الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تكامل المعرفة السوسيولوجية والخبرة لدى الباحثين العرب: عمار حمداش نموذجا (ج2)

نورالدين لشكر
باحث

(Noureddine Lachgar)

2023 / 7 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


** وسيط معرفي في مجال الخبرة
بالرغم من الأوصاف القدحية التي توجه غالبا إلى "الخبراء" الذين يقدمون خبرتهم للمؤسسات الطالبة لخدماتهم، واعتبارهم "خبراء تحت الطلب"، حيث لا يخفى ما يمثله هذا الوصف من اتهام يمس جوهر معرفة الخبير، رغم ما يتسم به من إطلاقية وحكم جاهز؛ فإن الخبير بشكل عام، يلعب دور الوسيط بين الواقع والمؤسسات(1)، ويفرض نفسه كنقطة مرور إلزامية بين الميدان أو المجتمع، وبين المؤسسات والنخب الإدارية والسياسية. وحيث إن الخبرة مرتبطة بالتدخل، فإن ذ حمداش سيساهم بدوره في تهيئة الشروط لهذا التدخل في العديد من مناسبات تقديم خدمات الخبرة والإستشارة(2). إنه، وكعدد غير قليل من الخبراء أو المشاركين فيها(3)، ساهم من موقعه كباحث سوسيولوجي مختص في مجاله، في الإستجابة لبعض طلبات الإستشارة والخبرة، من بينها ما انحصر دوره فيها على إعداد الملفات المنهجية لبعض الدراسات، ومن بينها من ساهم فيها كباحث ضمن فريق بحث، ومن بينها من تكلف بإنجاز دراسات وأبحاث بعينها، ومن بينها كذلك من شارك فيها كمؤطر ومكون للفاعلين في مجالات معينة كالإدارة والجمعيات والهيئات السياسية؛ ومن بينها كذلك من ساهم إلى جانبها في إعداد وثائق التكوين والتدريب لفائدة أطرها، كما هو الحال مع مؤسسة "الرواد"(4)، ومن ساهم لفائدتها في تحكيم المقالات العلمية بغاية نشرها في مجلات معروفة (مجلة عالم الفكر مثلا والقانون والمجتمع..). إنه امتداد لأستاذ الأجيال محمد جسوس؛ الذي يعتبر بمثابة من يمتلك "فن إدخال مادة السوسيولوجيا في المقررات الحزبية"(5). علما أن اختياره من طرف هذه الجهات يكون تقديرا لكفاءته، وقدرته على إنجاز أعمال ذات مصداقية علمية من جهة، ومن جهة أخرى نظرا لموقع الباحث كملتزم بقضايا المجتمع ومنخرط في هذه الدينامية مع جمعيات المجتمع المدني والمنظمات والهيئات السياسية القريبة من رؤيته لتطوير وتقدم المجتمع؛ بما يعكس درجة الإلتزام المهني والأخلاقي للباحث. علما أن رصيد استشارته وتقديم الخبرة، كان في الكثير من الأحيان عملا طوعيا، يرى أن من واجبه تقديم ما يمكن أن يفيد به، عبر الرصيد المعرفي والميداني الذي تحقق له، لفائدة من يستشعر الحاجة إلى الإفادة منه.. فكم هي الجهات (جماعة محلية، مكتب دراسات، هيئة، إلخ) التي تقدمت بطلب خبرته، ليقدم لها تقريرا حول وضع ما أو استشارة أو توجيه، أو لينجز لفائدتها مشروعا أو يقدم تقييما أو مراجعة لأرضية، وما شابه ذلك.. أذكر في هذا الباب تطوعه لمدة خمس سنوات كمنسق للجامعات الشعبية في تخصص علم الاجتماع، من بين أعمال طوعية أخرى عديدة.
لقد مثلت الخبرة تحديا للبحث العلمي الأكاديمي(6)، كما أن عددا مهما من علماء الاجتماع المغاربة وطنيا ودوليا، اشتغلوا بشكل لامع في المجال الأكاديمي وبلوروا أفكارا وكتابات، وقدموا أيضا الإستشارات وساهموا في صياغة التقارير والخبرات لصالح المؤسسات الوطنية والدولية. ومن ضمن هذه الأسماء يمكن استحضار، المختار الهراس، ادريس بنسعيد، عبد الصمد الديالمي، حسن رشيق، وغيرهم كثير. هذا ويمثل ذ عمار حمداش واحدا ممن ساروا على هذا الدرب، في حدود معينة.. من الناحية المبدئية ليس هناك قطيعة بين مجال البحث الجامعي ومجال الخبرة، بل هناك تواصل يحدثه الباحث أو الخبير، بل وتتحقق تغذية راجعة بين المجالين. وقد يتساءل البعض؛ عن القيمة العلمية التي استقاها ذ حمداش من الخبرة وأدت به إلى إنتاج معرفة علمية ما. فعدد من الخبراء "تحت الطلب"، اشتغلوا في التدخل لصالح مؤسسات وطنية ودولية، مرة أو مرتين، لكن سقفهم كان محدودا في مجال الخبرة، إذ لم يستطيعوا تجاوز وضعية التدخل الفني إلى مستوى بلورة المشاريع والأفكار، بل وإعادة قراءة موضوع ما انطلاقا مما يتيحه عالم الخبرة من معطيات وولوجية لميادين لم تكن متاحة أمام باحث مستقل. فكما تحتضن الجامعة علماء لامعين وآخرين متوسطي المؤهلات، ففي مجال الخبرة كذلك، هناك خبراء محترفون ومختصون، وهناك خبراء تقنويون منفذون لخطط وبرامج، وبشكل غير واع في كثير من الأحيان بخلفياتها الفلسفية والإديولوجية(7)، وآخرون حاولوا الحفاظ على نوع من التوازن بين رصيدهم المعرفي وقناعاتهم الفكرية وبين تسخيره لفائدة خدمات الخبرة والاستشارة. من هذا المنطلق يمكن استحضار بعض كتابات الأستاذ عمار، التي زاوجت بين المستوين، وحققت تكاملا بينهما؛ من قبيل دراسته المنشورة حول "الوساطة الأسرية"، وكتاب "نساء سلاليات"، و"العنف والتحرش الجنسي بالنساء في المنطقة الشمالية"..
يمثل عمار حمداش إذن، نموذجا للخبير الذي يجعل من خبرته مشروعا علميا جديدا، يطور من خلاله معرفته ورصيده السوسيولوجي، وتحيين معطياته حول القضية التي يشتغل عليها مما يسهم في تغذية معرفية جديدة للطلبة والباحثين. ويعي الأستاذ حمداش جيدا كون الباحث السوسيولوجي ذو مهمة علمية، فضلا عن مهمته التربوية، التي ينبغي أن يظل وفيا لها داخل الجامعة؛ لكنه يعي أيضا أن بقاءه في برجه العاجي مرة أخرى هو بدون فائدة. فالمعرفة في العلوم الاجتماعية بدون ميدان ضعيفة، لكن الميدان تبقى أبوابه موصدة أمام الباحث المستقل الذي لا يمتلك الوسائل المالية لإنجاز أبحاثة الميدانية؛ لذلك فإن التعامل مع الجهات الراعية مفيد لأنه يمكن الباحث الخبير من الولوج للمعلومة وللمعطيات الميدانية والموثقة على السواء، وما عليه إلا أن يراعي المسافة الجيدة بينه وبين المؤسسة التي تطلب خبرته، لأن الخلافات داخل البحث الأكاديمي، مهما كانت طبيعتها، يتفق الجميع على مطلب الموضوعية فيها، وهذه الأخيرة لا تصطدم بأي حال من الأحوال بالمصلحة حسب عالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس، شريطة الوعي بها.
إن الدافع وراء هذا الحديث هو عدم قبول الأستاذ حمداش مسألة خلط الأوراق بين السوسيولوجي والسياسي في صورة خبير، بالرغم من أن الخلط قد يكون مغريا، خاصة في حالة المشاركة في الأبحاث الدولية التي تمولها مؤسسات أو منظمات دولية كالمفوضية الأوربية والبنك الدولي ومنظمة العمل الدولية، إلخ. لذلك يمثل هذا السوسيولوجي نموذجا للخبير الذي يدرك المسافة التي ينبغي أن تكون بين السياسي والعالم، فهو يقدم الخدمة المقرونة بالإلتزام الذي لا يقبل الخلط بين ما هو سياسي وما هو علمي، الشيء الذي حرص العديد من السوسيولوجيين والباحثين على إبرازه(8)، ورغم محاولات بعض الفاعلين السياسيين استخدام الباحثين كخبراء كما قال بذلك "جاك رودريغيز"(9)، إلا أن ذ حمداش بوعيه السوسيوولوجي النقدي يدرك أن الذي يحرك الفاعلين السياسيين هو اختياراتهم وطموحاتهم السياسية الخاصة وطبيعة المؤسسة السياسية التي ينتمون إليها، ولذلك فهو لا يقبل أن يكون ارتباطه بهم مجرد واجهة لمعركة ما، فليست وظيفته المشاركة في المعارك الإنتخابية، بل المساهمة في نشر المعرفة.
نفس الإنتصار للخبرة عبر عنه زميله د المختار الهراس الذي يرى أن الخبرات المنجزة من طرف المؤسسات الدولية عبر باحثين اجتماعيين لها الأثر الكبير في عودة النشاط السوسيولوجي إلى المدرجات الجامعية. بل يرى أن هناك تكاملا بين الخبرة والبحث الأكاديمي، على خلاف النظرة السائدة التي تعتبر أنهما يقفان على طرفي نقيض يتحقق أحدهما على حساب الآخر(10).
العلاقة مع الطلبة: انغراس أخلاقيات البحث العلمي
لا يمكن إحصاء عدد الطلبة الذين يساهم الأستاذ الجامعي بشكل عام، في تأطيرهم بشكل مباشر أو ضمن مجموعات، أو بشكل غير رسمي (لقاءات خارج أسوار الجامعة)، فكم يعاني عدد من الأساتذة الباحثين من إشكالية تدبير حجم العلاقات المهنية التي تتراكم على الأستاذ سنة بعد أخرى، وفوجا بعد آخر من أفواج الطلبة والباحثين الشباب؛ الشيء الذي يدفع العديد منهم إلى نوع من المكتبية الباردة في تدبير تلك العلاقة. غير أن الأستاذ حمداش، وبشهادة عدد كبير من الطلبة الباحثين يطوق نفسه بالتزامات، يرى كثير من أقرانه أنه في حل منها، ولا داعي لها. فهو يحرص على إضفاء بعد أخلاقي ضمن هذه العلاقة الشيء الذي ينشأ عنه نوع من التقدير والإحترام لشخص الأستاذ. وهذا يعبر عن مسألة أخرى غاية في الأهمية وهي تشرب وانغراس أخلاقيات البحث العلمي لدى الباحث. الأمر نفسه أثناء ممارسة الخبرة، فنظرا لكثرة الدراسات والخبرات التي يجريها الخبير لصالح المؤسسات والهيئات، تجعله يصل لدرجة يفقد معها حميمية العلاقات بل وكلفتها أحيانا(11)، فإن الأستاذ حمداش، بناء عل حوارات عدة أجريتها معه، تبين أنه لايزال مرتبط بعدد كبير من العلاقات، مع أشخاص أجريت معهم أبحاث لصالح جهات معينة ولم يستطع أخلاقيا قطعها.
خلاصة القول يمثل نموذج عمار حمداش واحدا من النماذج السوسيولوجية المغربية التي ترى أن اشتغال الباحثين الجامعيين في ميدان الخبرة يغذي معرفتهم. كما أن مطلب استقلالية البحث العلمي في العلوم الاجتماعية التي يهتف من أجلها البعض، تأتي بدعم البحث الجامعي الأكاديمي، فسخاء الجهات الراعية في تمويل الخبرة، يقابل بشح في تمويل البحث الجامعي. كما أن الخبرة التي تنجزها المؤسسات الراعية تمثل تحديا معرفيا ينبغي أن يؤخذ بعين الإعتبار، خاصة وأن هناك حاجة مجتمعية للخبرة لا يمكن التغاضي عنها، لأنها مرتبطة بتطور مفهوم الدولة الحديثة. مع الحذر والتوجس من تسليع المعرفة. فالبحث الجامعي والخبرة، كلاهما ينجزان الدراسات ويوظفان نفس المرجعيات النظرية، وكذا المناهج وتقنيات البحث، لكنهما يختلفان في الاستراتيجيات والرهانات، وهو ما كان السوسيولوجي المغربي عمار حمداش واعيا به من وجهة نظرنا.
مصدر المقال:
- تجارب في الممارسة السوسيولوجية، مؤلف جماعي، تنسيق: نورالدين لشكر-ابراهيم بلوح، دار القلم، الرباط، المغرب، 2023.
المراجع:
1- للوقوف أكثر عند هذه النقطة يمكن العودة إلى المقال التالي:
- نورالدين لشكر، الباحث الجامعي والخبير، ملاحظات لتأمل حال الخبرة والبحث الأكاديمي في العلوم الاجتماعية بالمغرب، مقال، ضمن كتاب جماعي، مؤسسة مقاربات، من أشغال الندوة العلمية، ربيع العلوم الاجتماعية، جامعة محمد الخامس وجامعة الأخوين بإفران، أبريل 2021.
2- شارك الأستاذ حمداش في العديد من الخبرات والاستشارات من بينها:
- دراسة حول الجمعيات العاملة في الوسط القروي بالمغرب سنة 2006 لصالح المنظمة الديمقراطية الكندية.
- دراسة حول حاجيات التكوين عند الفاعل المدني بإقليم الغرب، سنة 2013 لصالح المبادرة الوطنية للتنمية البشرية
- دراسة حول أطفال الشوارع بالبيضاء سنة 2009 لصالح وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن
- دراسة حول نساء "الفراولة" لصالح جمعية شمل، بدعم من مؤسسة "الاوكسفام" والاتحاد الأوروبي.
- دراسة عن الوساطة الاسرية لصلح جمعية شمل، بدعم من الاتحاد الأوروبي
- دراسة عن النساء السلاليات سنة 2016 لصالح الرابطة المغربية لحقوق الإنسان، بدعم من المندوبية الوزارية لحقوق الانسان
- دراسة عن التحرش والعنف ضد النساء بالمنطقة الشمالية، لفائدة شبكة جمعيات التنمية بالشمال المغربي، بدعم من منظمة اسبانية.
3- أجرينا مقابلات علمية في إطار بحثنا للدكتوراه مع العديد من الخبراء ومن اختصاصات متعددة، وتبين أن الخبرة لم تكن عائقا أمام إنتاجهم العلمي بل كانت مغذية لهم.
4- مؤسسة متخصصة في إنتاج دلائل التكوين على القيم لفائدة المقاولات والمؤسسات التربوية والخدماتية، أنتج لفائدتها خمسة دلائل.
5- محمد الساسي، سوسيولوجيا المجتمع المغربي، مقال ضمن كتاب جماعي، مجموعة مؤلفين، تنسيق محمد الدريوش، منشورات فكر، مطبعة النجاح، 2015.
6- "الخبرة كتحد علمي" هي إحدى خلاصات أطروحتنا الجامعية.
7- للمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة يمكن العودة إلى:
- نورالدين لشكر، الهوية الإيديولوجية والمعرفية للبرامج التدخلية للمؤسسات الدولية: البنك الدولي نموذجا، مقال، المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية: قيم، العدد: 2، مكناس، المغرب، 2020.
8- من أبرزهم الانثروبولوجي عبد الله حمودي في كتابه المسافة والتحليل.
9- Les sciences sociales à l épreuve de l expertise, Daniel Benamouzig, Jean-Claude Barbier, Pierre-Yves Geoffard, Nicolas Duvoux, Dans Sociologie, Presses Universitaires de France, 2011/1 (Vol. 2), pages 91 à 105
10- الحوار الدائم بين الخبير وأبحاثه الميدانية وبين الجامعة والأكاديميين يؤدي إلى نتائج تم التفصيل فيها في مقال، "الباحث الجامعي والخبير..."، مرجع سابق.
11- تقنيات البحث الاجتماعي بين دراسات الخبرة والبحث الأكاديمي، مقال، مجلة أثيل، الجزء السابع، المغرب، 2023.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر أمني: ضربة إسرائيلية أصابت مبنى تديره قوات الأمن السوري


.. طائفة -الحريديم- تغلق طريقًا احتجاجًا على قانون التجنيد قرب




.. في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. صحفيون من غزة يتحدثون عن تج


.. جائزة -حرية الصحافة- لجميع الفلسطينيين في غزة




.. الجيش الإسرائيلي.. سلسلة تعيينات جديدة على مستوى القيادة