الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب -الهجرة إلى الإنسانية- للفيلسوف فتحي المسكيني* (الجزء2) -يتبع-

الصادق عبدلي

2023 / 7 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1.2.1. مطبّات الكوجيطو "أنا اكره":

أ‌- الشذرة الأولى: الثّقوب السوداء:

يستهل الفيلسوف فتحي المسكيني هذه الفقرة تحت قبعة العنوان المريب والمرعب في الآن ذاته بجملة حزينة:"بعض الناس كالثقوب السوداء، يمتصون حياتك ولا يعطونك شيئا"[1]. هي لوحة سوداء، قاتمة، داكنة تكشف على طبقات نفوسنا العميقة وما ترشح به من بيبليوغرافيا بائسة ومقيتة تثوي خلف سياج الهويّة المتصلبة الصُوانية التي يصعب فلقها وكل سمك بداخلها ينطوي على مداليل تحيل رأسا على نوعية المصادر التي تنهل منها. ولكن ما يلفت النظر الفلسفي هو طرح السؤال بشكل مثير وكأنه من المحال أن نفكر خارج الثقوب السوداء، حيث يقول مستدركا: "ولكن ما معنى أن نفكّر تحت ثقب أسود؟"[2].

فمن هذه الكُوة الفلسفية يمرّن الفيلسوف التفكير الفلسفي من داخل الثقب الأسود الذي يقبع بقاعه مفاهيما حضارية وقيمية وجمالية وسياسية أخلاقية وأنطولوجية مثل مفهوم النقاب والشعب والشارع أو الشوارع التي تحمل ثقلا تاريخيا لأسماء الشهداء والأيام التي تكتب تاريخ آلام الفرد والموت المؤقت والانتماء كالهوية السوداء والمستقبل والقيم والزمن واكتراء الأرحام والدولة. فهي ورشة مفهومية يعتبرها الفيلسوف كثقب أسود تحوز سديم الفضاءات المتبعثرة في نفوسنا العميقة والتي تمتص جرعة الأمل وتستولي على صفحة هويتنا التي لم تقرأ بعد.

ب‌- الشذرة الثانية: نرسيس والحطيئة أو لماذا نكره أنفسنا؟:

وجه الطرافة في هذا العنوان يتمثل في الاستخراج العنيد للهويّة التي تحب إلاّ نفسها والتي تدخّر كميّة فظيعة من الحقد والضغينة للآخر. هي لا تريد أن ترى إلاّ نفسها. وحريّ بنا أن نطلق عليها هوية "ثيموسية" (Thymos)[3]، غضبية، مزاجية لا تقبل في مرآتها إلاّ نفسها وتدخّر "بنكا غضبيا"[4]، وتؤسس لكوجيطو "ثيموسي".

بيد أنّ هذا الانزياح الطريف نحو قراءة مجهرية للراهن الذي يمرّ بصيرورته من تحت نظاراتنا الفلسفية دون أن نتوقف ولو برهة واحدة لترقيع هويتنا الثيموسية، حيث ينبس الفيلسوف ليبيّن وجه القرابة بين نموذجين من تاريخ أنفسنا القديمة من حيث انطوائهما على ثيموسية هما؛ نرسيس الإله المعذب والمحب لذاته والحُطيئة الشاعر الهجاء لذاته بشكل فظيع. إنّ هذين النموذجين المتفردين يصوران شكل الهوية المشوه بداخلنا، حيث يقول الفيلسوف عن نرسيس: "تحت جلد كلّ مرآة، يوجد نرسيس، الإله الذي عاقبته الآلهة بحبّ نفسه، قصاصا منه لصدّه المرأة التي أحبّته، "إيكو"، ابنة الهواء والتراب الذي تفاخر عليها بجماله فلعنته الآلهة...نعم الآلهة تثأر بالحبّ."[5]

بهكذا طريقة، حينما نمعن النظر في هذا الاستشكال الطريف ضمن الفقرة الثانية من الفصل الأول من كتاب "الهجرة إلى الإنسانية" يبدو لنا منذ الوهلة الأولى براعة الفيلسوف في استنطاق المُهمت والذي لا ينقال تحت تجاعيد الهوية التيموسية التي تدّخر كميّة غضبية أو بالأحرى جرعة من الكراهية لذاتها وللآخر وتترائ لنا في شخص نرسيس الإله الرافض للآخر ويتلوه الحطيئة الذي لم يجد كيف يصعّد كميّة الكراهية لديه، فقام بهجو نفسه، ليشفي غليله ويروّح عن نفسه بهذا الهجو. وكأنّ معالجة الداء لا تكون إلاّ بالتي كانت هي الداء وهي نفسه الثيموسية التي لا تحب إلاّ ذاتها وتغار عليها.

فمن اللافت للنظر أنّ كلّ هوية يقبع بداخلها حيوان نرسيس الذي رغب في شرب الماء، ليرى ذاته وينتهي به الوجد إلى موته حينما لم يقدر على تحقيق مآربه من هذا العشق المقيت لذاته، وفي هذا المنحى يقول الفيلسوف: "كانت لعنته صامتة ونائمة في عينه، ويبدو أنّ لفظة "نرسيس" اليونانية (نركيسوس) كانت تتضمّن "ناركي" أي "النوم". ثمّة نوم ما في عينيّ كلّ هويّة، ليس أخطر عليها من أن ترى نفسها، أو تحدّق في نفسها. وهكذا حين قاده الظمأ إلى الماء كي يشرب الحيوان الذي فيه، رأى نفسه لأوّل مرّة، فأحبّ نفسه وانتهى به الوجد إلى الموت، كدراً من هذا الشعور الذي لا يمكن تحقيقه؛ أن يقبض على صورته ويخرجها من الماء. حيث أراد أن يقبّل وجهه في الماء، غرق في نفسه، ومات من أجل هويّة كان ممنوعا عليه أن يراها. –ناحت عليه أخواته الربّات ومع جثته عُثر على زهور بيضاء، هي تلك التي تُسمى "النرجس". النرجس هو ما تبقّى في صفحة الماء. هويته تحوّلت إلى عطر. ولكن ثمن العطر هو موت نرسيس."[6]

ولكن على عكس نرسيس المحبّ لذاته إلى حدّ اللعنة، نجد الحطيئة يستقبح ذاته ويستهجنها وهو ضرب آخر من الهوية المدمرة لذاتها والتي تكشر على أنيابها لتشطب ذاتها. ومن ثمّة تقطع كل الأواصر التي تربطها بالآخر، وفي هذا الشأن يقول الفيلسوف:" لكن ذلك يعني أنّ الحطيئة كان على حقّ: من لا يستقبح نفسه لن يراها. القبح أيضا نمط لقاء جذري مع أنفسنا. لكن قبحنا هو دائما جزء لا يتجزأ من هويتنا."[7]

وبالتالي نستشف من ذلك أنّ هجاء الحطيئة لنفسه ليس إلاّ ضربا من الكلام ولكنه يكتنز جرعة زائدة من كميّة الغضب والحقد والضغينة للآخر ويبدو ذلك من قول الفيلسوف: "ليس ثمّة هوية صامتة. كلّ هويّة هي رغبة مريعة في الكلام عن النفس."[8] ولذلك ترتسم في أذهاننا صورة الآخر الذي وشم على مرآة نفوسنا ولم نتحمل ثقل وزنه، ولكن وجب لفظه كما يلفظ البحر أمواجه، ورغم ذلك يبقى وشما مكتوبا على وجهيّتنا المتوارية بداخل أنفسنا العميقة، إذ يقول الفيلسوف: "أنّ هجاء النفس هو أيضا جزء من انفعالنا بنفسنا، نمط من الانتماء إلى الآخر الذي نجرّه في تصوّرنا لأنفسنا. إنّ هويتنا هي وجهيتنا...كل وجه يحتمل كلّ أخاديد العمر، لا يمكنه أن يستقيل من حملها. ثمّة خرائط تؤرخ للعمر، وتنحت الزمان في مآقينا."[9]

وفي نهاية هذا التّطواف الفلسفي حول الهويّة الثيموسية، يسدل الفيلسوف فتحي المسكيني الستار على "البنك الغضبي" (سلوتردايك) للهويّة ملفتا النظر الفلسفي نحو إمكانية أخرى لتجاوز حبّ الذات الذي صحب نرسيس وخطّت على قبره موته. وكذلك استقباح الذات من طرف الشاعر العربي الحطيئة الذي شوّه وجهيّة الذات نحو أفق يضيق عن استيعاب وهضم الهوية المنغلقة على ذاتها والتي لا تتسع لقبول الآخر والاعتراف به كشرط ضروري لوجوده (هيغل) أو كشرط إنساني (هابرماس) أو كشرط مدني وحقوقي (إيكسال هونيث) مع توفير فضاء للنقاش وللحوار معه دون السقوط في التبعية، حيث يومئ من خلال قوله نحو ما قصدناه: "من لا يسيء إلى نفسه العميقة، نعني من يكره نفسه، لن يجدها. ستكون قد مرّت إلى المرآة، وصارت تقف على الجانب الآخر من أنفسنا. ذلك الحيوان الذي كان يكدّر الماء كي يشربه، يسألن من بعيد؛ متى يكفّ نرسيس عن محاولات القبض على نفسه في صفحة الماء الذي لا هويّة له؟ متى ينقطع الحطيئة عن هجاء نفسه الوحيدة، ويعذر حاملها."[10]

ت- تفجّر الكوجيطو الثيموسي (الغضبي):

يطرح الفيلسوف فتحي المسكيني في الشذرة الثالثة تحت عنوان طريف وغير مسبوق في الفلسفة: "المراهقة الملحدة أو ماذا تبقّى من الأب؟"[11] مسألة جدّ خطيرة ومرعبة في الآن ذاته، هي مسألة المراهقة الملحدة التي تحولت إلى ظاهرة تدعو العقول المتفلسفة إلى النظر فيها بروّية والذهاب رأسا إلى إعادة تأويل ماهية الدين وكيف يمكننا فهمه في ظل تنامي ظاهرة الإلحاد لشباب لم يعد يتحمل ثقل السلطة مهما كانت سياسية (الحاكم) ودينية (الإله) واجتماعية (الأب). هذا الثالوث لم يعد محتملا لدى جيل فقد الأمل في "حكمة العيش معاً". ونتيجة لذلك تفجّر كوجيطو جديد هو "كوجيطو ثيموسي" حيث لم يعد مكانا للأمل، بل فقط لمساحة كبيرة من الكره ستتفجر هنا أو هناك. لذلك على الفيلسوف البحث في ظاهرة هشاشة الشباب الملحد وسبر الأغوار فيها. هذا الشباب الذي تربى على يد "جبريل الأرضي" بتعبير الفيلسوف سليم دولة.

وبهكذا طريقة، لم يجد الشباب في بؤبؤ عينيه، إلاّ بصيصا من النور الخافت تجلى له من كمية النفور التي لم يستطع تصريفها إلاّ في اتجاه فوقي تمثل رأسا في الإله والأب والحاكم وبذلك أعلن إلحاده وطفق يبحث عن سعادته اليومية مشرئبا عنقه نحو حرية لم تأتي بعد وكلّ ما يدخره هو فيما بعد أو ليس بعد، ويقول في ذلك الفيلسوف: "الإلحاد هو عدُول عن المرئي الذي تعيّنه السلطة وتنشره كشاشة أخلاقية أو معيارية وحيدة للتحديق نحو أنفسنا العميقة. ولذلك يبدو كلّ ما هو ملحد مائلا ومعوجا؛ ويقال لَحَدَ السهم عن الهدف أي عدل عنه؛ ولاَحَدَ صاحبه أي اعوجّ كل منهما عن الآخر. ولحد عن الدين أي مال وحاد؛ والتَحَدَ إلى فلان التجأ، والملتحد الملجأ: لأن اللاجئ يميل إليه، واللحود المائل. ولا يختلف معنى الكفر عن معنى الإلحاد في دلالة الإخفاء والمواراة: كفر الشيء ستره وغطّاه."[12]

لذلك ظهر نوعا بشريا جديدا يسمى "المراهقون الملحدون"، وهم رهط بشري غير مرئي يعلن تمرده على كلّ سلطة معيارية باحثا عن فضاءات أخرى أكثر تحررية كالفضاءات الرقمية أو الافتراضية والتي فتحت له الباب على مصراعيه، بلا سلطة أبوية أو سلطة حاكمية أو سلطة ميتافيزيقية. فشرع بكلّ شغف في تحرير حواسه وتنشيط ذاكرته وتحرير الحيوان الجسدي الذي هو بدوره فد تحرر من سلطة المكان ومن الجاهزية للسكن. هو بلا ريب، شباب ينتمي إلى جيل بلا توقيع هووي وبلا إنتماء حضاري يسند ظهره إليه. وفي هذا الشأن يقول:"بيد أنّ الجديد هو جيل آخر تماما؛ جيل بلا انتماء هووي جاهز. إنّه لا ينتمي أصلا لا إلى الأمة (بالمعنى الحديث) ولا إلى الملة (بالمعنى الديني)."[13]

بيد أنّ الفقرة الرابعة التي يعنونها الفيلسوف فتحي المسكيني بمفهومين يختلفان من حيث الدلالة ومن حيث الاصطلاح: الهويّة والكراهية أو هل تحتاج الشعوب إلى الانفعالات الحزينة؟[14] يستهل النصّ بتعريف جدّ طريف: "الكره...إنّه نوع من سياسة المكان ومن سياسة الذاكرة."[15] ويبدأ بسلخ جلدة الكره إلى حدّ الوقوف على ربوته مبيّنا “طبقاته الرسوبية” «couches sédimentaires » بعبارة فوكو مردفا إيّاه بأسئلة إحراجية تزيد القارئ إصرارا في مواصلة القراءة والتفكير بين الفينة والأخرى في هذه "البنوك الغضبية العالمية" (سلوتردايك) التي تنبعث من رحم الهوية الثيموسية وفي الحين يراودنا سؤال يتخطف أبصارنا للتوّ: هل نحن مجرد نقاط سوداء غير مهمة؟

من هذه الكُوّة الفلسفية التي يحدّق الفيلسوف فتحي المسكيني من شقوقها، ليكشف العلاقة المريبة بين الهوية والكراهية وبطريقة تجديلية طريفة يخطّ ضربا آخر من كوجيطو مجروح: "أنا لا أفكر، إذن أنا أكره" نستشفه من عبارة مثيرة "إنّ الكره لا يفكر...إنّ الكره لا يناقش"[16]. وفي تلافيف إشاراته وتنبيهاته يظهر على أديم جسد النصّ نوعين من الكره: كره كلبي يعود رأسا إلى المدرسة الكلبية اليونانية (أنتيستانتس وديوجينس) التي ترفض كلّ لقاء بالآخر مهما كان وزنه ويعدّه الفيلسوف المسكيني كرها يائسا حيث يقول:"الكره الكلبي يائس من أي نوع من التعويض."[17] أمّا الكره الثّاني وهو الكره الهووي بما هو كره ينطوي على الحقد والضغينة ويتملكه دوما "الثيموس" بمعنى الغضب وهو يعطل كلّ إمكانية الالتقاء بالآخر ويرفض اللقاء على مائدة النقاش أو المناظرة وينهمك في ليله ونهاره في التنكيد وتنغيص العيش مع الآخرين.

إنّ الكره الهووي لم يأتلف مع الآخر "كما لم تأتلف ذال مع ظاء" (المعريّ، اللّزوميات). آنذاك يقول الفيلسوف:"والكره الهووي طامع دوما في ضرب من التشفي الرسمي. يأخذ شكل قناعة أخلاقية يدافع عنها العقلاء بلا حياء."[18] ونتيجة لذلك، يقترح الفيلسوف مخرجا فلسفيا يتمثل رأسا في تنشيط عبارة "البايديا" (Paideia) اليونانية بمعنى "التربية" أو بالأحرى "تنوير"[19] الهويات الثيموسية لمجاوزة انفعالاتها الحزينة وكميّات الكره والثيموس التي تدخرها في بنوكها. وهو يُعدّ المخرج الوحيد من مأزق الهوية المبتورة أو مخرومة الجوانب، وفي هذا الشأن يقول:"بقي طريق واحدة: تربية الهويات على الانتصار على مفاعيل الكره من الداخل، باعتبارها جزء من مصادر ذاتها، ولكنّه جزء يمكن إعادة تأهيله وفقا لنمط جديد وصحي من الشَجاعة أو من الصداقة الشُجاعة. وذلك يعني تحويل مشاعر الكراهية إلى آداب للتنافس النبيل بين الأصدقاء على الإمكانيات الكونية للكبرياء الحرّ. ذاك الذي لم يعد في حاجة إلى أي انفعالات حزينة حتى يثبت ذاته."[20]

3.1. مجاوزة كوجيطو "أنا أكره" نحو تأسيس كوجيطو "أنا لا أكره" بمعنى "أنا أحبّ":

يطرح الفيلسوف فتحي المسكيني سؤالا أنطيقيا بالمعنى الهيدغري في أوّل رأس الشذرة الخامسة: "ما هو التعايش؟...إجابة الفلاسفة"[21]. إذ يلتفت هاهنا نحو علاقة الدازين باليومي وصحبته مع الآخرين مستعينا بإجابة نبس بها رهط من الفلاسفة المعاصرين مثل نيتشه في حديثه عن رفاق مبدعين "رفاق إبداع يريد المبدع، يخطّون قيما جديدة على ألواح جديدة."[22] وهيدغر الذي يعتبر "أنّ البشر وحدهم القادرين على التعايش أي على "الوجود"[23]، ملفتا الانتباه إلى أنّ الأشياء لا تتعايش، ولكن الكينونة فقط هي التي توجد والحجر والحيوان والإله يكون. فلا معنى لكينونة خارج الوجود. إذ من رحم الوجود تولد الكينونة.

لذلك "كلّ "دازين" هو بالضرورة وسلفا "دازين-معا" صحبة الآخرين..فلا يمكن لأحد أن يعيش من دون حياة يومية."[24] غير أنّ التعايش مع الغير يظل معضلة كما عبّرت عن ذلك حنا آرندت في "الوضع البشري" لكشف العلاقة الملتبسة بين "العمومي" و"المشترك" رغبة في بلوغ الشأو من تجربة "الألم" التي تخصنا والتي لا يبلغها العمومي المشترك بين الناس. ومن هنا يعيد ليفناس قراءة الوضع البشري على نحو فينومينولوجي حيث "الوجه البشري لا "يظهر" بل "يعبّر". وهكذا يجد "التعايش" مقامه المناسب. هو أن نتلقّى الغير فيما أبعد من قدرة الأنا."[25]

فهذه الوجهيّة هي التي تعبّر عن تعايش الغير مع الأنا. إذ الوجه يقف حائلا أمام إمكانية القتل وبذلك تنبثق علاقة الحب بين الأنا والغير. بيد أن دريدا في تفكيكيه ينتهي إلى صعوبة تحديد الآخر سواء في "سياسات الصداقة"[26] أو في "أحادية لغة الآخر أو ترميم الأصل"[27]. أمّا جوديث بتلر الفيلسوفة الأمريكية التي تقتفي أثر دريدا حيث تعترض في القسم الثالث؛ "المسؤولية" من كتابها الرائع والمريع "الذات تصف نفسها"[28] على ليفناس الذي ربط المسؤولية بالاضطهاد والتي تجر علاقتنا بالآخر عن طريق الوجه الذي يمنعنا من الاعتداء عليه تحت صيغة "لا تقتل" ويحملنا المسؤولية الأخلاقية تجاهه ولا يتم ذلك إلاّ بصدمة أو اضطهاد، ولكن حسب جوديث بيتلر يعدّ هذا الطرح ما -قبل أنطولوجي لمسألة اضطهاد اليهود ولذلك تقول: "لن أكشف عن خلافي التام مع جدله هنا (وهو معقد وعنيد) ولكني أودّ أن أؤكد أن هناك تذبذبا لدى ليفيناس بين ما قبل أنطولوجي والأنطولوجي للاضطهاد."[29]

وبالعودة إلى مظان النصّ يكتشف المتمعن بفكر حصيف براعة الفيلسوف فتحي المسكيني في نثر أهمّ المشكلات الفلسفية المعاصرة على أديم النصّ المكتنز بورشة مفهومية يصعب جردها ههنا وهو يجعل النّص ينتأ بين الفينة والأخرى بما يدخره من معاني ودلالات حافّة به. حيث ينتقل بك هذا النّص الفلسفي من صعوبة إلى أخرى مثل صعوبة تحديد "الآخر"[30] إلى صعوبة التعايش مع الآخر ويسافر بك فوق جغرافية العقل الفلسفي دون أن تصاب بوعكة صحية بما هي هجرة إلى الإنسانية. وفي نهاية هذا التّطواف الفلسفي يصبح التعايش مع الغير محل جدل وسجال لم يحسم بعد حتى لدى متفلسفي القرن الحالي.

إنّ كتاب "الهجرة إلى الإنسانية" للفيلسوف فتحي المسكيني حينما قلنا آنفا أنّه يصلح أن يكون مدرجا في أرشيف كلّ صيدلية تتداوى بها أجنحة الأرواح المتكسرة إلى جانب الأجساد المعطبة لما يطرحه الكاتب من إشكاليات معاصرة مردفا إيّاها بإشارات وتنبيهات أشبه بالفتوحات الفلسفية التي توّرط القارئ والباحث على الدخول في حوار صامت معها والقبول أو الرفض للحلول التي حبّرها الفيلسوف.

وهل ثمّة ما هو أفضل من محاورة الفلاسفة وتكسير جدارية الصمت بينك وبينهم؟ وليس ثمّة في الكون جليس خير من الكاتب كهذا الكتاب "الهجرة إلى الإنسانية". لقد التفتنا نحو الباب الأول وحاولنا تنشيط المفاهيم التي حدّق إليها الفيلسوف وقمنا بسرد مقتضب لأهمّ المشكلات التي خاضها في مظان جملة النصوص التي تنطوي على مجموعة من الأعمار الفلسفية وعلى عدد لا يحصى من المرجعيات التي نهل منها الفيلسوف وقدّ من خلالها نصوصه التي سكّها كما تسكّ النقود والتي يصعب جردها ههنا.

وفي هذا المضمار، سنرصد الباب الثاني الذي يتفرّع إلى ستة شذرات؛ كلّ شذرة تتخطفنا بأسئلتها الوقحة وهي تروم التلفت نحو مصادر أنفسنا العميقة لإحياء المطمور والذي لا ينقال بشكل واضح وإنّما يثوي خلف الأقفال مثل عبارة "النكاح" التي تنطوي على جملة من الأعمار وتتلاشى في تلافيف اللغة والشعر والفقه[31] ولكنها لم تفقد جذوتها وروعتها ممّا جعل الفيلسوف فتحي المسكيني يستخرجها على نحو طريف وغير مسبوق في الفلسفة تحت عنوان مثير؛ "نكاح العقل"[32].

وفي هذا النصّ يستهله بمعجم يحتوي على أسماء الجماع ويقع تبويبه على نحو دقيق بدءا من حرف الألف حتى حرف الياء ويذكر أسماء الأيور والفروج. ويتساءل الفيلسوف عن اقتدار لغة الضاد على احتواء لفظة الجماع (النكاح) وعجزها عن إيجاد اصطلاح مناسب لربط الصلة الجندرية الحديثة بين جنس المولود وجنس هويّته الشخصية. ويمعن الفيلسوف في نحت أسئلته حول مفهوم الجنس عند العرب وكيفية تحوّله إلى واقعة أخلاقية انتقلت من "معجم حيوي (معجم النكاح في معنى الوطء) إلى معجم هووي أو دعوي (معجم النكاح في معنى الزواج)"[33].

ومن خلال هذا التجديل الطريف حول عبارة النكاح التي أصبحت تقنية من تقنيات الذات تتحكم في مستقبل الجنس البشري وهي تحدد هويته وتضبط مجالها الحيوي ومن ثمّة تتشكل كسلطة تجري تمارينها على الجسد وعلى شكل الحياة التي وضعته له هو مجال الشهوة. ويبدو لنا في ثنايا النصّ "أنّ أعلى أنماط التسلّط على البشر هو نكاح العقل"[34]. وههنا لا يمكن أن نحدّق خارج أنفسنا، بل نتطلع "من داخل أفق انتظارنا لأنفسنا."[35]

مهما يكن من أمر، فقد عاج الفيلسوف فتحي المسكيني في الباب الثاني على جملة من الإشكالات الفلسفية التي بقيت في باب الممنوع والمحظور والذي لا ينقال والمسكوت عنه مثلما هو الشأن في الشذرة السادسة تحت عنوان طريف "نكاح العقل" قدّه من مدونة لغوية حول عبارة "الجنس" و"النكاح" ما يربو على ألف كلمة كما وثقها السيوطي في "الوشاح" كما ألمع إليها في "نواضر الأيك في معرفة النيك" وأتي عليها النفزاوي شرحا في "الروض العاطر في نزهة الخاطر" وأومأ إليها التيفاشي في "نزهة الألباب" وهي عبارة وقع طمرها تحت لغط أخلاقي ميتافيزيقي من أجل لجمها بلجام العقل وما ظهوره "بوصفه قدرة البشر" سوى ""عقل" الشهوة التي لا تفكّر"[36].

لذلك يعتبر الفيلسوف فتحي المسكيني أنّ نكاح العقل ليس إلاّ "عقل" الشهوة بقوله "نكاح العقل بما هو آخر تصوّر نكاحي للعالم"[37] وعليه فإنّ الوقت للقطع مع هذا التصوّر الذي ساد ردحا من الزمن ومن خلال عبارة "آن الأوان لتجديد النظر فيه"[38] بمثابة الدعوة الملحة التي تشنف آذاننا لسماعها من أجل التحرّر منه والبحث عن ثنايا فلسفية أخرى تعيد للإنسان إنسانيته وتنصب "الإنسان" مكان "العقل" والخروج من طوقه نحو باحات الإنسانيّة الواسعة والتمرغ في ساحاتها وتعفير وجوهنا بترابها وهو ما يشير إليه العنوان الرئيس "الهجرة إلى الإنسانيّة" ويغرينا بالسير في طريقه والتوجه رأسا نحو قبلتها.

ولكن الفيلسوف فتحي المسكيني لا يعود بصره حسيرا من قراءته لمعجم النكاح ضمن أفق الملة، بل هو يرمي بصنارته الفلسفية داخل أفق الملة المسيحية ويلتقط نصّا يتيما كتبه الفيلسوف بول ريكور تحت دهشة فلسفية من عبارة الجنس التي أرقت مضاجع الفلاسفة المعاصرين من فوكو في تاريخ الجنسانية (الإنهمام بالذات واستعمال اللذات وإرادة المعرفة واعترافات الشهوة الذي لم يرى النور بعد) ودلوز في "أوديب مضادا".

غير أنّ بول ريكور في هذا النّص اليتيم "§.7. الجنس والمقدس"[39] يذهب إلى أنّ الجنس وحده القادر على ربط الكائن البشري بقوى كونية تتمثل في المقدس الذي يتحجب عن الظهور وهو في الحقيقة ليس إلاّ "نهر الحياة" التي تشرئب أعناقنا إليه ولعلّ الإنسان المعاصر قد تكسر زجاج نظاراته ولم يعد قادر على سبكها. ولذلك يدعونا بول ريكور إلى البحث في وشائج القربى بين الجنس والأساطير[40] علّنا نظفر بالمقدّس المطمور في طبقات نفوسنا الحديثة ونكتشف تلك الجنة الضائعة في قبو ذواتنا المعتم. ولا ينتهي بالفيلسوف فتحي المسكيني التّطواف الفلسفي في تشقيق عبارة "الجنس" وإنّما هو يثوّر في "§.8. التّحرش أو صيد الضِّباب"[41] عن المسكوت عنه تحت طبقات لفظة التحرّش وهي عبارة تلوكها الألسن ويتداولها القاموس اليوميّ دون رفعها إلى مستوى التفكير الفلسفي.

بيد أنّه في هذه الشذرة السادسة يدلف فيلسوفنا نحو قبلة فلسفية أخرى من أجل توسيع دائرة التأويل حول عبارة "الجنس" تحت عنوان "بول ريكور: الجنس والمقدّس" التي تعني "النكاح" بالمعنى التقليدي وأثناء ذلك يقلب عبارة "الجنس" على وجوه عدة مستعينا بفيلولوجيا "فقه اللغة" قصد تشقيق الكلام عنها والانتهاء بقصووية المعنى من عبارة "الجنس" وبلوغ الإحاطة بها علما. ومن ثمّة يفتح طريقا آمنة للدخول في حوار مع بول ريكور حول مسألة الجنس والمقدس. ذلك "المقدس" الذي لم يعد ضيفا مرغوبا فيه مثله مثل الجنس الذي وقع طمره في سرديات خرافية وحالتئذ صار الجنس من أحسن القصص التي تعود لنا من باب الأساطير والتي تمثل معبرا نحو فهمه وتأويليه وهي وحدها القادرة على أن تجعلنا نتواصل معه تحت "حطام من المعنى"[42] لا ينكشف إلاّ عن طريق "الجنسانية من دون لغة"[43]. أمّا اللافت للنظر في الشذرة الثامنة بعنوان رشيق "التحرّش أو صيد الضِّباب"[44] يبرع فيه الفيلسوف فتحي المسكيني أيّما براعة في نحت المصطلح اللغوي "تحرّش"[45] الذي بات ظاهرة مستفزة في عصرنا الحالي خصوصا بعد الثورات العربية وهو ما دفعه إلى الذهاب بعيد الغور في الحفر في جذره اللغوي "حرش" داخل لغة القوم العرب ضمن الأشعار والقواميس اللغوية كاشفا على العلاقة المريبة بينه وبين عبارة "صيد الضّباب"[46]. فلا شيء خارج اللغة وكأنّ "حدود لغتي هي حدود عالمي" بتعبير فيتغنشتاين.

من هذه الكوة يبحث عن "العلاقة بين الضب والأنثى هو جسد الحيوان الذي أراد صيده"[47] مستخرجا دلالات ومعاني بعيدة الغور تعود رأسا إلى مشكل قديم هو مشكل الجندر كاشفا ذلك من خلال تفكيك كبة الغزل التي انطوت على عبارة "حرش" وتلفعت بها ملفتا الانتباه إلى الفرق بين "الأنثى" و"المرأة" داخل ثقافتنا التي انبنت على الهيمنة الذكورية وميّزت بين العبارتين من أجل تحويل "الأنثى" إلى طريدة وصيد للحمها البشري بكلّ الوسائل الممكنة والحواس المتاحة لديه. لذلك نفهم عبارة التحرش بكونها حبلى بالمعاني وعليه "يجري التحرش على وجوه عدّة: فهنالك التحرّش البصري واللّمسي والذوقي والعضّي والشمّي والسمعي... وذلك قبل البلوغ إلى أيّ اعتداء جنسي بالمعنى المحصور."[48]

وهاهنا ينفلق صبح جديد حيث لا مجال للمقارنة بين التحرّش والإغتصاب. فالتحرّش يتحرك في مساحات مفتوحة والاغتصاب يحتاج إلى أمكنة مغلقة. ومن هذه الجهة لا يعتبر التحرّش من باب الجنس، بل فقط هو "ضرب سيء من نزاع الاعتراف مع المرأة"[49] المتلفعة ببرقع الحداثة، تلك المرأة العمومية، الحرّة التي تقاوم سلطة الهيمنة الذكورية عليها. ثمّ يعوج في تطوافه الفلسفي على كشف العلاقة الغائمة بين التحرش والثورة ثورة الربيع العربي والذهاب بعيد الغور في كشف وشائج القربى بينهما محذرا من خطورة أن يتحوّل التحرّش من ظاهرة عابرة تحدث في الساحات العمومية بين مجموعة من البشر وهو "حالة من حالات التحرّش بالإنسان الاستثنائي الذي ينزل إلى الشوارع للتعبير عن حريته أو للمشاركة في صنع حريّة غير مسبوقة تتمرّن على الذهاب إلى أبعد من كلّ تصوّراتنا السابقة حول أنفسنا"[50] "إلى دولة والمتحرّشون أنفسهم إلى ضِّباب قد يعسر صيدها"[51].

وههنا يبرع الفيلسوف في فليّ عبارة التحرّش في معناها اللغوي والبحث عن الدلالات الحافّة بها ملفتا الانتباه بين الفينة والأخرى إلى راهنية المشكل التحرّش بمعنى الصيد والتحرشّ بالمرأة بما هو نزع الاعتراف بها ككائن بشري والنظر إليها كلحم بشري. وقد ارتبطت عبارة التحرّش أيضا بالثورات العربية التي حوّلت الساحات العمومية لممارسة الحرية إلى تحرّش بالأنثى وهو أسوأ ما أنتجته الثورة، ولذلك يعتبر الفيلسوف أنّ التحرّش بالمرأة ليس إلاّ حالة من حالات التحرش بالكائن الاستثنائي الذي يلجأ إلى الشوارع ليكتب على صفحات يومه شكل الحرية التي يصبو إليها. ولكن الخطر هو أن يتحوّل التحرّش إلى سياسة حيوية تمارسها الدولة على شعبها "والمتحرّشون هم أنفسهم إلى ضِّباب يعسر صيدها."[52]

فلا مُشاحّة في الألفاظ "نكاح العقل" و"الجنس" و"التحرّش" و"الجندر" في "§.9. نيتشه والمرأة الأخرى...تمارين في حرية الجندر"[53] وعنصرية الجنس"[54]، في §.10. ولحم الأسماء.. أو هل نحن مجرّد استعارات منسيّة؟"[55] في §.11. جميعها تنطوي على تجديل طريف غير مسبوق في الفلسفة يسعى الفيلسوف من خلاله إلى تأنيث الوجود والحفر في تاريخ الأفكار المنسية التي وقع استبعادها أو التغافل عنها تحت عماء إيديولوجي أو تخرس ميتافيزيقي. وبهكذا طريقة سيجلو الفيلسوف الصدأ العالق بداخل نفوسنا العميقة ويضيء لنا الجوانب المظلمة والمعتمة من تاريخ الحيوان البشري بعامة مشيرا إلى أهميّة المشاكل الراهنية التي ينوء الحيوان البشري بكلكلها.

أمّا الأبواب التالية سيدلف الفيلسوف نحو أهمّ الوقائع التي وشمت ذاكرتنا وأحدثت صدمة في تاريخنا المعاصر. وهي أحداث راهنية نحت منها الفيلسوف أيقونة فلسفية تلحفت بعنوان قدّ برويّة "الهجرة إلى الإنسانية" والذي سيتكرر في الباب السادس ضمن شذرة §.28. أيْلان الكردي... أو الهجرة إلى الإنسانية[56]، وهي تعدّ بمثابة التمارين الفلسفية تحمل في مظانها أهمّ المشاكل الفلسفية الراهنة. تمارين تثير فينا حساسية التفلسف علّنا نحن سكان جنوب ما بعد الحداثة نصاب بعدوى التفلسف. هي بلا ريب، تمارين رائعة ومريعة في الآن ذاته.

وههنا يمكن أن نلفت النظر إلى ما يدخره كتاب "الهجرة إلى الإنسانية" للفيلسوف فتحي المسكيني من إمتاع ومؤانسة حيث لا يرهقنا السفر بين طيات الكتاب وإنّما نعيش معه كرنفالية اللغة وسحر البيان ورشاقة العبارة على أديم نصوصه الفلسفية. ومن خلال هذا التّطواف الفلسفي في كتاب "الهجرة إلى الإنسانية" نوجز القول بالإشارة إلى الأبواب التالية مع التنصيص على الشذرات والعناوين المشفوعة بها وهي كالتّالي:

يحتوي الباب الثالث على خمسة شذرات وهي: .§.12. الشعوب والمعنى..أو نحو جوار بلا ادّعاءات كونية[57]، §.13. شعوب تنتصر.. ومجتمعات تنجح[58]، §.14. "العروبة" أو المصير بلا مستقبل[59]، §.15. ثورة العبيد..التي لم تقع[60]، §.16. مديح الشعوب وهجاء الثورات..تمارين فيما بعد الدولة-الأمة[61]. ثمّ يليه الباب الرّابع يضم بين جنباته خمسة شذرات وهي: §.17. آلام وثنيّة..أو القراءة والحرية[62]، §.18. لماذا تركت الكتاب وحيدا؟[63]، §.19. معركة التفاصيل أو الحداثة بلا ذاكرة[64]، §.20. "أنا شارلي" أو السخط بلا توقيع[65]، §.21. موجز متافيزيقي من الأرض... نشرة أخبار لأطفال افتراضيين[66].

غير أنّ الباب الخامس يحوز كذلك على أربعة شذرات؛ §.22. في الترجمة الإنجازية[67]، §.23. إلى أي مدى يمكن أن نقول أنفسنا "معلوماتيّا"؟[68]، §.24. يد الفلاسفة... مدخل إلى فلسفة لمسيّة[69]، §.25. أومبيرتو إيكو أو السخرية ما بعد الحديثة[70]. ويقتصر الباب السادس على ثلاثة شذرات؛ §.26. هندُ الفلاسفة... أو كيف نرفع حجاب المايّا[71]، §.27. ما هي أوروبا؟... أو في نماذج الإنتماء[72]، §.28. أيْلان الكردي... أو الهجرة إلى الإنسانية[73]. وينكشف الباب السابع على إطلالة مدارها الرعب مكاشفة له وبحثا دؤوبا في إماطة اللّثام عنه ضمن أربعة شذرات؛ §.29. سياسات الشهادة[74] ، §.30. "حرق النفس" أو من تقنيات الذات بعد القيامة[75]، §.31. المنتحرون أو تشغيل الموتى[76]، §.32. أيّها الجسد الشرقي ... من أنت؟[77].

أمّا الباب الثّامن فيأتي على مسائل تتعلق بالملة الدينية التي تهدد الإنسانية في بعدها الكوني وينفتح هذا الباب على مصراعيه بالعودة إلى الماضي السحيق والذاكرة الجماعية للحضارة العربية الإسلامية وما تدخره من ثيموسية نابعة من كوجيطو الكراهية الذي أنتج الفكر الداعشي تحت ضغط هووي لم يفلح إلاّ في نشر تفاهة القتل وتهديد الإنسانية باسم الإرهاب الديني الملي الذي لا يختلف عن العدمية الأوروبية مستفيضا في تأويل هذه المسائل الفلسفية الراهنية التي باتت تهدّد الحضيرة البشرية وترعب كل كينونة سارحة في كلّ شبر من أشبار الكون بما هو في الحقيقة أفضل الأكوان الموجودة بتعبير ميشو كاكو ضمن كتابه "الأكوان المتوازية".

وهذا الباب الدقيق في ما يطرحه الفيلسوف فتحي المسكيني من مسائل يومية يرفعها إلى مدارج فلسفية لفتح مغاليقها تدخل ضمن باب "أنطولوجيا الراهن" بتعبير فوكو ويحتوي على خمسة شذرات؛ §.33. داعش والغبراء أو نهاية الإسلام..؟ نصّ غضبي[78]، §.34. تفاهة القتل أو هل ثمّة فرق بين الإرهاب الديني والعدمية الأوروبية؟[79]، §.35. شعوب في الأسر أو اعتقال المكان وموت السياسة[80]، §.36. هل ينبغي الدفاع عن الدولة...؟![81]، §.37. الإعدام والديمقراطية[82]. وفي هذا العدو الفلسفي للفيلسوف فتحي المسكيني للظفر بقصب السبق في إثارة المشكلات الفلسفية التي لا تنقال أو تلك التي لم تخطر على عقل متفلسف في قرننا الحالي ينتهي بفتح دوائر غير فلسفية كالشعر والأدب بمثابة فسحة أمل ما يزال يتقطر نداه من تحت صرير قلمه خصوصا في البابين الأخيرين؛ الباب التاسع والعاشر. الأوّل يرفع عن القارئ السّدر والحيرة بتزويده بالأمل من خلال مؤانسة الشعراء حراس العالم وإمتاعنا بما جادت به قريحتهم مثل شاعرنا محمّد الصغير أولاد أحمد حيث سيكون مدار الحديث في هذا الباب طريقا نحو توطيد أنفسنا على التمرّن على قراءة القصائد الشعرية "Dichten" الإبداعية وتحصينها بالشعر بما هو آخر ما يبلغه المرء من مكاشفة ذاته وفهمها على واجهة هذا الباب وينقط الفيلسوف فتحي المسكيني عليها ثلاث شذرات؛ §.38. الشعراء يحرسون هشاشة العالم[83]، §.39. من يقف في ظلّ الشاعر؟[84] ، §.40. إله الصغير أولاد أحمد أو في الطريق إلى إيمان الشعراء[85]. والثاني يحتوي على أربع شذرات: §.41. حشرة كافكا أو في هوية الحيوان[86]، §.42. غارسيا ماركيز أو كيف نودّع الذين في الداخل؟[87]، §.43. باولو كويلو وأدب الروح[88]، §.44. "بوهيميا الخراب" أو خرائط لما بعد الكارثة"[89].

وهاهنا يزج الفيلسوف فتحي المسكيني بالفلسفة في أودية الأدب وشعابه مستخرجا من لبابه ما به يكون الإنسان إنسانا أو كيف نأتي أنفسنا من طريق الأدب كما أتيناها من طريق الشعر مختتما كتابه "الهجرة إلى الإنسانية" بفاتحة تحت عنوان "الصمت أحد مخاطر الكلام"[90] ينطوي على إشارات وتنبيهات يختلط فيها التصوف بالفلسفة والشعر والأدب مشرئبة عنقها نحو مستقبل الإنسانية القريب والبعيد تنمّ عن نظرة كونية تلوّح بعودة الفيلسوف الكوني المنشغل والمنهمّ فلسفيا بما يسقط من غربال الإنسانية من مشكلات تستدعي حضور الفيلسوف وتخرجه من صمته لكي يرافع عليها أثناء هجرته نحو الإنسانية والإقامة بين حدودها من أجل حراستها من كلّ تهديد يحدّق بها ورعايتها بحجم رعاية الأرباب أملا في كتابة خلودها للأجيال المقبلة. بلا معاندة فلسفية، أنّ فيلسوفنا يتخيّر مسائله الفلسفية من هذه الحديقة الغنّاء ألا وهي الإنسانيّة التي نهاجر إليها التي تمثّل قبلة نتيمّم شطرها كلّ حين من أحاييننا المتاحة لنا عند الذهاب إلى أنفسنا.

خاتمة:

من رحم العبارة الفلسفية تنسل الأفكار التي تأبى إلاّ أن تسقط في طَوْق المسكوت عنه والتي لا تنقال إلاّ في زوايا أنفسنا المعتمة ولكنها تشاء بقدر الاستعداد لحمل كلكلها إلاّ أن تطير وتحلّق فوق "الجليد" (نيتشه) والجبال الشاهقة "حيث النجمة هناك" (هلدرلين). حيث تجرجر الفلسفة أو الحكمة ثوبها وتمشي بين الناس وتتّكئ على عصا الفيلسوف ليهُشّ بها عن المطمور والدفين والذي "لا يُرى ولا يُسمع" (جيل دلوز، "فوكو") في قعر نفوسنا العميقة وتحت قَبْوِ الهويّة سواء تلك التي نتشدق بها نحن "المستعربون" (ابن خلدون) أو (الهاربون) سكان جنوب الحداثة أو لدى "الغرب الصاعد" (هابرماس) أو "الغرب المنحدر" (أوزفالد شبنغلر).

أجل، إنّه لا يستبان شكلها الفظيع الأوديبي ("ما أبشع وجه الحقيقة" "الملك أوديب" سوفقليس) "للجموع" (طوني نغري) من مخاطر تثوي بداخلها وترشح على مساحات أنفسنا كالضغينة والكراهية ولا نلتفت إلى نخرها لطبقات نفوسنا الرسوبية.

حقا، من نكون نحن إلاّ أسماء بلا ألقاب تحملنا سفينة اليومي بلا دليل جغرافي عن مصادر أنفسنا العميقة وحال لسانها يتلعثم في الإبانة: أيّ هويّة نأمل في ارتدائها أو كيف نعيش بلا ضمنات هووية في عالم كتب كتابة "معلوماتية"؟ أم نحن إلاّ جُملا مبعثرة على جدارية العالم كتبت بخطّ رديء؟. ههنا في كتاب "الهجرة إلى الإنسانية" للفيلسوف فتحي المسكيني يدفع عنك الأحزان ويحوّل مواقيتك اليومية إلى إمتاع ومؤنسة وهو لا يضُنّ عليك بما يدّخره من كميّة الأسئلة التي بحوزته للتساؤل عن شكل الحياة التي وقعت أقلمتها تحت نيّر الحداثة أو "العقل الكلبي الحديث" (سلوتردايك)، مُمددا في عُنق الفلسفة لتشرئب نحو مستقبل الحيوان البشري بداخلنا والذي ما يزال يحبُو لفهم هَسْهَسَة الوجود التي صيغت صياغة مؤنثة بلا عَنْوة.


المصادر والمراجع:
* نشر هذا المقال (الجزء الثاني-يتبع-) في موقع الأوان.
[1]- المرجع نفسه، ص.19.
[2]- المرجع نفسه، ص.19.
[3]-Peter Sloterdijk, Colère et Temps. Essai politico-psychologique, traduit de l’allemand par Olivier Mannoni, éditeurs, Libella-Maren Sell, 2007, introduction Le monde thymotique : fierté et guerre, p.22 : « est le mot thymos- il désigne le foyer d’excitation du Soi fier, mais aussi l’ « organe réceptif » au moyen duquel les appels des dieux se communiquent aux mortels. », aussi p.37 : « La théorie du thymos. »
[4] -Ibid., p.90 : « La forme bancaire de la colère : la révolution. »
[5] - فتحي المسكيني، الهجرة إلى الإنسانية، مرجع سابق، ص.22.
[6]- المرجع نفسه، ص.22.
[7]- المرجع نفسه، ص.23.
[8]- المرجع نفسه، ص.23.
[9]- المرجع نفسه، صص.23-24.
[10]- المرجع نفسه، ص.24.
[11]- المرجع نفسه، ص.25.
[12]- المرجع نفسه، ص.27.
[13]- المرجع نفسه، ص.32.
[14]- المرجع نفسه، ص.33.
[15]- المرجع نفسه، ص.33.
[16]- المرجع نفسه، ص.36.
[17]- المرجع نفسه، ص.36.
[18]- المرجع نفسه، ص.36.
[19]- يشير سلوتردايك في كتابه "نقد العقل الكلبي" إلى مفهوم التربية بعبارة "التنوير"، را:
-Peter Sloterdijk, Critique de la raison cynique, Op.Cit., p.143: «le Film éducatif », p.331: «L’éducation psychologique », p.331: « L’éducation sexuelle ». Voir aussi: (Kritik der zynischen Vernunft, Suhrkamp Verlag. Francfort am Main, 1983, S, 282: « dem Aufklärungsfilm », S.481: « psychologische Aufklärung », S.481: « mit sexualler Aufklärung ». »)
[20]- فتحي المسكيني، الهجرة إلى الإنسانية، مرجع سابق، ص.38.
[21]- المرجع نفسه، ص.38.
[22]- المرجع نفسه، ص.39.
[23]- المرجع نفسه، ص.40.
[24]- المرجع نفسه، ص.40. را: مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، مرجع سابق، ص.238: "الفصل الرابع؛ §.26. الدازين- معاً صحبة الآخرين والكينونة معاً اليومية."
[25]- المرجع نفسه، ص.43.
[26] -Jacques Derrida, Politiques de l’amitié, suivi de L’oreille de Heidegger, Editions Galilée, Paris, 1994, Chapitre 2 Aimer d’amitié : peut-être, p.43.
[27]- جاك دريدا، أحادية لغة الآخر أو ترميم الأصل، ترجمة عزيز توما-إبراهيم محمود، دار الحوار والنشر والتوزيع، سورية، الطبعة الأولى، 2009، ص.101 وما بعدها.
[28]- جوديث بتلر، الذات تصف ذاتها، ترجمة فلاح رحيم، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، الطبعة الأولى، 2014، القسم الثالث، ص.157 وص.160 وما بعدها؛ لابلانش وليفيناس: أولوية الآخر.
[29]- المرجع نفسه، ص.173.
[30]- فتحي المسكيني، الهجرة إلى الإنسانية، مرجع سابق، ص.43.
[31]- جلال الدين السيوطي، الوشاح في فوائد النكاح، دار الكتاب العربي، سوريا، دون تاريخ، ص.91: الباب الثاني؛ في اللغة؛ القسم الأول: في أسماء الجماع. را: جلال الدين السيوطي، نواضر الأيك في معرفة النيك، دار الكتاب العربي، دمشق، دون تاريخ، ص.56. كذلك نجد معجم عن النكاح لدى النفزاوي، الشيخ النفزاوي، الروض العاطر في نزهة الخاطر، تحقيق جمال جمعة، نسخة رقمية جديد بدف، الطبعة الثانية. أنظر: الباب السادس؛ في كيفية الجماع، ص.20، والباب الثامن: في أسماء أيور الرجال، ص.22. والباب التاسع عشر: في أسماء فروج النساء، ص.25, هذا المعجم يضبط آداب الجماع وتقنيات النكاح وهو يُعد أول تأريخ للجنس والعناية به ولكن هذا التلفت للجنس قد وقع وأده وتبكيته تحت سلطة الخطاب الديني الدعوي.
[32]- فتحي المسكيني، الهجرة إلى الإنسانية، مرجع سابق، §.6. نكاح العقل، ص.49.
[33] - المرجع نفسه، ص.50.
[34] - المرجع نفسه، ص.51.
[35] - المرجع نفسه، ص.51.
[36] - المرجع نفسه، ص.52.
[37] - المرجع نفسه، ص.52.
[38] - المرجع نفسه، ص.52.
[39] - المرجع نفسه، ص.53.
[40] - المرجع نفسه، ص.59.
[41] - المرجع نفسه، ص.59.
[42] - المرجع نفسه، ص.59.
[43] - المرجع نفسه، ص.59.
[44]- المرجع نفسه، ص.59.
[45] - المرجع نفسه، ص.59.
[46] - المرجع نفسه، ص.60.
[47] - المرجع نفسه، ص.61.
[48] - المرجع نفسه، ص.61.
[49] - المرجع نفسه، ص.61.
[50] - المرجع نفسه، ص.63.
[51] - المرجع نفسه، ص.63.
[52] - المرجع نفسه، ص.63.
[53] - المرجع نفسه، ص.63.
[54] - المرجع نفسه، ص.70.
[55] - المرجع نفسه، ص.74.
[56] - المرجع نفسه، ص.200.
[57] - المرجع نفسه، ص.81.
[58]- المرجع نفسه، ص.86.
[59] - المرجع نفسه، ص.90.
[60] - المرجع نفسه، ص.95.
[61] - المرجع نفسه، ص.105.
[62] - المرجع نفسه، ص.125.
[63] - المرجع نفسه، ص.131.
[64] - المرجع نفسه، ص.140.
[65] - المرجع نفسه، ص.145.
[66] - المرجع نفسه، ص.149.
[67] - المرجع نفسه، ص.157.
[68] - المرجع نفسه، ص.162.
[69] - المرجع نفسه، ص.167.
[70] - المرجع نفسه، ص.175.
[71] - المرجع نفسه، ص.183.
[72] - المرجع نفسه، ص.194.
[73] - المرجع نفسه، ص.200.
[74] - المرجع نفسه، ص.209.
[75] - المرجع نفسه، ص.219.
[76] - المرجع نفسه، ص.222.
[77] - المرجع نفسه، ص.226.
[78] - المرجع نفسه، ص.233.
[79] - المرجع نفسه، ص.236.
[80] - المرجع نفسه، ص.244.
[81] - المرجع نفسه، ص.249.
[82] - المرجع نفسه، ص.256.
[83] - المرجع نفسه، ص.267.
[84] - المرجع نفسه، ص.271.
[85] - المرجع نفسه، ص.277.
[86] - المرجع نفسه، ص.297.
[87] - المرجع نفسه، ص.301.
[88] - المرجع نفسه، ص.320.
[89] - المرجع نفسه، ص.326.
[90] - المرجع نفسه، ص.339.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حرب غزة..احتجاجات جامعات أميركية | #غرفة_الأخبار


.. مساعدات بمليار يورو.. هل تدفع أوروبا لتوطين السوريين في لبنا




.. طيران الاحتلال يقصف عددا من المنازل في رفح بقطاع غزة


.. مشاهد لفض الشرطة الأمريكية اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة و




.. جامعة فوردهام تعلق دراسة طلاب مؤيدين لفلسطين في أمريكا