الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خرافية - اسحاق نيوتن-

هيثم بن محمد شطورو

2023 / 6 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من شأني أنا كذلك، أن أنظر إلى التفاحة وقد سقطت من شجرتها. أن أنظرها هو بالضرورة أن أفكر. النظرة إلى الأشياء في الاستعمال اللغوي العربي تعني الفكرة التي أخذتها عن الأشياء. كل ما أنظره أفكره، والعالم ما هو إلا مجال للنظر وبالتالي مجال للتفكير وما هو إلا في النهاية بالنسبة للذات الإنسانية الكوجيتية سوى الفكر. الفكر في معناه الواسع بما هو انطباع وتأويل ولا يعني فقط التفكير المجرد.. زخم هائل من الأفكار والصور المتلاحقة والمتسارعة بقدر نظرنا لها، ولكن نظرا لكثافة الصور والتصورات وتسارعها فإننا لا نقف لنفكر في كل ذلك بكونه عملية تفكير متـشعبة، متماوجة، متـشابكة، متـقاطعة، متهافتة ومنفـلتة دوما وكأنك أمام سراب مهول مشدود إليه وكأنك في حلم، مما يبعث على الغثيان فترتد متسارعا محاولا مسك نفسك فتهرب واهما نحو الملموس المتـزائل بدوره، ولم تغادر منطقة الحلم بعد، وحتى الملموس يؤكد سرابيته المستمرة المتصيرة دوما فيما لا نهاية له من وجود غثياني...
نظرت التفاحة المتساقـطة من الشجرة وفكرت أن كائـنات دودية قضمت على مهل عنقها الذي يربطها بغصن الشجرة حتى سقطت، ولم يخطر على بالي ولو لجـزء من الثانية أن أتساءل عن حركة سقوطها ولماذا لم ترتـفع إلى فوق. هذا سؤال أخرق لا يخطر على بال أي عاقـل، فكيف لي أن أتخيل المسألة بتلك الوجهة المنافية لنظام الأشياء بمثل ما اعتدناه والذي يمثل منطق الأشياء؟
هذا سؤال لا يصدر إلا عن وجهة نظر تفكر بمنطق المعجزات والخوارق الطبيعية، أي التفكير الأسطوري. من يطرح مثل هذا السؤال يؤمن مثلا أن القمر انشق نصفين ثم إلتأم وأن لكائن إنساني ما أن يمشي على الماء أو يحيي الموتى ويداوي الأبرص بلمسة من يده الالاهية المباركة.
إذن فعالم الفيزياء "إسحاق نيوتن" الذي قلب العالم رأسا على عقب بنظريته الفيزيائية في الجاذبية الكونية والتي انطلقت من هذا السؤال وفق صياغته هو له: " لماذا تقع التفاحة من شجرة التفاح في اتجاه رأسي نحو مركز الأرض وليس في اتجاه آخر؟".. كيف كان له أن يأخذ سؤاله الخرافي هذا بمحمل الجد ويبحث له عن إجابة يتقبلها العقل باستعمال أدواته المعرفية الرياضية والفيزيائية؟
ربما ما خلق مشروعية السؤال لديه أنه شبيه بسؤال الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي تساءل عن سبب سقوط الأجسام الثـقيلة إلى الأرض وارتـفاع الأجسام الخفيفة إلى السماء، فقال أن الأجسام الثـقيلة تحن إلى الأرض أما الأجسام الخفيفة فـتـشتاق إلى السماء وعالم الأثير ما فوق القمر. يعني بإيجاز أن التفكير الفلسفي والعلمي متضمن للتفكير الأسطوري والميتافيزيقي، وان ذلك منسرب في كل البناء الفلسفي أو العلمي لأنه لا يمكن فصل المبدأ عن النتيجة، فعالم الميكانيكا العامة النيوتنية برغم كل دقته فهو باعتبار انطلاقه من هذا السؤال يبدو وصفا للآلة الكونية التي خلقها الله..
أتصور أن نيوتن في تلك المسيرة من البحث في سؤاله الافتراضي، لم يكن يعلم انه سيصل إلى إجابة أو بناء نظرية فيزيائية تمثل ثورة كبرى في عالم المعرفة العلمية والفلسفية. لم يتخيل تلك الهالة شبه التقديسوية التي أنيطت به منذ القرن الثامن عشر. أتخيل أنه لم يدر في خلده أن يتم تأويل نظرية الجاذبية الكونية كما هندسها فيزيائيا ورياضيا كآلة كونية دقيقة تُسمى بالميكانيكا العامة بتأويلات وضعية تـنفي الميتافيزيقا وتـنفي الله، فقد كان متدينا جدا وقد كتب نيوتن قائلا : " يبدو لي أن الإله في البداية خلق المادة على شكل دقائق صلبة، ثـقيلة، متماسكة، لا يمكن اختراقها، ومتحركة، بأحجام وأشكال وصفات تـناسب الغايات التي خُلقت لها، وأن هذه الدقائق الأولية هي أقوى بصلابتها بما لا يُقاس من أي مادة مسامية مصنوعة منها، قوية بحيث أنها لا تبلى ولا تتهشم، وليس هناك قوة اعتيادية تستطيع تجزئة ما خلقه الإله في البدء واحدا..". وهنا بكل وضوح الله الخالق لغاية في الوجود وهو نفس مبدأ التفكير الديني والتفكير الفلسفي الذي يصفه الوضعانيون بالمثالي.. التفكير الفيزيائي المادوي لا يخطر على ذهنه تخيل ارتفاع التفاحة إلى الفوق بدل السقوط إلى الأسفل مثلما هو معتاد وبالتالي فهو غير قادر على اكتشاف الحقائق، وبدل أن يكون التفكير الميتافيزيقي مطروحا للبحث بجدية وتطوير المناهج والنظريات العقلية الإنسانية لأجل تكشف الحقائق، فإن نفي هذا التفكير الذي يبدو تعسفيا، وخلق القطيعة التعسفية بين الفيزيقا والميتافيزيقا لا يقود إلا إلى نظريات جزئية قاصرة ومحدودة. فالخيال الرحب هو مجال الإبداع والاكتشافات الكبرى..
العقل الذي يفكر بالعين التي تنظر والقلب الذي يبصر. هذه هي التركيـبة المجملة والمتـناسقة في التفكير البشري وهي المنسجمة مع تركيبة الكون الملغز دوما.. سؤال "نيوتن" عن سقوط التفاحة يشكل نموذجا من شأننا أن نقف عنده. نقف عند الشغف بالسؤال والعمل الجاد لإيجاد إجابة علمية مقنعة. هناك ثقة جوانية في الحدس. لابد أن يكون هناك حدس ما والذي يعني فكرة عامة تمثل إيمانا غامضا ومسبقا ومن ثم يتوغل في مغامرة إثبات حقيقـته. السؤال خرافي لكن مسار البحث فيه بعقل فيزيائي رياضي ذكي جدا وعبقري وبمنهجية تجريبية ورياضية تسعى إلى الرؤية الواضحة للأشياء والقناعة التي تجاوزت جميع الشكوك لديه. هناك إذن جدية مفرطة وصراع وجداني ضد الإجابات الناقصة وهناك شرف الالتزام بالحقيقة دون غيرها. هذا هو "إسحاق نيوتن" العظيم الذي هو أساس الفيزياء الحديثة برمتها. فقد قال عالم الفيزياء عبقري القرن العشرين والى اليوم " اينشتاين": " إن النجاحات العظيمة التي حققها نيوتن لم تبق مجالا للشك في أن كل الظواهر المادية تتطور وفقا لقانون الميكانيكا وبدقة يمكن مقارنتها بدقة حركة الساعة، بما في ذلك العمليات المادية الجارية في الدماغ البشري والمرافقة لعملية التفكير"...
يبدو أن الأصل في التفكير ميتافيزيقي وينحو نحوه في الكشف فيزيائيا وكأن الأرض بمجمل قوانينها ما هي إلا صورة أصلها في الماوراء. وإذا كانت الميتافيزيقا حاضرة في البدء فهي بالضرورة منبثة في الفيزيقي كعالم وكاكتشافات علمية وتمثلات عقلية. تتم المراوحة بين الميتافيزيقا والفيزيقا وكأن العالم مجرد تمظهرات، بل يعلنها امانويل كانط صاحب نقد العقل المحض أننا لا يمكن أن نحيط معرفة إلا بتمظهرات الأشياء أما ما هي في ذاتها فهذا ما يعجز العقل البشري عن كنهه، وهذا فيما يعنيه أننا أصلا لا نعرف الأشياء إلا بمثل ما تبدو لنا، وما تبدو لنا ما هي إلا وفق كيفية نظرنا إليها وتحديدنا إياها وجل ما يمكن للعقل الإنساني الشقي أن يحاول قدر الإمكان تحقيق ما يمكنه من تحققات عملية لمعرفته كإنتاج يفيده عمليا أو ما يعتقد أنه يفيده في لحظة ما، ويبقى مجال النظر دائما مفتوحا بلا قرار..
ألم يكن التفكير في صناعة جسم يطير في الفضاء خرافيا؟ ألم تظهر الصورة في السجاد الطائر في ألف ليلة وليلة؟ كيف تسنى للإنسان الحديث أن يسير فعليا وراء تلك الرغبة ويفكر جديا في صناعة طائرة؟ كيف تم اتفاق مجموعة من البشر على إمكانية صناعة جسم يطير في الأجواء؟ أليسوا مجموعة من المجانين هؤلاء؟ لكن يا لعظمة هذا الجنون الجماعي. يا لعظمة هذا الجنون الذي وصل إلى الخروج من الغلاف الجوي الأرضي برمته ليسبح في الفضاء بل بلغ أمره حد تصوير كوكب الأرض لينقله لنا عبر الشاشات فترى ما أنت في نقطة ذرية منه أمامك ككرة تسبح في محيط أسود وكأنك تنظر شيئا آخر بينما أنت في نقطة ضئيلة جدا فيه. تلك الكرة الأرضية التي أمامك على الشاشة كأنها ليست هي التي أنت كحبة تراب فيها لأنك لا يمكن لك أبدا أن تعي نفسك بتلك الضآلة، وحين يهتز أمامك أحد المتعالمين ليقول لك انك الضئيل التافه فإنك لا تتمثل أبدا تلك الضآلة لأنك تعيش بوعيك وبنظرك المتساير بلا نهاية في العالم فيكون العالم هو أنت وليس مقاسك الجسدي المحدود ما يحدد حقيقتك كوجود، فأنت عقل لامتناهي ووعي بإمكانه أن ينظر الكون برمته وبالتالي فأنت كعقل بشساعة الكون، وبالتالي فحقيقـتك الجوهرية عقلك ووعيك وفكرك، أما الملموسية الحسية فهي بقدر سرابيتها فهي تعبير عن ضآلتك الوجودية وهذا ما يحدد ثنائية العظمة والدناءة، النبالة والسفالة، الامتناهي والمتناهي..
كيف إلتأمت مجموع إرادات إنسانية لتعمل على اختراق الحدود الفيزيقية الأرضية لولا ميتافيزيقية الذات الإنسانية في جوهرها والذي قد يظهر حتى بشكل متعاكس في الوعي المحدد لنفسه معرفيا كتفكير علمي يثق في القوانين العلمية التي وضعها الإنسان وفي التكنولوجيا التي صنعها الإنسان. حتى ولو انه يعلن إلحاده بل يتخيل نفسه ملحدا بالفعل ولكن ما مأتى ذاك الإيمان بحقيقته إن لم يكن التفكير؟ هذا التفكير الذي دعاه إلى اختراق العادي والمعطى الطبيعي ليحقق فكرته بشكل عيني أليس هو متجاوز للفيزيقي وبالتالي هو جوهر ميتافيزيقي خول له اختراق الفيزيقي؟
ألا يتجه العالم الإنساني نحو الميتافيزيقي بشكل حثيث لم تعرفه البشرية من قبل؟
انطلق من هاتفك النقال الذي تصطحبه معك أينما حللت. ذاك الذي يجعلك في العالم وأنت في نقطة محدودة فيزيقيا ولكنك تعيش في مختلف نقاط من العالم افتراضيا. كلمة افتراضي فيما تعنيه أنك تفترض أنك في علاقة مباشرة مع ما تنظره في هاتفك مع شخص ما في أي نقطة من الأرض عبر الصورة والمكتوب. هذه المعايشة هي بالنظر والنظر بما هو تفكير فإنك تعيش فكريا ـ بحتا ـ مع الآخر. هذه المعايشة محدودة في الزمن وفي الصورة التي يقدمها فأنت تعيش وفق ما أراد تقديمه، والذي تقرئه وفق تفكيرك، وبالتالي خلق واسطة تفكرية بينك وبينه طرفاها ما يقوله وما تؤوله أي ما تقرئه أنت مما يقوله.. هذه المعايشة الفكرية أليست ميتافيزيقا في الفيزيقا أو بالأحرى ميتافيزيقا فيزيقية محايثة وغير مفارقة؟ هذا هو الطور الجديد الذي افتتحه "إسحاق نيوتن"..
وفي سياق النظريات الفيزيائية الفلكية، فما توصلت إليه آخر النظريات فيما يسمونه نظرية الانفجار الكبير للفيزيائي "ستيفن هوكينغ"، وبالتالي إثبات نظرية الخلق من العدم وهي الفكرة الدينية التوحيدية التي نزلت في الوحي،فإذ بنا إذن نعود إلى نفس النقطة ليلتقي العلم جوهريا من الوحي الإلهي، وتبقى مغامرة الإنسان أنه يعمق نظرته للوجود تاريخيا بتقدم معارفه وقيامه بصفة الخلق أي الصناعة والتكنولوجيا.. لكن. في البدء كانت الكلمة والعالم كلمات، والحقيقة واحدة ومن البدء والبدء بالنسبة لنا وفق تفكيرنا الزمكاني، وخارجه هي الحقيقة المطلقة المتشكلة والمتجسدة أسطوريا ودينيا وعلميا وفلسفيا، والعالم الإنساني يسير حثيثا نحو كسر الفواصل بين هذه الطرق للحقيقة ليخرج من ثنائياته الأرسطية نحو تفكير ديالكتيكي ثري ومتضمن للمختلف المتناسق المنسجم، والتناقض بين الدين والعلم هو إيديولوجيا زائفة كما أن التناقض بين الفيزيائي والميتافيزيقي ما هو إلا تعبير عن مرحلة المراهقة الرعناء المتمردة في مسيرة الوعي المعرفي الإنساني..
"وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" ـ الآية 47 من سورة الذاريات. والفيزياء الفلكية تؤكد اليوم أن الكون بصدد التوسع . بهذا يصل بنا العلم إلى الإلتقاء بالرحمة الإلهية مجددا ولكنها بأكثر قوة نظرا لدعمها بالمعرفة البشرية، وهذه المعرفة في نفس الوقت تمكننا من قراءة جديدة أكثر عقلانية للنص المقدس.. استتباعا لذلك من شأن التفكير الفسلفي في نفس الإطار خلق انفتاح آفاق جديدة في النظر العقلاني للوجود، وفتح آفاق جديدة في البحث العلمي..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالتوحد؟ • فرانس 24


.. مدير مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح: هناك تعمد باستهدافي و




.. الشرطة الفرنسية تدخل جامعة -سيانس بو- بباريس لفض اعتصام مؤيد


.. موت أسيرين فلسطينيين اثنين في سجون إسرائيل أحدهما طبيب بارز




.. رغم نفي إسرائيل.. خبير أسلحة يبت رأيه بنوع الذخيرة المستخدمة