الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلطة الخبراء: انتصار الخبرة واهتزاز الديمقراطية الجز ء 2 The Power of Experts: The Triumph of Expertise and the Shake of Democracy, Part 2

نورالدين لشكر
باحث

(Noureddine Lachgar)

2023 / 7 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المطلب الثالث: القرار بين السياسي والخبير: الخبرة أم الشعب؟
1- من يتحمل مسؤولية نتائج القرار؟

لقد اتسعت المساحات الضبابية بين صانع القرار الذي ينبغي له أن يتحمل مسؤولياته أمام الملايين من الناس، وبين الخبراء الذين يقدمون استشاراتهم بصيغة تقريرية دون أن يتحملوا تبعاتها سياسيا واجتماعيا. لذلك، فمن أجل التمييز بين السلطة المختصة التي تتخذ القرار وبين الخبير، اعتبر "تريبو" أن الخبير تستند شرعيته إلى نجاعة قيم العلم والكفاءة. حيث أن الوضعيات التي توجد فيها العديد من المجتمعات، وحتى في أعرق الدول الديمقراطية، هي وجود لجنة علمية تدفع في اتجاه قرارات تستند في شرعيتها إلى خبرة تمتلكها، وبغض النظر عن الخطاب التشكيكي في خبرة تلك اللجان، والتي لم تخضع لمعايير الخبرة الدولية (لشكر، ن. 2021)، نجد أنها أضحت تقدم قرارات وليست استشارات. فكم من تصريح لخبير ينطوي على مضامين قانونية وليست علمية محضة. وهو ترامي على حقل سيادي لصانع القرار وللمؤسسات التشريعية، بل يمكن أن تصدر عن بعض الخبراء تصريحات ناتجة عن حالة تضخم في الشرعية الممنوحة لهم من طرف الجهات الراعية.

2- المعركة مع الجائحة: لا صوت فوق صوت الخبرة  

منذ بداية جائحة "كورونا" ولا خطاب يعلو فوق خطاب "اللجان العلمية" و "الخبراء"، وأضحت القرارات الفوقية للخبرة العلمية تمتلك من الشرعية ما لا تمتلكه النخب أو المؤسسات السياسية وتحديدا (البرلمان). في هذا الإطار تبدو الخبرة على أنها تنحوَ منحى متعاليا عن ثقل الواقع وإكراهاته الاجتماعية والإقتصادية ونمط العيش اليومي، ذلك أنه إذا كانت الجهات الوصية الراعية للخبرة تنظر للخبير كشخص تقني، فإن هذه التقنوية يمكن أن تساهم في تأزيم الواقع أو تغييبه أو محوه. فالخبير التقني يمكن أن تمتد "تقنويته" المعزولة عن التوترات السوسيواقتصادية بحيث تجعل من "الخبرة خدمة" (لشكر، ن. 2021: 39)، وهنا قد يطلب إليه صنع "اللاواقع" ويتم التعامل معه على أساس أنه واقع. ففي المجال السياسي مثلا، بيّن "جيمس ألان" (Alan James) كيف أن رئيسا للولايات المتحدة لم يكن يثق بالخبراء، وأبرز هذا الباحث خطورتهم عبر سلسلة من الوقائع. إن عملية التزييف للواقع أو التعالي عنه تجعلنا نخلص مع "ألان" إلى فكرة مفادها "أن الممارسات الديمقراطية يمكن أن تنهار بالاعتماد الشديد على الخبراء (...) وأنهم يشكلون خطرا على المؤسسات الديمقراطية" (جيمس، أ. 230:1994).

لكن بالمقابل، هناك رهان كبير على خطاب الخبير الذي يتناغم مع "الموضوعات المفروضة في فترة معينة كالعنف كما قلنا سابقا، والشباب والمخدرات وجائحة كورونا، وما إلى ذلك، ومن ثَم يتحول الخبير إلى ممتلك للسلطة، وسلطته يمكن أن تساهم في تغيير الواقع الذي يدرك حسيا من طرف العامة والبسطاء، إلى واقع تريده "المؤسسات" و"الجهات الراعية للخبرة"، وهنا تكمن خطورة الخبرة سوسيولوجيا، إذ أن "سلطة الخبراء في هذا العلم أخطر من أي سلطة أخرى لأي علم آخر" (بورديو، ب. 2011: 10)، بل "إنها لا تغتفر" حسب "بيير بورديو" (Pierre Bourdieu)، بل هناك تخوف من بعض سياسيي الأحزاب أن يصبحوا ضحية "لديكتاتورية الخبراء"، فهناك إمكانية حسب بورديو للتلاعب في صیاغة النتائج المتصلة بموضوع ما، على نحو یخدم المتنفّذين، ویحجب الحقيقة عن أنظار الجمهور في مجالات عدة، "إذ یُلقي على نتائج علمية دون أخرى وتجارب لدول معزولة عن سياقاتها الديمقراطية، كما هو الحال في علم الاجتماع مثلا، إذ يسلط الضوء على مناهج ومفاهيم سوسيولوجية بلورها رأس المال، كالاستثمار"(بورديو، ب. 2011: 10)، ونضيف عليها نحن مفاهيم أخرى، كالتنمية والفقر والهشاشة، تسوق لها مؤسسات دولية ضخمة ويجند لها جيش من الخبراء، وتمول بمبالغ مالية ضخمة تعجز دول كثيرة عن رفضها كمساعدات مالية وتقنية تخفي إديولوجية معينة (لشكر، ن. 2020: 190).

يعمق بورديو من تحليله السوسيولوجي في نفس سياق كتابه هذا لنتائج البحوث والدراسات، التي يرى أن الكثير يجهل آلياتها وأسرار عملها. في زمن طغت فيه الفردانية والتعالي وأنانية الذات على القیم الاجتماعية، وأصبحت بالفعل تهدد مجتمعاتنا. حيث یطلعنا على خفايا أمور اجتماعية وسیاسیة واقتصادية لا یلتفت إليها المواطن العادي. وفي نفس الاتجاه يعتبر "جون إيف تريبو" أن هذا النوع من "الخبرة" قد يساهم مثلا في عملية بناء السخط أثناء صراع مجتمعي من خلال شكاوى يتم استثمارها، وقد شاهد العالم خروج العديد من المظاهرات الإحتجاجية ضد قرار التلقيح الإجباري، وتم التراجع بالمقابل عن تصريحات لمسؤولين سياسيين تفيد بإجبارية التلقيح وتهدد بعدم إمكانية استفادة المواطن من حقوقه الإدارية في الولوج لمؤسسات بسبب عدم حصوله على جواز التلقيح، وبالتالي فإن ما يمكن اعتباره خبرة مبلورة لقرارات معينة، قد يصبح "تسييسا واستثمارا في شكل ما لتوجيه المظالم والشكاوى" (تريبو، ج. 1996: 21). هذا الوضع أضحى صانع القرار السياسي يعي خطورته بشكل كبير، الشيء الذي يعني أن تبعات القرار السياسي هي أهم من شكل تبلور القرار ذاته.

3- خبراء بدون حس اجتماعي أو أخلاقي

هل الخبرة تقنية؟[1] أم لابد من إدماج الأبعاد الإنسانية والأخلاقية أثناء عملية إنجازها؟

للتفاعل مع هذا النوع من الأسئلة، هناك ملاحظة أساسية لابد من تسجيلها، فأثناء تقديم برامج حوارية يحضرها "خبراء" بمعية فاعلين من مجالات متعددة أثناء (جائحة كوفيد)، يلاحظ كيف أن بعض الخبراء، تصدر عنهم تصريحات ناتجة عن حالة تضخم في الشرعية الممنوحة لهم من طرف الجهات الراعية، فتجعلهم لا يأبهون برأي المواطنين بل تصل إلى درجة تسفيه آراء المخالفين حتى ولو كانوا ينتمون لنفس مجال اختصاصهم[2]. إن أي انتقاد لهؤلاء الخبراء الذين يستمدون شرعيتهم من الجهة الراعية وخاصة إذا كانت سياسية سيعتبر "جرأة" وتجاوزا للحدود لا يغتفر! هنا تضرب عرض الحائط كل القيم الأخلاقية التي تقوم على الحوار والاعتراف والتواضع، لأن الطرفين حتى ولو تم افتراض تساويهما في الكفاءة العلمية، إلا أنهما يتفاوتان في الشرعية السياسية والسلطوية، فكيف هو الحال إزاء مواطنين غير مختصين في القضايا الصحية، ومع ذلك يرفضون أن يتم إجبارهم على التلقيح لاهتزاز ثقتهم بالخبراء. فالخبير يتفوق على المواطنين غير المختصين من الناحية العلمية، الشيء الذي يجعل رأيهم لا يؤبه به، مما يزيد من عمق هذه الإشكالية، والتي تحسم دوما لصالح الخبير باعتباره الممثل الوحيد للجهة الراعية، وهي من ترجح كفته على الدوام رغم أن آثار قراره لها انعكاساتها الاجتماعية والنفسية والإقتصادية على المواطنين.

بناء على ما تمت الإشارة إليه سابقا، يمكن القول إن الخبراء رغم تخصصاتهم يفتقرون إلى المنظور والحس الأخلاقي والسياسي معا، بالإضافة إلى ذلك "فرغم ادعائهم الحياد إلا أن خياراتهم في الغالب إيديولوجية". وإذا كانت من أهم وظائف الإديولوجيا هي "الإلهاء" في الغالب عن القضايا الأساسية حسب "بول ريكور" (Paul Ricœur) (ريكور، ب. 2001)، فإن الإديولوجيا تبرز في الخبرة رغم ادعاء الحياد والموضوعية. وهذا ما جعل "أندريه" يشن نقدا لاذعا حين اعتبر أن الخبراء يوظفون لغة خاصة، تعتمد على المقاربة الكمية في الغالب، ورموز ومفاهيم خاصة، بل إن بعضهم يتحدث بلغة الرياضيات أمام الجمهور! وما ذلك إلا "لإخفاء فقرهم الأخلاقي والفكري"(برنار، أ. 47:1982).

4-   في الحاجة إلى العلوم الاجتماعية

إذا افترضنا أن الخبرة تهدف إلى المساعدة والتنبؤ والدعم لصنع القرار ورصد وتأثيره. فهل هذا يعني الانخراط سياسيا في النقاش العام. بعبارة أخرى، هل من الضروري أن يقدم الخبير أطروحته أمام الرأي العام؟ أم أن التغطية الإعلامية لعمل لجان الخبراء ليست هدفاً في حد ذاته؟ ذلك أن الجمهور الحقيقي المستهدف هم البرلمانيون، فهم الفئة القادرة مؤسساتيا وسياسيا على مناقشة نتائج عمل اللجان، وهنا يرى "فرجيني تورني" (Virginie Tournay) أن مهمة الخبير تنحصر في "إبلاغ البرلمان بعواقب الخيارات العلمية والتكنولوجية من أجل" تنوير قراراته" (فرجيني، ت. 2019).

ومع ذلك، فلا يخفى أن هناك تغير جدري طرأ في عالم المعرفة، بسبب ظهور الإنترنيت وشبكات التواصل الإجتماعي، التي أدت إلى تحرير سوق المعلومات، فالوضع الكلاسيكي لتداول المعرفة والخبرة بدأ في الإنهيار، وهو الذي يتسم بوجود فئتين في المجتمع، فئة اجتماعية هي السائدة في المجتمع، ينتشر فيها الجهل بالتخصصات الدقيقة، وفئة الخبراء، تضم نخبة وقلة  مختصة تحتكر المعرفة، وأمام هذا الوضع الجديد الذي يتسم بتداول المعلومة بين كل الفئات وكل القارات وبشتى اللغات، جعل وضعية "الطبقة الثانية" تهتز وتصوب نحوها خطابات تتسم بالتشكيك في "الإجماع العلمي". ناهيك عن حشد السلطات للخبرات لمواجهة حالة الطوارئ العالمية للأزمة الصحية دون الالتفات لنتائجها الكارثية اجتماعيا واقتصاديا، وخاصة على الفئات الهشة، وهذا ما يزيد من قلق المواطنين، إذ يبدو للمواطنين أن الجهاز الحكومي يسقط شيئا فشيئا في فخ البعد العلم-تقنوي ويقصي الأبعاد الأخرى، اجتماعية واقتصادية وثقافية. لذلك يؤكد "فرجيني" مرة أخرى على "أن إقناع المواطنين بفعالية "التطعيم" لا يحتاج إلى خبير حاصل على شهادة دكتوراه في علم المناعة، بل إلى الثقة وشعور المواطن بقرب صانع القرار منه" (فرجيني، ت. 2019). وبالتالي لابد من استحضار البعد الثقافي والاجتماعي الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار أثناء اتخاذ القرار. فهذا الأخير يجب أن يوظف الأدوات العلمية المبنية على العلوم الإنسانية والإجتماعية لأنها هي الأقرب إلى فهم الإنسان من غيرها.

هناك نقطة عمياء في العلوم الدقيقة (صحة، هندسة، فيزياء،..) ينبغي الإنتباه لها، وهي المتعلقة بثقة المواطنين في الخيارات العلمية والتكنولوجيات والمؤسسات الخاصة بهم. من هنا يشير "فرجيني تورني" إلى تفاعل علمي حصل في فرنسا بين العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم التكنولوجية وعلوم الحياة. "إذ تقدم عدد من التقنيين بطلب إلى علماء الاجتماع من أجل تحديد شروط قبول التكنولوجيا من قبل المجتمع". وتم عرض أمثلة على ذلك، كالتعديل الوراثي، والتعرف على الوجه رقميا، والتطعيم، علوم الأعصاب... ومثل هاته المبادرات جعلت "فرجيني" يوضح كيف بين "علم اجتماع المعرفة أن اكتساب الثقة الجماعية في الاختيار التكنولوجي لا يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمستوى المعرفة العلمية" (فرجيني، ت. 2019). لذلك، فالباحث من خلال هاته القراءات يستخلص بشكل عام أن المؤسسات المنتجة للمعرفة (أكاديميات، مختبرات بحث، مراكز دراسات، معاهد، ..) لا ينبغي أن تبقى مجزأة. خاصةً عند ملاحظة وجود تناقض وتوتر بين كلمة الخبراء والمختصين حول قضية معينة وبين رأي المواطنين. فلا يمكننا أن ننسى تنوع الجمهور وشكل مشاركته، وهو رهان صعب لا ينبغي التخلي عنه في ظل الأغورا الرقمية العظيمة التي أصبحت ساحة معاصرة ورئيسية للنقاش العام.

خلاصة:

كان الهدف من هذه المقالة هو التفاعل مع ثلاث أسئلة أساسية، تروم إبراز أهمية الخبرة في الدولة الحديثة وإسهامها في تطوير المؤسسات، من خلال علاقة تفاعلية تدمج ضمنها جملة من المفاهيم المترابطة، غير أن تلك الحاجة قد تدفع في اتجاه ضرب بعض أسس الديمقراطية، وبالتالي لابد من الحذر من الخبراء كي لا يسقط القرار السياسي في أيديهم بدعوى عدم اختصاص المواطنين، ناهيك عن الاستدراج التدريجي للخبرة إلى منطق السوق وتسلع المعرفة. إن القرار السياسي أضحى يتأرجح بشكل غير سليم بين الخبراء وممثلي الشعب، الشيء الذي يجعل السياسي في ورطة أمام عموم المواطنين نتيجة قرارات خبراء لا يتحملون مسؤوليتها، إذ يتضح أن عدد منهم لا يمتلكون حسا سوسيولوجيا أو أخلاقيا، الشيء الذي يدفع باتجاه دمج العلوم الإنسانية والإجتماعية في الخبرات رغم خلفياتها التقنية أو الصحية.

[1]  كان هذا السؤال عنوان للفصل الثالث من أطروحة الدكتوراه المشار إليها سابقا.

[2]  أثناء حوار مباشر على القناة الثانية، كانت هناك مواجهة بين أحد أعضاء اللجنة المكلفة بتتبع جائحة كورونا بالمغرب وطبيب وصيدلاني متخصص وممثل عن ائتلاف من الأطباء والصيادلة المغاربة وقعوا على عريضة تعترض على إجبارية التلقيح، اعتبر ممثل اللجنة الوطنية أن عضو لجنة الائتلاف الذي وقع العريضة تجرأ على اللجنة، وبالرغم من أن ممثل الائتلاف كانت أسئلته علمية وطرحت بهدوء غير أنه ووجه من طرف ممثل اللجنة بالضحك والسخرية والإستهزاء. البرنامج على القناة الثانية المغربية، بتاريخ: 18/11/2021. أنظر الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=oFicDcNvSjA

مرجع المقال: نورالدين لشكر، سلطة الخبراء، مجلة إضاءات، المجلد 3، العدد 6، صيف 2021، ص-ص: 21-38
أو انظر الرابط التالي:
https://www.academia.edu/83255837/%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%A1_Experts_power








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صفقة الاتحاد الأوروبي مع لبنان..ما خلفياتها؟| المسائية


.. بايدن يشدد على إرساء -النظام- في مواجهة الاحتجاجات الجامعية




.. أمريكا.. طلاب يجتمعون أمام منزل رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شف


.. الجيش الإسرائيلي: 12 عسكريا أصيبوا في قطاع غزة خلال الساعات




.. الخارجية الأمريكية: هناك مقترح على الطاولة وعلى حماس قبوله ل