الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فقرٌ وموتٌ… وتنمّر: مجتمع التنمر الإلكتروني؟ - جزء 2 – ب

هاني عضاضة

2023 / 6 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



يمكن النظر إلى سلوك التنمر الإلكتروني، كأي سلوك فردي من المحتمل أن يتحوّل إلى ظاهرة اجتماعية، مع توافر وتظافر عوامل معينة، تعيد إنتاجه على نطاقٍ أوسع بالتدريج، وتسهم في تكراره، وانتشاره، وتبنّيه من قبل جماعات، قبل أن تتحوّل تلك الجماعات بدورها إلى كتلٍ اجتماعية تشكل قوى جذبٍ وتأثيرٍ.. وقهرٍ وإخضاع، مهما بلغت أهدافها أو المحتوى الذي تقدّمه من تفاهة أو جدية. ويتطلّب هذا التحوّل، من السلوك الفردي إلى سلوك الجماعة، قيام مجموعة من الأفراد مهما كانت صغيرة، بتكرار نمطٍ معينٍ من السلوكيات بشكلٍ يومي، من دون انقطاع، وهذا ما قمتُ بمراقبته وملاحظته طوال فترة سنوات (وأنا هنا، وفي بقية المقالات اللاحقة، أتحدث حصرًا عن التجربة اللبنانية على موقع "فيسبوك"، رغم محدوديتها، ولكنها تشكل نموذجًا قابلًا للدراسة)، وبالتحديد خلال فترة الإقفال العام لمواجهة جائحة "كوفيد-19"، الفترة التي أسهمت بشكلٍ أساسي في انتفاخ فقاعات إلكترونية عديدة، ليس "مجتمع التنمر الإلكتروني" سوى أحدها.

عرّف إميل دوركايم الظواهر الاجتماعية على أنها أنماط من السلوك موجودة خارج وعي الأفراد، تُخضِعهم من خارج وتعيد تشكيل سلوكهم:

"(...) ولا توجد هذه الضروب من السلوك والتفكير خارج شعور الفرد فقط؛ بل إنها تمتاز أيضًا بقوة آمرة قاهرة هي السبب في أنها تستطيع أن تفرض نفسها على الفرد أراد ذلك أو لم يرد. حقًا إنني لا أشعر به حين أستسلم له بمحض اختياري، وذلك لأن الشعور بالقهر في مثل هذه الحال ليس مجديًا. ولكن ذلك لا يحول دون أن يكون القهر خاصةً تتميز بها الظواهر الاجتماعية. ويؤكد ذلك على أن هذا القهر يؤكد وجوده بقوةٍ متى حاولت مقابلته بالمقاومة. فإذا حاولتُ خرق القواعد القانونية فإنها تتصدى لمقاومتي بصورٍ مختلفة؛ وذلك إما بأن تحول دون نفاذ فعلي إذا كان ثمة متسع من الوقت قبل وقوعه، وإما بأن تمحو ما يترتب عليه من الآثار أو تضعه في قالبٍ طبيعي إذا كان قد نفذ بالفعل، وكان جبره ممكنًا، وإما بأن تلزمني بالتكفير عنه إذا لم يكن جبره مجال. (...)"
"(...) إن الظاهرة الاجتماعية هي: كل ضرب من السلوك، ثابتًا كان أم غير ثابت، يمكن أن يباشر نوعًا من القهر الخارجي على الأفراد، أو هي كل سلوك يعمّ في المجتمع بأسره، وكان ذا وجودٍ خاص مستقل عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية"[1]

وقد توصّلت، حسب مراقبتي للتفاعلات التي كان لها الدور الأكبر في وضع حجر الأساس لـ "مجتمع التنمر الإلكتروني"، إلى استنتاجٍ أولي، من الطبيعي أن يكون محدودًا (أو غير شمولي) حتى هذه اللحظة، وهو تحديد ثلاث من الظواهر الاجتماعية المنفصلة، لكن المتفاعلة، في الفضاء الإلكتروني:

- الجيوش الإلكترونية: ولا أقصد قراصنة الإنترنت أو تلك الفرق المدربة التي تنفذ أجندات عسكرية فقط، بل أقصد، وفي حالة بلبنان بالتحديد، الأذرع الإعلامية للقوى الحزبية الحاكمة، وعلى رأسها "حزب الله" وحركة "أمل" و"التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" (و"تيار المستقبل" سابقًا قبل تفكّكه). وأخص بالذكر "حزب الله"، حيث يمتلك ذراعه الإعلامي عددًا هائلًا من الحسابات الإلكترونية الحقيقية والوهمية (رغم حظر جزءٍ منها على موقع "فيسبوك"، ولكن العكس لا يحصل على موقع "تويتر")، التي تعمل على ترويج الإشاعات واستهداف الخصوم بشخصهم، بأسلوبٍ يبعث على بث الرعب في نفوسهم، عوض الرد على آرائهم بشكلٍ عقلاني. ومن الممكن أن يكون من ضمن أولئك الخصوم أفرادٌ عاديون يمارسون حقهم بالتعبير على أي من موقعي التواصل الاجتماعيين "تويتر" أو "فيسبوك" وأن يتحولوا إلى أهداف، حيث يتعرّضون إلى التحقير أو التخوين بشكلٍ منظّمٍ وجماعي، ما يؤدي في بعض الحالات إلى تعرّض أهداف التحقير أو التخوين إلى الأذية الجسدية أيضًا.

- العقاب الاجتماعي: وهنا يمكن للعقاب المتبّع على مواقع التواصل الاجتماعي، أن يكون في سياق قضايا محقّة ونبيلة في غاياتها، في ظل غياب القوانين (أو عدم تطبيقها) التي تحمي النساء والأطفال والفئات المهمّشة (مجتمع الميم عين أو اللاجئين أو العمال الأجانب أو الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة... إلخ)، حيث يعتمد أسلوب الفضح والعقاب الجماعي للفرد على الانترنت في مواجهة إفلات المجرمين أو المرتكبين من العقاب في الحياة الواقعية. ولكن هذا الأسلوب يُظهِر خللًا كبيرًا لا بد من الإضاءة عليه، فمن جهة لا يمكن لأي جماعةٍ تحديد مقدار العقاب بنفسها إزاء أي جرمٍ مرتكب، فعملية التحديد هذه لا تستند إلى أية رؤية قانونية، ولا تؤّمن محاكمةً عادلة، كما أنها من الممكن أن تتسبب بضررٍ إضافي للضحية نفسها في حالات معينة، بالإضافة إلى أنها تتيح المجال لآخرين باستغلال فرصٍ معينة لتحقيق غايات ضمنية. ومن جهةٍ أخرى يثبت لجوء فئات كثيرة إلى العقاب الجماعي والعشوائي فسادًا واستنسابيةً في المؤسسة القضائية، وضعفًا ونقصًا في النصوص والتشريعات القانونية، وتخلفًا وارتشاءً على مستوى الأدوات المخولة إنفاذ القوانين وتحرّي الجرائم وملاحقة المجرمين واستدعاء المتهمين، واختلالًا كبيرًا في علاقات القوة لا يمكن أن يستمرّ من دون التسبب بتورّم اجتماعي، يتخذّ في الكثير الأحيان شكل تورّمٍ هوياتي.

- الإحباط واللجوء إلى "الكوميديا السوداء": من المثير للانتباه والفضول هذه العلاقة بين الإحباط والتوجه إلى تسخيف أي شيء وكل شيء، وهذا حقٌ مصانٌ لكل فردٍ لا نقاش فيه رغم عقمه. ولكن للكوميديا السوداء، كما كل نوعٍ كوميدي، رسالة. فهي في تناولها للمواضيع المحظورة و"المحرّمة" بطرقٍ ساخرةٍ وعبثية، وفي الكثير من الأحيان صادمة و"غير مقبولة" اجتماعيًا، تشكّل أداةً ذو حدين: سلاح بيد عامة الناس لمقاومة اليأس ومواجهة خطاب المتسلّطين بذكاءٍ وقدرةٍ على المناورة والتأثير في "الرأي العام" من موقع رفض عبثي للقهر وللسياسات الظالمة، أو سلاح بيد مجموعاتٍ تحوّله من موقع مناورة ومقاومة المتسلّطين ولو من دون هدفٍ واضح، إلى موقع التنكيل بأفرادٍ عاديين بغية التسخيف أو العزل أو فرضِ رقابةٍ ذاتيةٍ في مساحاتٍ ضيّقة تتسّع تدريجيًا أو تتشابك مع غيرها من المساحات. فمثًلا، وفي الحالة الأولى، عادةً ما يلجأ أعضاء مجتمع "الكوميديا السوداء" على مواقع التواصل الاجتماعي إلى مهاجمة شخصيات سياسية أو أفكار أو أيديولوجيات أو تقاليد، ويمكن للسخرية من موت أو مرض أو عذاب يلحق بأحد المتسلّطين أو بجماعةٍ منهم، ممن تسبّبوا بموتٍ أو مرضٍ أو عذابٍ للكثيرين، أن تشكل جزءًا من المحتوى "الكوميدي الأسود"، كما يمكن لهذا المحتوى أن يطال جماعات قُهِرت تاريخيًا، من باب "الفكاهة"، من دون تبرير لذلك القهر، بل من الممكن أن يلعب ذاك المحتوى دورًا في إعادة إنتاج الخطاب السياسي الرافض له من موقع السخرية منه ومن منفذيه وضحاياه في آنٍ معًا. المهم هنا، أن هذا المحتوى الساخر لا يطال أفرادًا عاديين بشكل انتقائي و/أو متكرّر في الحالة الأولى. ولكن في الحالة الثانية، فإن السخرية الجماعية تطال أفرادًا لا حول لهم ولا قوة ولا ذنب، بغية إسكاتهم، أو ترهيبهم، أو جعلهم يصيرون جزءًا من جماعة تمارس سلوكًا معينًا، وكل ذلك يحصل عبر القهقهة والتسخيف الشَّرسين، وكأن المقهقهين والمسخّفين في مهمة، وأحيانًا يحصل ذلك عبر تصوير (screenshot) محتوى من صفحات خاصة، مع اسم وصورة الشخص من دون علمه وموافقته، ومن اللافت للنظر أيضًا أن جزءًا ممن يتم استهدافهم بشكلٍ انتقائي ويتعرضون للسخرية الجماعية، هم أشخاص يحاولون إعادة نشر أو كتابة نكاتٍ يعتبرها المهاجمون "مبتذلة" أو "تافهة"، فيسمحون لأنفسهم بالإساءة للشخص الذي قام بالنشر أو الكتابة بطريقةٍ مباشرة، وجماعية، وإن سألتهم ماذا يفعلون، فإنهم يسمّون ذلك "كوميديا سوداء".

المشترك الأساسي بين تلك الظواهر الثلاث هو: سلوك القطيع Herd Behavior، وقد قمت بتقديم مثالٍ عن "القطيع" في افتتاحية هذه السلسلة، حيثُ قارنتُ هذه الحالة بالتحديد بعقلية قطعان الضباع Pack Mentality. ومن المشترك في سلوك القطيع المعتمد بين تلك الظواهر الثلاث هو العزل التدريجي لكل فردٍ يتجنّب المشاركة في "الحملات"، وهذه إحدى الوسائل المعتمدة بشكلٍ غير واعٍ، ولها التأثير الكبير على سلوك وتفاعل الأفراد، وفيها الكثير من الابتزاز العاطفي الخفيّ.

بالطبع، فإنه من العبث حصر نشوء "مجتمع التنمر الإلكتروني" كظاهرةٍ اجتماعية، بوسائل التواصل الاجتماعي: "إن غالبية مرتكبي وضحايا التنمر عبر الإنترنت، هم أيضًا مرتكبو وضحايا التنمر، على التوالي."[2]

ولكنه من العبث أيضًا المقارنة بين التنمر التقليدي والتنمر الإلكتروني من دون إخضاع الأخير إلى بحثٍ ودراسةٍ منفصلين:
"صممت معظم تعريفات التنمر الإلكتروني نفسها على أساس التعريف المتفق عليه على نطاق واسع للتنمر التقليدي، ويبدو من الواضح أن هناك بعض التداخل بين التنمر التقليدي والتنمر الإلكتروني. هما يرتبطان بشكل موثوق. ومع ذلك، فهناك جدال حول حاجة أن يكون للتنمر الإلكتروني تدقيقًا خاصًا به ومنفصلًا؛ فتشير العديد من الدراسات إلى أنه يمكن أن يسبب ضررًا يتجاوز التنمر التقليدي."[3]

فسلوك التنمر الإلكتروني يمكن أن يحدث على مدار الساعة، طوال أيام السنة، بل من الممكن أن يستمر طوال فترة حياة الشخص من دون أن يتمكن ضحيته من محو آثاره أو الهروب منه، ويمكن أيضًا لتأثيرها النفسي أن يستمر لفترةٍ أطول بكثير رغم توقف سلوك التنمّر. ويمكن له أن ينتشر بسرعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وأن يصل إلى جمهورٍ واسع، وهذا الأمر لا يحصل في الحالة التقليدية. كما يمكن أن يختبئ من يمارسون هذا النوع من التنمر خلف صفحاتٍ وهمية، مما يسهّل تنكيلهم بضحيتهم من دون القدرة على معاقبتهم، وهذا الأمر شائع أيضًا على موقعي "فيسبوك" و"تويتر" في لبنان، وقد تعرّض عدد من أصدقائي المقرّبين إلى هذا النوع من الاعتداء عبر صفحاتٍ وهمية يديرها أشخاص مرتبطون حتمًا بتجمّعات ومجموعات تنمر إلكتروني مترابطة ومتشابكة (وهذا الأمر سهل الرصد كون تلك الحسابات تتشارك "الصداقة الإلكترونية" مع بعضها بعضًا ومع عشرات من المؤيدين أو المشاركين في هذا "المجتمع"، بالإضافة أنها تشارك في التعليقات الهجومية تارةً والساخرة تارةً أخرى على هذه الصفحة أو تلك بشكلٍ جماعي).

ويكون من العبث كذلك الأمر ألا أقوم بإحالة ظاهرة "التنمر الإلكتروني"، كأي ظاهرةٍ أخرى، سواء كانت في الفضاء الافتراضي أم ملموسة، إلى جذورها المادية، حيث لا يمكن تجاهل الصراعات الطبقية وانعكاساتها، وصراعات الهيمنة بين الأفراد و/أو الجماعات و/أو الشرائح الاجتماعية ضمن الطبقات الاجتماعية نفسها وانعكاساتها هي الأخرى أيضًا، ومن هنا تنتجُ كل هوةٍ أو اختلالٍ في موازين القوى أو تصادمٍ بين الأعرافِ والتقاليد أو الأفكار والتصورات الأيديولوجية، ظواهر اجتماعية جديدة، لا بد أن تجد طريقها نحو مواقع التواصل الاجتماعي، فتلك الأخيرة ليست سوى مرآة تعكسُ جزئيًا واقع المجتمع، ويمكن القول بأنها مرآة مكسورة، حيث أنه من المستحيل أن تتمكن تلك المواقع من كشف الصورة كاملةً، فهي في نهاية المطاف أداة بيد الأقوى والأكثر تأثيرًا ووصولًا وقدرةً على التحكّم وتنظيمًا لدفق المعلومات الموجّهة، مهما غرق العديد من الأفراد في وهم المزاحمة على التأثير من مواقعهم. يفرض التسلسل الهرمي نفسه في كل مكان، فليس هناك أي مساحة أو منصة يمكنها الانسلاخ عن البنية الاقتصادية والنظام السياسي بالكامل، مهما بلغ الرفض الكلامي والتمرّد العاطفي فيها منتهاه، وبذلك تتشكل الامتيازات بشكل تلقائي، ويُعاد تشكّلها على كل المستويات، وليست ولادة "مجتمع التنمر الإلكتروني" Cyberbullying Community سوى أحد تلك الظواهر.

يُتبع: مجتمع التنمر الإلكتروني؟ - جزء 2 – ت

-----------------------------

[1] كتاب: "قواعد المنهج في علم الاجتماع" لإيميل دوركايم / الفصل الأول: "ما الظاهرة الاجتماعية؟" / من ص: 50 إلى ص: 69. (منقول نسخًا عن الكتاب - ترجمة: أ.د. محمود قاسم، أ.د. السيد محمد بدوي).
[2] دراسة: تعريف التنمر الإلكتروني Defining Cyberbullying - إليزابيث إنغلاندر Elizabeth Englander، إدوارد دونرشتاين Edward Donnerstein، روبن كوالسكي Robin Kowalski، كارولين أ. لين Carolyn A. Lin، كاتالين بارتي Katalin Parti. (ترجمة: هاني عضاضة).
[3] نفس المصدر أعلاه. (ترجمة: هاني عضاضة).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس كولومبيا يعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ويعتب


.. -أفريكا إنتليجنس-: صفقة مرتقبة تحصل بموجبها إيران على اليورا




.. ما التكتيكات التي تستخدمها فصائل المقاومة عند استهداف مواقع


.. بمناسبة عيد العمال.. مظاهرات في باريس تندد بما وصفوها حرب ال




.. الدكتور المصري حسام موافي يثير الجدل بقبلة على يد محمد أبو ا