك يتضح من خلال حديث محمد(ص) مع أهل الجنة وأهل النار، إذ قال : "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يُجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال، يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون، نعم هذا الموت. فيُقالُ : يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، فيُؤمر به فيُذبح و يُقالُ : يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت".
وبغض النظر عن كل التناقض الذي أوردناها سابقا حول جواز اتباع هذه السنة أو عدمه، هل يجوز الآن ونحن نعيش ظروف اقتصادية صعبة التخلي عن هذه السنة على الاقل تماشيا مع حديث الرسول "مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلا يَقْرَبَنَّ مُصَلانَا" الذي يشترط القدرة المادية على التضحية أما من ليست لهم سعة/قدرة فلا جناح عليهم؟ لكن وأنت تواجه عديد الناس بهذا الحديث، تجدهم وقد ابدوا اتفاقهم واستنكروا فعل التكلف والاستزادة فوق القدرة لشراء الاضحية، لكن ذلك مجرد كلام لا يتجاوز أثره حوار بيني، لأن الواقع يقول عكس ذلك إذ يعمد الكثيرون إلى سلك كل السبل من أجل اقتناء الاضحية/الذبيحة، حتى لو كلف ذلك اللجوء إلى الاقتراض من المؤسسات المالية أو الأصدقاء والعائلة، وقد يلجأ البعض إلى بيع بعض الأغراض المنزلية (صالون، ثلاجة...) لشراء الكبش/الأضحية، في تمظهر صارخ للنفاق الاجتماعي، والأخطر من ذلك تتحول العائلات إلى التنافس حول من سيشتري أكبر خروف للعيد وويل لمن كانت حيلته المادية أقل، فلن يتوانى جيرانه وبعض أقربائه عن تحويله إلى حديث للمجاميع وسخرية في المجالس، مما يطرح عديد الاسئلة حول ثقافتنا الدينية واتجاهها نحو التدين عوضا عن الدين، وعن من يسعى إلى ترسيخ مثل هذه الممارسات؟ طبعا هناك قاعدة قانونية تقول "إذا أردت ان تعرف المجرم الحقيقي فابحث عن المستفيد من الجريمة"، والمستفيد الأكبر من جريمة إثقال كاهل الأسر بفريضة لم ينزل الله بها من سلطان هم التجار الكبار والمنتجون الرأسماليون، الذين قرروا الاستثمار في كل شيء بما في ذلك العبادات والطقوس الدينية وحتى العادات الاجتماعية وتحويلها الى مناسبة لمراكمة الأرباح ولو بطرق غير مشروعة ودون حسيب أو رقيب وبغلاف ديني، وبالتالي النتيجة هي تشيئ الدين ونزع الطابع الروحاني عنه.
المراجع والإحالات:
1 ــ ويل ديورانت " قصة الحضارة"
2 ــ عبد الحميد زايد "الشرق الخالد: مقدمة في تاريخ وحضارة الشرق الأدنى من أقدم العصور حتى عام 323 ق.م"
3 ــ أنيس فريحة "دراسات في التاريخ"
4 ــ جواد علي " المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام"
5 ــ محمود الحوت " في طريق الميثولوجيا عند العرب"
6 ــ جان بوتيرو "الديانة عند البابليين"
7 ــ سامي لبيب " الله والذبائح والأضاحى-الأديان بشرية الهوى والهوية" الحوار المتمدن-العدد: 3886
8 ــ القآن الكريم
9 ــ الكتاب المقدس سفر التكوين، الإصحاح 4،8،9،11،22
10 ــ كتاب لاويين الاول
11 ــ كتاب يوحنا الاول
12 ــ تفسير ابن كثير الجزء الرابع
13 ــ كتاب (الاعتصام) للشاطبي
14 ــ صحيح البخاري
15 ــ الحافظ بن حجر العسقلاني " سبل الإسلام الجزء الرابع"

ذ. شفيق العبودي
العرائش في 23 يونيو 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حاخامات يهود يمزقون علم إسرائيل خلال مظاهرة في نيويورك


.. بايدن يؤكد خلال مراسم ذكرى المحرقة الالتزام بسلامة الشعب الي




.. نور الشريف أبويا الروحي.. حسن الرداد: من البداية كنت مقرر إن


.. عمليات نوعية لـ #المقاومة_الإسلامية في لبنان ضد تجمعات الاحت




.. 34 حارساً سويسرياً يؤدون قسم حماية بابا الفاتيكان