الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ديمقراطية العقول: عندما تنزع أمّ الزّين بن شيخة القناع عن دعاة عزل الفضاء العمومي عن الفلسفة

شكري بن عيسى

2023 / 7 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من أجل ديمقراطية العقول:
عندما تنزع أمّ الزّين بن شيخة القناع عن دعاة عزل الفضاء العمومي عن الفلسفة

بقلم: شكري بن عيسى (*)

ازدانت الساحة الفلسفية في تونس في أفريل 2023، عن دار أركاديا للنشر في 235 صفحة، باصدار جديد للدكتورة أمّ الزّين بن شيخة تحت عنوان "الفلسفة في الفضاء العموميّ: نحو ديمقراطية العقول". وهو كتاب غير تقليدي في فصوله ومضمونه ورهاناته ومراميه، لباحثة متخصّصة في فلسفة الفنّ، غارقة حتى النخاع في همّ الشأن العام السياسي والمشترك الانساني.

▪نصّ بإيقاع فلسفي عال

يصعب الحقيقة المسك بخيط ناظم لهذا النصّ العصيّ على التصنيف الذي أراد أن يكون سجاليا إحراجيا استفهاميا استشكاليا متنوعا متعدّدا، أكثر منه وحدة مضمونية متجانسة متناغمة.

هذا النص ولد في عمق واقع مركّب عنيد، لذلك كان بين ضفّتي الاستيعاب (الفهم والمسك) والمواجهة والرفض (التغيير الفعّال)؛ بين ضفّتي النّظري المعرفي والواقعي السياسي.

هذا النصّ عصيّ على التصنيف لأنّه يخرج عن الاعتيادي المتطابق مع المطلوب والمعايير والمتطابق مع تيمة محدّدة مضبوطة سلفا؛ فهو ترحال بين التيمات، بين الاستطيقي والميتافيزيقي والسياسي والايتيقي.

هذا النصّ عنيد في مواجهة التجانس؛ فهو لا يروم المعطى المسبق والهويّة الجاهزة والحلّ الدغمائي. بل يطمح أو يفرض أن يكون خصما للسّكون والثبات والوحدة كما الجمال والألق.

هذا النصّ متقطّع الأوصال ومزدحم المسالك، لا هاجس فيه لنيل الاعجاب والاستحسان، بل هو في عمقه صدمة وارباك وزعزعة لمن يبحث عن سكينة خادعة أو طمأنة زائفة أو رفاهة واهمة.

هذا النصّ المتعرّج الثنايا، حادّ التضاريس، لا يصالح مع المصلحة ولا يوائم مع الربح والفائدة، ولا يتوافق مع البراغماتي، ولا يهادن مع الليبرالي الاستهلاكي ومشتقاته ووعوده الزائفة بالسّعادة، بل يقرّ بالألم والتراجيدي ويفرض ارادة الخلق والمجازفة من أجل استرجاع الكرامة والحرية الأصيلتين.

هذا النصّ الوعر هو فضاء صقيل، فضاء النوماد، فضاء الهامش المقصي والمغيّب والمسلوب الحياة، لمواجهة السلطة -كلّ سلطة-، ولكن بالأساس لمواجهة الرأسمالية التي تصادر الحياة فينا وتلغي الفكر والفعل والقرار من داخلنا حتى تتحكّم بنا بكلّ فعاليّة.

هذا نصّ إيقاعي احتجاجي، معارض، مُواجه، ينطلق من الجدران المخصّبة بالغرافيتي، وساحات التظاهر وميادين الانتفاض، وصرخات المقهورين، وآهات المعذّبين ليلتحم بآلامهم، ولكن لينثر ثلاثي الفكرة والأمل والفرح للالتحام مع الغضب.

هو بالأحرى تقابل والتقاء والتحام جغرافي انفعالي فيزيقي مع الشريك في الهمّ، مع الشريك في الألم، مع الشريك في الانسانية -أينما كان-، ولكن إلتحام أيضا ايتيقي فكري عملي نشط.

ولذلك هو كسر للقوالب الجامدة التي تعزل الفكر عن الميدان والساحات والفضاءات العامة، وهو كسر للقوالب المتصلّبة التي تفصل الفعل والبراكسيس عن النظري الفكري؛ فهو التحام بين الفكر والارادة والفعل الذي مجاله وموقعه المناسب ولكن الحيوي الفضاء العمومي.

▪في جدليّة الفلسفة والفضاء العمومي

وهو اذا يرفع عنوان الفضاء العمومي، فهو يعلن أنّه مضمار المعركة وقطب رحاها، وأنّ الصّراعات والمواجهات والهيمنة والاستغلال والتغريب والتهجير والاقصاء والوصاية يدارون هناك بكلّ أدوات وخطط المخاتلة والتزييف والتضليل وتسطيح العقول وتغييب الوعي.

هو يعيد الاعتبار له لينبّه أنّه مناط استرجاع المسلوب من حريّة وحقوق وكرامة وسلطة وجدارة وخاصة إرادة وتفكير وأمل وإيمان بالممكن، بالمشترك الانساني المتجذّر فينا.

هو يعيد الاهتمام الشارد الى اتجاهه، والمجال التائه الى موقعته، والزمن المختلّ الى محوره، والسفينة الضائعة الى بوصلتها: إنّه الفضاء العام أحد مشتقات الفضاء (ككلّ) الذي هو ما-قبليّة a priori المعرفة وما-قبلية a priori التفكير بل ما-قبلية a priori الوجود؛ فالعالم مقولة سياسية مركزية لدى أحد أقطاب الفلسفة السياسية حنّه أرندت.

هو مجرّد إعادة وتصويب، ولكن لانحراف عميق، فالوجود الإنساني مناطه الفضاء الطبيعي، والوجود الإجتماعي مناطه الفضاء العمومي، من مدينة أرسطو الجامعة للسوق والساحة العامة والتداول والخطب والنقاش والشعر والمحاكمات، التي جعلت الإنسان حيوانا سياسيا، الى السّوق الحديثة والمسجد الى الاعلام ومنابره الى ميادين التجمعات والتظاهرات والاحتجاجات.

والحقيقة أنّه لا فعل بدون فضاء ممارسة أو تَمَثُّلاً، كما لا فكر بدون فضاء فهو الأساس المنطلق وهو المرجع المآل؛ ولذلك فهو مناط الفلسفة، بل مجالها ومرتكزها، وحتّى التأمّل والخيال "المحض" لا يمكن أن ينقطع عن الفضاء، وإذ يبتعد عنه حدّ التخلّص منه فهو يظلّ منطلقه ومرجعه.

ولذلك فالعلاقة جدليّة بل عضوية بين الفكر عامة والفلسفة خاصة والفضاء العام، بل يكادان يكونان موقعة ميتافيزيقية واحدة، والفصل بينهما هو ثغرة قاتلة في هذا الانساني لاستجلابه للفضاء السحيق الآخر؛ فضاء القهر والظلم والهيمنة والوصاية والاستغلال.

إنّ فصل الفضاء العمومي عن الفكر والفلسفة هو سلب لملكات الحريّة والإرادة والحكم والفكر، إنّه سلب لإنسانية الانسان قصد اخضاعه والتحكّم فيه؛ ولذلك دوما شبكات الهيمنة والاستغلال هي أوّل من يستهدف هذا الربط.

▪مواجهة الأذرع "الفكرية" لشبكات النفوذ

والأنكى أنّها (شبكات الهيمنة) تعتمد أذرعتها وأبواقها من داخل الفضاء الفلسفي (ممّن سمّاهم باسكال بونيفاس المثقفون المزيّفون les intellectuels faussaires) للتصدّي والهجوم والتشكيك حتى تستمرّ حال الاخضاع والاستضعاف للمهمّشين والمقصييّين.

وهذا هو مناط الصراع الأوّل والمركزي، فاذ ينصب اهتمام الكتاب على الجمهور في الفضاء العام لاستثارته واستدراجه نحو مشترك الحريّة والكرامة والفعل من أجلهما، فمركزه هذه الحصون الشديدة من أصحاب المال والنفوذ والسلطة وخاصة حماتهم الذين يدّعون حمل لواء الفلسفة وهي منهم متنصّلة.

▪في جدلية الفضاء العمومي وديمقراطية العقول

وهذا مناط مهمّة الفلسفة في تنوير العقول وإعادتها لموقعها في التفكير والشأن العام في الفضاء العمومي من أجل استرجاع الحق في القرار وتقرير المصير المشترك، وذلك جوهر الديمقراطية وهو ما يطمح اليه هذا الكتاب، لمؤلّفته الفيلسوفة المشتبكة أمّ الزين بن شيخة، لأجل إرجاع الفكر عامة والفلسفة خاصة الى مجالها الحيوي، فضائها الأصلي، وربط هذا الفضاء بالفكر والفلسفة بفكّ ارتباطه بالزيف والتضليل والانفعال والسّلعنة الرأسمالية.

وهنا مركز العنوان الفرعي "نحو ديمقراطية العقول" في مواجهة انغلاق العقول وتحنّطها وتعفّنها وفسادها.

فوحده المشترك المستنير بالعقل العمومي، المستند على مرتكز الفضاء العمومي، هو الذي يكسر مع التقهقر الى العبودية في أشكالها التقليدية المادّية بالأساس، أو الحديثة الأشدّ مكرا، التي تسطو على العقول بفاعلية وهي الأكثر خطرا.

▪فضح دعاة عزل الفضاء العمومي عن الفلسفة

إنّ نشر أثر فلسفي جديد هو حدث ميتافيزيقي فريد ينضاف لعالم المعرفة والتدبّر ؛ مثل ولادة نجم يتألّق في سماء مرصّعة بالنجوم المنيرة؛ يحتفي به الباحثين عن ألق اللقاء وسلوان المرافقة؛ ولكن يضيق به من تنغلق أعينهم بشعاع الضياء وتعجز عن استيعاب الجرعات القويّة من النّور. وقد تضيق الصدور بما فيها من ضيق فلا تعكس الاّ حال صاحبها.

وإنّ ما نشرته أمّ الزين بن شيخة في كتابها "الفلسفة في الفضاء العمومي: نحو ديمقراطية العقول" قد أحدث كلّ ذلك الأثر بين الاحتفاء والسرور، (بالرغم أنّه لا ينشد ذلك اذ هو زعزعة للمسلمات والمركزيات)، وبين من ضاقت أعينهم عن رؤية هذا النبع الجديد للنّور خاصّة من أحد مدّعي حبّ الحكمة، ولكنه في الحقيقة من صفّ الأوصياء على عقول الناس وضمائرهم، وهذا الكتاب يأتي لنزع أقنعتهم.

(*) باحث في الفلسفة السياسيّة المعاصرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال


.. روسيا تواصل تقدمها على عدة جبهات.. فما سر هذا التراجع الكبير




.. عملية اجتياح رفح.. بين محادثات التهدئة في القاهرة وإصرار نتن


.. التهدئة في غزة.. هل بات الاتفاق وشيكا؟ | #غرفة_الأخبار




.. فايز الدويري: ضربات المقاومة ستجبر قوات الاحتلال على الخروج