الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فقرٌ وموتٌ… وتنمّر: مجتمع التنمر الإلكتروني؟ -- جزء 2 – ت

هاني عضاضة

2023 / 7 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لقد سبق أن قلنا "إن جميع الأفراد في أي مجتمع يملكون فكرةً معينة لكن غير مكتملة عن التنمر، مع اختلاف التجارب ومستويات المعرفة حول الموضوع"، ولكني أجزم بأن قلة فقط استطاعت التمييز بين التنمر كحالة فردية وبين السلوك الجماعي الذي تقوم مجموعات بممارسته على مواقع التواصل الاجتماعي. حتى أن مصطلح Cyberbullying Community لا وجود له على محركات البحث، وليس هناك، حتى اللحظة، من دراسةٍ علميةٍ واحدة تقوم بمعالجة هذا الجانب من المسألة. هناك دراسات تتناول التنمر الإلكتروني، لكن ليس هناك من دراسة واحدة تتناول مجتمع التنمر الإلكتروني بعد. وقد حاولت تفسير بعض الأسباب الكامنة وراء هذا الالتباس في النصف الثاني من "مجتمع التنمر الإلكتروني؟ - جزء 2 - أ". ولعلّ هذا الغموض يشكل الدافع الأساسي لي شخصيًا للاستمرار في الكتابة حول هذه المسألة، حتى أنها لم تعد بالنسبة لي مسألة "تصفية حسابات" (ربما باستثناء نص الافتتاحية الذي قمتُ بكتابته ونشره بشكلٍ سريع، وربما متسرّع، لإرغام نفسي على بدء هذه الرحلة، وأنا في حالةٍ من الغضب بعد أن شهدتُ حالةً لا يمكن تجاهلها)، بل صارت مسألة بحثٍ ضروري، في عالمٍ افتراضي يتعرض فيه الفرد لشتى أنواع الاعتداءات والانتهاكات من دون وعيٍ بها، رغم أنها تتركُ أثرًا في نفسِه ومشاعرَ بائسة تلاحقه بصمت.

لمجتمع التنمر الإلكتروني Cyberbullying Community خصائص سأحاول تحديدها في نهاية هذا الجزء، قبل البدء بمعالجة الجانب السياسي للمسألة في الجزء الثالث:

1) العلاقات النفعية:
أبدأ من هنا، لأن المنفعة المشتركة هي الأساس التكويني لأي "مجتمع". بالطبع، لا يمكن أن تقتصر العلاقات النفعية على تحقيق منفعة مادية حصرًا. فيمكن للمصلحة أن تكون عاطفيةً أو معنويةً أو اجتماعيةً أيضًا. حتى أن علاقة الحب (الصحية) بين أي شريكين (أو أكثر) لا يمكن أن تقوم إلا على أساس المصلحة المتبادلة، وهي تحقيق السعادة والرفاهية لطرفي (أو أطراف) العلاقة والحصول على الدعم والاحترام المتبادلين، وإن لم تتحقّق هذه المصلحة المتبادلة، فإن العلاقة تفقد العنصر الأساسي الذي يجعلها "علاقة حب"، ومن دونه، تصيرُ علاقةً من نوعٍ مختلف، أو تنتهي وتنقطع.
لا ينتفي وجود العلاقة النفعية إن لم يكن ملموسًا أو مرئيًا، ويمكن تمييز العلاقة النفعية المعنوية التي تجمع أفراد وجماعات المتنمّرين على مواقع التواصل الاجتماعي في حاجتهم المشتركة إلى تشجيع بعضهم بعضًا للاستمرار في ممارسة سلوكيات وأدوار معينة، فثقافتهم وقيمهم المشتركة المتمثّلة بمشاركة كل فردٍ منهم محتوى يستهدف بالسخرية و/أو التحقير المتكرّرين والعلنيين أفرادًا أو جماعات محددة، تتطلب لكي تبقى على قيد الحياة، ويُعاد إنتاجها على نطاقٍ أوسع، مساهمة أكبر قدرٍ ممكن من الأفراد المتنمرين الداعمين، عبر التعليق بشكل متكرر، والمشاركة الكثيفة في السخرية من أحد المشتركين العاديين على نفس الموقع، وخلق البيئة "السامّة" التي لا ترحّب بأي سؤالٍ أو استفسارٍ حول سبب التنمر على هذا الشخص أو ذاك، أو سبب تصويرِ منشور من هذه الصفحة الشخصية أو تلك بصرف النظر عن مضمونه، مع اسم الشخص وصورته، بغية تحقيره بشكل مباشر وجماعي، حيث يصير السائل بنفسه هدفًا للسخرية. وقد تعرّضت إحدى الصديقات واسمها ليال (أتحفظ عن ذكر اسمها الكامل لأني لم أطلب موافقتها، ولكني شاهدت ما حصل) منذ ساعات فقط لإحدى هجمات التنمّر، وتسبب ذلك بحذفها لما قامت بتدوينه على صفحتها، وهو رأي خاص تجاه أحد الأعياد الدينية، وقامت بمشاركته مع أصدقائها وعائلتها على صفحتها الخاصة، قبل أن يصير رأيها العادي، مع اسمها وصورتها، هدفًا للضحك والسخرية على إحدى الصفحات "العامة" التي تجتمع فيها إحدى مجموعات المتنمرين. قامت تلك الصديقة بحذف منشورها، ولم تعبّر عن شيء، ولكن الضرر قد حصل، وصار لدينا متضرّرة من جهة، وأشخاصًا قاموا بالإضرار بها من جهة أخرى وبشكلٍ متعمد. وبالمثل، تحصل حالات عديدة ومتكرّرة بشكلٍ دائم، من دون أن يقوم أحد بالإضاءة عليها، وكأنها مسائل عابرة يمكن تخطيها بسهولة، رغم تكرارها وتراكمها.
فإذًا، يدعم المتنمرون بعضهم بعضًا عبر التجمع والتفاعل وفرض القوة المعنوية للجماعة على الأفراد حتى "يسايروهم"، بمن فيهم الأفراد الذين يشاركون في التنمر من موقع المتردّدين. [4]
هذه العلاقات النفعية المعنوية، تشير إلى وجود ديناميات غير مرئية تنظم سلوك وتفاعلات الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أن الضحك الجماعي بشكل عشوائي ومن دون سببٍ فعلي على شخصٍ مجهولٍ يمكن أن يتناوله أي فردٍ من الأفراد المتنمرين يصير "عادةً" و"تقليدًا" ضروريين، لأن هذه المشاركة تفرضُ مشاركة جميع المتنمرين على أي صفحة لأحد المتنمرين أو على إحدى صفحاتهم العامة بالشكل نفسه، وهنا يمكننا إيجاد نمط Pattern لهذه السلوكيات، والنمط، بطبيعة الحال، يؤكد تطور هذه العلاقات باتجاه التناسق حيث تصير ممنهجة Systematic، ويمكن للعكس أن يكون هو الصحيح أيضًا، حيث يخلق هذا التناسق في التفاعل نمطًا معينًا. إن هذه العلاقات والديناميات غير المرئية هي الركيزة الأولى لـ "مجتمع التنمر الإلكتروني".

2) تنظيم النشاط التنمري:
وهذه النقطة أساسية، وهي التي جعلتني ألحظ الفرق بين حالات تنمرٍ فردية (لم أكن أدرك كونها بالفعل تنمرًا منذ فترةٍ بسيطة!) وبين مجتمعٍ كامل من المتنمرين، تحت تأثير الصدمة في لحظة الرفض لإحدى الحالات الفاقعة، حيث قامت بتناولها إحدى صفحات التنمر العامة، بالإضافة إلى صفحات أشخاص عديدين، بشكلٍ متزامن، وكان مضمون السخرية متشابهًا تمامًا، مع اختلاف في الصياغة ليس إلا، وهذا مؤشر على وجود ثقافة مشتركة وخطابٍ عام، سنقوم بمعالجتهما في مقالٍ لاحق. تنشأ الصفحات والمجموعات على موقع "فيسبوك" وتضمّ أعدادًا كبيرة من المتنمرين (أؤكد أني أتحدث عن الحالة اللبنانية، حتى الآن، ولكن أي تجمع بشري كان هو نموذج قابل للدراسة)، ولكن تنظيم هذا النشاط يمكن أن يتخذ العديد من الأشكال الإضافية.
لقد لاحظتُ وجود بضع مجموعات وصفحات تُدار بشكلٍ جماعي (عرفتُ لائحة الأسماء الكاملة لمديري إحدى الصفحات، وعدة أسماء من مديري صفحة أخرى، وعدة أسماء من مديري إحدى المجموعات، بالإضافة إلى مراقبة عدد من الحسابات الوهمية، ويمكنني أن ألحظ بسهولة مستوى التشبيك Networking والذي يتخذ منحى تطوريًا)، وتلك الحسابات الوهمية تنشط بدورها على عدد من الصفحات العامة، كما تشكل مصادرًا للإشاعات والأكاذيب حول أفراد، ويستخدمها مشغلوها لإرسال الرسائل الخاصة المؤذية والجارحة لأفراد مستهدَفين (وقد كان أحد الأصدقاء أيضًا ضحيةً لهذه الممارسة، عبر حساب وهمي ينشط ضمن تلك المجموعات والصفحات بالذات). بالإضافة إلى الحسابات الوهمية، يعمل المتنمرون الناشطون في تلك الصفحات على جلب الـ "screenshots" من صفحات "أصدقاءٍ" لهم من دون معرفتهم أو موافقتهم، لخلق محتوى سلبي أو مهين بحقّهم أو مستفزّ لمشاعرهم الخاصة (في حال كانت السخرية حول بيت شعرٍ، أو قصة حول تجربة خاصة، أو كلام حول اكتئاب، أو أمنية خاصة كما حصل مع صديقةٍ مقرّبة لي... إلخ) من دون أي مبررٍ أو سببٍ منطقي.
حتى ولو قامت إحدى الصفحات بحذف منشورٍ معين، أو الاعتذار عنه، فذلك لا يلغي الضرر الذي قد وقع بالفعل: "في حالة التنمر الإلكتروني، قد يقع الضرر بصرف النظر عن استجابة الشخص المستهدَف. إذا تم نشر رسالة، وتعرض الهدف للإهانة، فقد يتصل بالموقع (أو الصفحة) ويبلغ عن الإساءة. "من المفترض" أن يقوم الموقع (أو الصفحة) بإزالة المحتوى، ولكن من السهل مشاهدته من قبل العديدين قبل إزالته".[5]
هذه التجمعات التي تعمل على تنظيم وإدارة هذا النشاط وتوسيع نطاقه وزيادة التفاعل باستمرار ومن دون كللٍ أو ملل، وكأنها تشكّل قيادةً ما مهمتها ضبط الإيقاع، هي الركيزة الثانية لـ "مجتمع التنمر الإلكتروني".

3) الهوية الاجتماعية:
بالطبع، إن المجتمع البرجوازي يتشكل من خلال وجود طبقات اجتماعية مختلفة، وعلاقات قوة متفاوتة، وتوزيع غير متساوٍ للامتيازات والفرص، ولكن هذا لا يمنع تشكّل هويات اجتماعية متمايزة للأفراد، وللجماعات أيضًا حيث يمكن إطلاق وصف "فئات" أو "شرائح" عليها وتقسيمها بحسب الجنس أو التوجه الجنسي أو العمر أو الدين أو الثقافة أو المستوى التعليمي... إلخ. وللتفاعل الاجتماعي، في أي مساحة كانت، حقيقيةً أم افتراضية، دور رئيسي في خلق هوية الفرد.
يبني الفرد المتنمر هويةً متمايزة، حيث يراكم رأسمالًا اجتماعيًا، ويكتسب مكانةً اجتماعيةً في بيئة معينة ولو في الفضاء الافتراضي، من خلال نشاطه الساديّ، حيث يعتبره المتنمرون حليفًا لا مفر من التعاون معه، فيما يعتبره الكثيرون ممن يجهلون ماهية التنمر، شخصًا مضحكًا وجريئًا، بينما هو يعمل على تهميش أو عزل أشخاص آخرين وبشكلٍ ممنهج ومتكرر (ويمكن لمنشور واحد على مواقع التواصل الاجتماعي أن يعتبر متكررًا، حيث يمكن أن يتم نشره أو التعليق عليه بشكل متكرر من قبل آخرين، وإتاحة هذا المجال يلبّي شرط التكرار لتأكيد فعل التنمر)، أو التسبب بضررٍ نفسي أو معنوي لهم، من دون مبرّرٍ منطقي، وإن قمت بمساءلته فجوابه عادةً ما يكون في معرض التسخيف للمسألة: "مثل أيري"، مثلًا. وذلك رغم محاولة العديد من المتنمرين الدفاع عن أنفسهم عبر إنكار فعل التنمر، أو اعتبار ضحية تنمرهم "شديد الحساسية" أو لا يتقبل "الدعابة"، أو لومه على استفزازهم، أو اعتبار تنمرهم فعلًا حرًا يجب الدفاع عنه كجزءٍ لا يتجزأ من حرية التعبير والرأي، أو تشويه السياق الذي لا يدرك حقيقته سوى ضحية التنمر وحده والتقليل من شأن سلوكهم تجاهه. وأنا هنا لا أناقش دوافع المتنمر، بل نتائج سلوكه. فيمكن للمتنمر أن يكون ضحية تنمرٍ بنفسه، كما يمكن له أن يعاني من حالات اكتئاب أو اضطرابات معينة ولأسباب متنوعة، وهناك حالات لا يمكن ربطها بمصدرٍ واضح، كما يمكن لهذا الفرد أن ينتمي إلى أية طبقة اجتماعية، فليست الخلفية الطبقية معيارًا، رغم أن سلوكه يعبّر عن تفوّقٍ خاص يحاول فرضه، وهو سلوكٌ طبقي محدّد، وفي بعض الأحيان، فإن المتنمر عبر الانترنت لا يعبّر سوى عن "الحاجة" إلى الحصول على امتياز يضمن تفوّقه، وفي نظره، فإن التنمر، هو سلوك يوفر له هذا الامتياز. هو يغذي نفسه بالأكاذيب والأوهام فيما يقوم بإيذاء غيره بالمجان.
ولا أستطيع القفز عن هذا المقطع دون ذكر الجانب السياسي لهذه "الهوية الاجتماعية" للفرد المتنمر، الذي يفرض تمايزه الفردي العابر للصراعات السياسية والاجتماعية بمختلف مستوياتها من خلال: تسخيف كافة أشكال التضامن الاجتماعي وتسخيف الفعل السياسي والدعوات إلى التنظيم أو إعادة التنظيم بأي اتجاهٍ سياسي كان. هو يعتبر نفسها متمايزًا إلى درجة أنه يشكل شخصيًا ظاهرةً عابرةً للطبقات وللصراعات على أنواعها.
والهوية الاجتماعية "المتمايزة" التي يفرضها هذا الفرد المتنمر، كما الجماعة المتنمرة، من خلال تعريض الآخرين إلى الضغط والأذية والتهميش والعزل والسخرية الدائمة، هي الركيزة الثالثة لـ "مجتمع التنمر الإلكتروني".

يُتبع: التنمر الجماعي الإلكتروني كممارسة سياسية يومية - جزء 3

-----------------------------

[4] يمكن مراجعة تجارب سلومون آش Solomon Asch عام 1951 حول "الامتثال السلوكي".
[5] بحث: "مبادئ التنمر الإلكتروني": التعريفات والمقاييس والمنهجية Principles of Cyberbullying: Definitions, Measures, and Methodology، الفصل الثاني Why It Matters للكاتبة شيري بومان Sheri Bauman (ترجمة هاني عضاضة).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال


.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار




.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20


.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من




.. السعودية تسعى للتوصل لاتفاقيات شراكة أمنية مع الولايات المتح