الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قضيتى .. وبيت القصيد الذى أتوق الى كتابته

منى نوال حلمى

2023 / 7 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


منذ أن وعيت انفصالى عن جسد أمى ، وأنا يشغلنى ويحيرنى معنى " الوطن ".
اكتشفت مبكرا أن هناك تشابها كبيرا ، بين " الأم " ، و" الوطن " . لكن معنى الوطن ، كان يظهر ويختفى ، يضئ ويظلم .
الأم ، والوطن ، كلاهما " رحم " .
فالانسان " يخرج " من رحم الأم ، و " يدخل " فى رحم الوطن . وحين يفقد الانسان أمه ، يعرف مذاق ألم ، وضياع ، وتشرد ، يكبر مع الزمن . وهذا أيضا ، حال منْ يفقد وطنه ، حيث يتجرع مع كل اشراقة شمس ، وهبوط الليل ، كأسا مُرة يطفو على وجهها خريطة الوطن .
ان معاناة الغجر ، أنهم بلا وطن ، ويقضون حياتهم فى الانتقال والترحال .
والانسان يرى أمه ، أروع أمهات الأرض . ويرى وطنه أجمل الأوطان ..
الأم مهما غلطنا فى حقها ، يظل حضنها الحنون مفتوحا لنا ، فى أى وقت . والوطن قد نهمله ، أو
نؤذيه ، لكنه دائما جاهز لاستقبالنا بالدفء والورود .
الأم لها رائحة .. والوطن له رائحة . مهما ابتعدنا ، تظل عالقة بثيابنا ، وجلدنا ، وأحلامنا ، تطير فوقنا
أينما تذهب خطواتنا ، لتحرسنا وتحمينا .
نحب الأم كما هى ، بعيوبها ومساوئها ، فى لحظات غضبها ولحظات رضاها . والوطن نحبه كما هو ، فى صحوه ومطره ، فى فقره وغِناه ، حزينا أو سعيدا ، أيام العواصف وأيام الروقان .
الأم ، لو أجرمت ، ندافع عنها . والوطن ننصره ظالما أو مظلوما .
من أجمل أقوال " ألبير كامو " 7 نوفمبر 1913 - 4 يناير 1960 ، " العدل قضيتى .. لكننى اذا
خُيرت بين أمى والعدل ، ساختار أمى ".
مهما امتد العمر بالأم ، نراها دائما فى ذروة الشياب ، والوطن رغم مرور آلاف السنين ، هو فى عيوننا ، شاب وسيم ، يجذب الفتيات ، وتقع النساء فى حبه . الأم لا تشيخ ، والوطن لا يشيخ . بل نحن الذين نشيخ اذا راحت الأم ، واذا راح الوطن .
لكن ما هو الوطن ، بالتحديد ، وبدقة ؟؟.
ما كنت على يقين منه ، أن الوطن ليس الأنظمة والحكومات والشعارات والتشريعات والدساتير والبرلمانات والبرلمانات والنشيد الوطنى ، والحضارات والعادات والتقاليد . الوطن ليس الديانة وبيانات البطاقات اللشخصية وجوازات السفر . فهذه أمور تتغير مع تغير الأزمنة .
لا أتفق مع " ميخائيل نعيمة " 17 اكتوبر 1889 - 28 فبراير 1989 ، حين قال : " الوطن عادة .. والبشر عبيد لعاداتهم ، ولذلك قسموا الأرض فيما بينهم ، الى مناطق صغيرة اسمها الأوطان ".
دعونى أسرد تجربتى الشخصية عن الوطن ، وربما من التجارب المتنوعة للبشر ، نكشف وجه الوطن ، أو بعضا من ملامحه .
بعد أن أنهيت دراستى الثانوية ، أردت أن أدخل جامعة القاهرة ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، قسم اقتصاد . وكان هذا القرار مستنكرا من زملائى وأصدقائى . قالوا لى : " حد يسيب الجامعة الأميركية ويروح جامعة القاهرة ؟ ".
وأدهشنى أيضا ، أن كلهم يداعبهم حلم مشترك بعد التخرج ، وهو العمل والاقامة والزواج وتكوين أسرة ، ومستقبل ، فى أمريكا وانجلترا وفرنسا وكندا .
" الحلم الأميركى " الذى كان ، ومازال يجذب عقول وقلوب الكثيرين من النساء والرجال ، لم يأتنى فى منامى ، أو فى يقظتى .
قرار أن أبقى فى مصر ، لم يكن يحتاج الى تفكير عميق ، أو غير عميق . كان طبيعيا ، مثل التنفس . هل نفكر قبل عملية الشهيق والزفير ؟؟.
ولم أجد أى منطق أو دافع ، وراء هذا القرار ، مثل حب الوطن ، و أن مصر أم الدنيا .
كل ما كنت أعرفه ، أننى لا أستطيع ، ولا أحب " تكوين نفسى " و " بناء مستقبلى ، الا فى مصر .
وعندما ذهبت الى " لندن " ، وحصلت على الماجيستير ، حدث الأمر بمحض الصدفة . لم أخطط له .
قضيت سنتين فى " لندن " ، من أجمل سنوات العمر . ورغم ذلك ، كنت أتعجل يوم اعداد حقيبتى ، والرجوع الى مصر .
لماذا التعجل ؟. فلم يكن عندى أى تخطيط للمستقبل ، ولم يكن لى حبيب ينتظر عودتى ، وأشتاق اليه .
عندما أعلن قائد الطائرة ، الاستعداد للهبوط فى مطار القاهرة ، ومن خلال النافذة الصغيرة ، رأيت معالم مصر تبدأ فى الظهور ، تسارعت دقات قلبى ، وأخذ العرق يتصبب من جبينى ، والرعشات الخفيفة تربك جسدى ، وهمست : " ما أحلى الرجوع اليه ".
على مدى مراحل العمر ، لفيت العالم ، شرقا وغربا ، شرقا وجنوبا .
لم أسافر أبدا ، للترفيه والتنزه . كنت أتلقى دعوات فى مؤتمرات عن المرأة ، والابداع ، والبيئة ، والقاء أشعارى ، فى الأمسيات الشِعرية .
كان من السهل جدا ، أن أستقر خارج مصر ، فى احدى المدن التى فتنت بها ، حيث أن لغتى الانجليزية تساعدنى ، وعاداتى وتقاليد وأفكارى ، ومزاجى ، وأخلاقى ، تتناغم أكثر مع النمط الأوروبى ، والأميركى .
ودائما كنت أندهش من الزوجات والأزواج ، الذين يقضون شهر العسل ، خارج مصر . لم أفهم أبدا العلاقة بين شهر العسل ، وبدء أيام الزواج .
" أنا مصرية " ، اذن من الطبيعى جدا ، أن يداعبنى " الحلم المصرى " ، وليس " الحلم الأميركى " ، أو
أو " الحلم الأوروبى ".
عمل الفلوس ، أو رفاهية العيش ، التى " تزغلل " العيون ، لم تكن تعنى لى شيئا . لم تكن " قضيتى " ، أو بيت القصيد الذى أتوق الى كتابته .
قلت لنفسى ، سأكون ناجحة ، وفى رفاهية اقتصادية ، لا دوشة ميكرفونات ، ولا قمامة متناثرة فوق الأرصفة ، الدين منفصل عن المجتمع ،لا فتاوى دينية تأمر بارتداء الحجاب أو النقاب ، لا تكفير دينى أو نبذ اجتماعى، ولا تشويه أو تجاهل اعلامى للكاتبات والشاعرات المتمردات ، لا تطفل على حياة النساء ، الكتابة تؤتى ثمارها ماديا ، وأدبيا ، نظام منضبط من الألف الى الياء ، فى كل الأشياء ، والمجالات ، أعيش بكامل حريتى ، وطاقاتى الكامنة ، لا تطفل على خصوصيات النساء ، أمارس هواياتى ، وأسمع وأشاهد الفنون الراقية ، واذا مرضت سأجد مستشفيات طبية ترعانى فورا دون أن أكون فاحشة الثراء ، واذا تعرضت لحادثة على الطريق أو فى المنزل ، سوف تأتى سيارة الاسعاف ، أو سيارة البوليس فى ثوان معدودة . وماذا بعد ؟؟؟.
أهذا كل شئ ، فى تحقيق السعادة ، والرفاهية ، والاستمتاع ؟؟. لا أعتقد . ستظل هناك
" حتة ناقصة " ، تنغص حياتى .
لا أستطيع أن أكون مجرد مستهلكة للتقدم فى بلاد أخرى . أريد وأحب أن أكون منتجة وصانعة ومحفزة للتقدم فى مصر . هذه هى المتعة الكبرى فى الحياة ، ومنها تنبع المتع
الأصغر الأخرى . وهذا بالضبط المعنى ، الذى كنت أبحث عنه ... أن تقدمى ، وتقدم الوطن ،
لا ينفصلان . هما وجهان لعملة واحدة ، اسمها " الوجود " .
كل مجتمع له مشاكله ، وكل شعب له ما عليه ، وكل حضارة لها عيوبها ، وكل ثقافة لها سلبياتها ، وكل بيئة لها أمراضها . هناك مشاكل ، وأزمات ، وأمراض ، وعيوب ، وسلبيات ، تدفع الناس الى الهجرة . كيف تتغير مصر ، الى الأفضل والأعدل والأجمل ، اذا كان أهلها يتركونها ؟؟. هل نستورد شعبا آخر ، ليغيرنا ؟؟. لا أحد يستطيع تحمل عيوبنا ، الا أنفسنا ، أصحاب العيوب أنفسهم .
كل انسان له دور ، لابد أن يؤديه ، تجاه الوطن الذى يحمل جنسيته .
فى مصر لست مرتاحة وراضية . لكننى مخلوقة بشكل يجعلنى أجد " نصف الراحة " ، أو " ربعها " ، هنا على أرض مصر ، أكثر متعة ، من الراحة "الكاملة" ، و " الرضا "
الكامل ، على أرض أخرى .
لم أرغب أبدا فى مثل هذه الأحلام " المستوردة " . كنت دائما أريد دائما ، ومنذ نعومة أظافرى ، حلما مغروزا فى تربة مصر ، مثل القطن المصرى .
ولأن الكتابة قدرى ، فهى مرتبطة ارتباطا عضويا حميما ، بالعيش فى مصر ، والاحتكاك المباشر بمشاكلها ، وأزماتها ، وأحداثها وتحدياتها ، والمشاركة الحية فى السراء والضراء .
هل من المعقول ، أن تخلو مصر من العمالة الماهرة ، وأصحاب الشهادات العلمية فى كل
التخصصات ؟؟.
لقد أجريت فى مصر ، ثلاث عمليات جراحية . وفى كل مرة ، لم أفكر فى اجراء أى منها بالخارج . قالوا لى : " الا بقى الصحة .. مافيش أغلى منها .. ألا تسمعين عن حال الطب والأطباء فى مصر ؟... روحى اعملى الجراحة بره ، واتفسحى شوية بعدها ".
أجريت الثلاث عمليات فى مصر . يا لها من فرحة ، وفخر ، أننى تعافيت على أيدى
أطباء مصريين ، وممرضات مصريات .
هناك النساء والرجال المصريين ، الذين صنعوا " حياة " ، ناجحة ، ومتحققة ، وسعيدة ، خارج مصر . لكننى لست واحدة منهم .
فرق كبير ، بين أن أعاصر بشكل حى ، يوميا ، ثورة 30 يونية 2013، التى أنقذتنا من بيع الوطن للقتلة والمجرمين النصابين ، المتاجرين بالأديان والأخلاق وتغطية النساء ،
وبين أن أشاهدها ، وأنا خارج الأحداث ، على شاشات التليفزيون فى لندن أو برلين أو باريس .
أنا المواطنة السمكة التى تموت ، اذا خرجت من ماء مصر .
امرأة أنا ، تبهرها الأهرامات ، وتمثال أبى الهول، وبرج القاهرة ، أكثر مما يبهرها الأكروبوليوس ، أو تاج محل ، أو برج بيزا المائل ، أو تمثال الحرية .
امرأة ، لا يرويها ، نهر الميسسبى ، أو نهر الدانوب ، أو نهر التيمز ، وانما نهر النيل الذى يشق طريقه ، يتحمل طول وعناء الطريق ، ليصل سالما ،الى بيتى ليروينى ، حاملا ، أفراحى ، وأحزانى .
أتذكر عندما كنت أستقبل أمى " نوال " فى المطار ، عائدة من السفر ، أول جملة تقولها لى ضاحكة ، وهى تأخذ نفسا عميقا : " رائحة الوطن يا مُنى ". أقول لها : " رائحة الوطن ايه يا ماما اللى مليانة تراب وعفار و طين وعرق ومعاناة وتعب ". نضحك ، ونمضى الى طريقنا ، سعيدتان برائحة الوطن ، التى نعيش ، ونموت وهى فى أنفاسنا ، رغم شدة انتقادنا لها . رائحة الوطن ، نرتمى فى أحضانها ، وان خنقتنا .
رحلت أمى ، " نوال " ، وتركت لى ضحكتها وكلامها .
رحلت أمى " نوال " ، وبقيت " رائحة الوطن ".
ما أجمل " فولتير " 21 نوفمبر 1694 - 30 مايو 1778 ، حين قال : " خبز الوطن خير من كعك الغربة ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: انتخابات رئاسية في البلاد بعد ثلاث سنوات من استيلاء ال


.. تسجيل صوتي مسرّب قد يورط ترامب في قضية -شراء الصمت- | #سوشال




.. غارة إسرائيلية على رفح جنوبي غزة


.. 4 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي لمنز عائلة أبو لبدة في ح




.. عاجل| الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى الإخلاء الفوري إلى