الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجريمة والفصام

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2023 / 7 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كما هو العادة في مثل هذه الحالات، حالة الإنسان المنغلق على ذاته والذي لا يرى سوى أهدافه ومشاريعه الشخصية، ولا يرى الآخرين إلا كوسائل لتحقيق هذه المشاريع، هذه النماج الغريبة من البشر عادة ما ترى نفسها كضحية لمحيطها الذي لم يكن ملائما لها. جان كلود رومان، حاول أثناء المحكمة أن يصور نفسه كضحية لعائلته وللمجتمع الذي "أجبره" على الكذب والإحتيال، والحياة طوال عشرين عاما حياة مزيفة. وحاول أن يصف للمحكمة عذابه اليومي طوال هذه السنوات من العزلة والوحدة المطلقة. ففي كل يوم، بعد أن يأخذ الأطفال إلى المدرسة، عليه أن يجد وسيلة لقضاء هذه الساعات الطويلة التي تفصله عن موعد رجوعه إلى البيت، فكان يجد نفسه وحيدا، وتعيسا جالسا في سيارته على الطريق أو في إحدى الحدائق العامة او الكافيتيريات أو في إحدى المكتبات العامة، مع الخوف الدائم من أن يلتقي بالصدفة بأحد معارفه أو جيرانه. فمكتبه، كما يقول كان يتغير حسب الظروف الجوية، حسب الأيام المشمسة أو الممطرة، حسب البرد والحرارة وقوة الرياح والعواصف. غير أن كل هذا القلق والتعاسة التي كان يعاني منها، جعلته ينغلق أكثر فأكثر على ذاته المزورة ويرفض، بل ولا يفكر مطلقا في التخلص من هذه النسخة والعودة إلى شخصيته الواقعية والحقيقية. وفي اليوم الذي خرج فيه جان-كلود من المستشفى، ودخل السجن، في هذه اللحظة أصبح جان-كلود، المواطن الذي قتل زوجته وأطفاله ووالده ووالدته والكلب البريء، شخصا واحدا هو والدكتورالباحث وطبيب القلب، انتهت عملية الإنفصال المزعومة بين شخصيتين تتواجدان في نفس الجسد، وأصبحت له شخصية ثالثة في الصحافة والإعلام وبين رفاقه السجناء وهي شخصية الطبيب المزيف. وفي ٢ يوليو حكمت عليه المحكمة بالسجن المؤبد، ودخل السجن المركزي في سان مور Saint-Maur, قرب مدينة شاتورو Châteauroux، وكان معروفا كسجين مثالي، طيب وحسن السيرة والسلوك، ويعالج زملاءه السجناء مجانا. وقد قدم طلبا لإطلاق سراحه بشروط في سبتمبر 2018، ورُفض طلب الإفراج الأول هذا في فبراير 2019 لأن "عناصر المشروع المقدم وشخصية السجين لا تضمن التوازن العادل بين احترام مصالح المجتمع وحقوق الضحايا و إعادة دمج المحكوم عليه في الحياة العامة ". وأخيرًا ، في 25 أبريل 2019 ، قبلت محكمة استئناف مدينة بورج Bourges الإفراج المشروط عن جان كلود رومان ، والذي تم في 28 يونيو 2019.
وفقًا للعديد من زوار السجن ، كان جان كلود رومان قد شهد تحولًا دينيًا وروحيا في السجن. في 25 أبريل 2019 ، بعد 26 عامًا في الاعتقال ، أفرج عنه بشروط ، وأفرج عنه قبل 28 يونيو تحت المراقبة ، مع التزام بارتداء سوار إلكتروني لمدة عامين. كما أنه ممنوع من التحدث علانية عن جرائمه. هذا البيان يخضع أيضًا لمدة عشر سنوات لتدابير المساعدة والمراقبة "، وفقًا للبيان الصحفي الصادر عن ماري كريستين تاراري ، المدعية العامة في بورج. في نهاية فترة الاختبار، سيتعين عليه الاستقرار "في مكان مرخص له من قبل السلطة القضائية" ، والامتناع عن الاتصال بالضحايا والأطراف المدنية، وليس له الحق للذهاب إلى المناطق التي ارتكب فيها أعماله الإجرامية. وقد عاش مع الرهبان البينديكتين bénédictins في دير نوتردام دي فونتغومبولت Notre-Dame de Fontgombault، حتى يونيو 2021 ، نهاية فترة الاختبار.
ولا شك أن العديد قد يفكرون في رواية الكاتب الإسكتلندي روبرت ستيفنسون Robert Louis Stevenson، القضية الغريبة للدكتور جايكل والسيد هايد Strange Case of Dr. Jekyll and Mr. Hyde والمعروفة تحت إسم «الدكتور جايكل والسيد هايد» وهي رواية نُشرت للمرة الأولى عام ١٨٨٦، وتدور أحداثها حول محامي يقطن لندن يُدعى السيد أترسون يقوم بالتقصي عن أحداث غريبة تقع لصديقه وغريمه القديم الدكتور هنري جيكل و شخصية أخرى معروفة بإسم السيد إدوارد هايد. يرتبط العمل عمومًا بحالة نفسية نادرة أحيانًا ما يُطلق عليها بطريق الخطأ «انفصام الشخصية»؛ حيث يوجد بداخل الشخص الواحد أكثر من شخصية مختلفة تتصارع فيما بينها، وفي الحالة التي تطرحها الرواية، توجد بداخل الدكتور جايكل شخصيتان مختلفتان تمام الاختلاف ومتناقضتان من الناحية الأخلاقية، إحداهما طيبة في الظاهر وتتبع القوانين الإجتماعية والأخلاقية المتعارف عليها للبرجوازية الإنجليزبة، والأخرى متمردة على هذه القيم والأعراف. والدكتور جايكل هو الذي خلق السيد هايد، وذلك لأنه كان مفتونا بفكرة تغيير حياته وتجربة أحاسيس أخرى تتعلق بأفعال لم يتعود القيانم بها. ولكن هناك إختلاف كبير بين شخصية الدكتور جايكل والدكتور رومان. الدكتور جايكل والسيد هايد يعيشان علاقة متناقضة ومتوترة، وكل منهما يريد أن يتحكم في الآخر ويستولي على حياته. بينما جان-كلود رومان الأصلي، طالب كلية الطب كان يريد بكل إرادته أن يكون الدكتور جان-كلود رومان الباحث والأكاديمي المتخصص في أمراض القلب. المجتمع هو الذي لم يتقبل هذه النسخة، لأنها لا تناسب المواصفات الإجتماعية العامة، وهي شخصية غير حقيقية ولا وجود لها لا إداريا ولا قانونيا، وغير مسجل في أية قائمة من القوائم، رغم وجودها إجتماعيا بطريقة مزورة لمدة عشرين عاما.

ملاحظة أخيرة:
ينتشر اعتقاد لدى الكثيرين بأن مرضى انفصام الشخصية أو الشيزوفرينيا يعانون من عدة شخصيات مختلفة، ولكنه اعتقاد غير صحيح فتعدد الشخصيات هو اضطراب نفسي مختلف يطلق عليه اضطراب الهوية التفارقي (Dissociative Identity Disorder)، ينطوي على معاناة المريض من فقدان ترابط أفكاره، وذكرياته، ومشاعره، وتصرفاته، وإحساسه بهويته، وهو ما يؤدي إلى ظهور شخصيتين مختلفتين أو أكثر تتحكم في تفكير المصاب وسلوكياته لكل منها هوية، وعمر، وعرق، وجنس مختلف. جان كلود رومان لم يكن يعاني من أي مرض نفسي لا باشيزوفرينيا ولا بالإضطراب التفارقي، ولكنه كان يعاني من مرض إجتماعي، هو مرض الجدية المفرطة الذي تعاني منه البرجوازية الفرنسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و